الشعر ... والسحر
هذا جزء اقتطعته مما كتبه أمس تحت عنوان (جناية الفن على لغة الضاد)،خشية الإطالة .. كأنني لم أطل على (المتصفين)؟!!الحديث عن الشعر،ليس أكثر من امتداد للحديث عن اللغة العربية،فهي المادة الأولية لبناء الشعر، والشعر يدور في فلكي اللغة،استشهادا،واستعذابا،وهو البيان الذي يتجلى فيه السحر. فلا يقتصر الأمر على هذا التقارب اللافت للنظر،بين (شعر) و (سحر)،ولكن الحبيبr، يقول : ( إن من البيان لسحرا). فأين البيان ما لم يكن في (طلاسم) الشعر؟!! - ولا يعني "الطلسم"هنا الغموض أبدا - دون تبسيط ليس الشعر أكثر من (طلسمة) للكلام .. وضع كلمة إلى جوار أخرى،يصنعان ذلك (الطلسم) الذي يولده الشعر... ويد تمتد نحوي ... كيد من خلال الموج مدت لغريق أي سحر في (كيد لغريق مدت من خلال الموج)؟!! أو في ( كيد مدت لغريق من خلال الموج)؟!! لم تكن في نيتي الكتابة عن الشعر،لو لا أنني استمعت إلى محاضرة ألقاها أخونا الدكتور ناجي حين،على طلاب الجامعة الإسلامية،حول معالجة الضعف اللغوي عند الطلاب. وقد أوصى في نهاية المحاضرة ببعض التوصيات،ومنها حفظ الشعر الجميل،والاهتمام به،وكذلك حفظ بعض النثر الجميل،والعبارات المنتقاة ..الخ.أول ما تبادر إلى ذهني عبارة لافتة تسكن في زاوية من الذاكرة،ولكنها لم تكن مناسبة للموقف،ونحن في رحاب،أو ضيافة الجامعة الإسلامية. والعبارة المعنية،لأديب العربية اللافت،والذي نرى أنه لم ينل حقه من الذكر،وهو في قامة أدباء العربية الكبار،العقاد،وطه حسين،ونعني مارون عبود. والعبارة المذكورة :(دخلت الجامعة وأنا جاهل بلا ورقة،وخرجت منها جاهلا بورقة).أما الشعر فأول ما تبادر إلى ذهني سؤال صغير،وما أكثر أسئلتي الصغيرة،هل ثمة (مؤامرة) على اللغة العربية،من قبل من يضعون مقررات الأدب العربي؟!!!!! قد لا يكون السؤال جادا،أو هو غير جاد على الإطلاق،ولكن المقصود أن الشعر - ليس الشعر فقط،بل كل فن جميل،كلام ربنا المعجز،أو نثرا من قول حبيبهr،أو من عامة ما يستعذب من رائق الكلام - يُفترض،أن يكون (مغناطيسا) نجتذب به قلوب الطلاب إلى لغتهم الجميلة. ولكن الواقع أن معظم الشعر الذي اطلعنا عليه في المقررات الأدبية،يبدو كأنه وضع لتنفير الطلاب من الشعر،ومن اللغة العربية كلها!!!أقول ذلك بصفته رأي (مستهلك) للشعر،فقد التحقت بالدراسة في سن متأخرة،وكنت أحب،وأحفظ الشعر،ولكن النماذج التي كانت تقرر علينا،لم تكن،في الغالب،تحبب في الشعر،ولا في اللغة العربية،وكنت أجد صعوبة في حفظها،وأفضل أن أحفظ خمسين،بيتا خراج المقرر على حفظ أبيات قليلة مقررة!!!كان باستطاعة من وكلت إليهم مهمة وضع مقررات الأدب العربي،أن يختاروا من جميل القول ما يجذب الطلاب،من شعر رشيق العبارة، قد وزن على البحور الخفيفة،الراقصة. وهنا تحضرني أبيات أحفظها من زمن بعيد،وكنت أقول حين أرويها،حُق للدكتور طه حسين،أن (يشك) في الشعر الجاهلي!! فتلك الأبيات التي رثت بها - كما يُروى- السيدة الفاضلة (السلكة)،ابنها العداء السليك بن السلكة،وتلك الأبيات تقول :
طاف يبغي نجاة = من هلاك فهلك
ليت شعري ضلة = أي شيء قتلك
أمريض لم تُعد = أم عدو ختلك
والمنايا رصد = للفتى حيث سلك
كل شيء قاتل = حين تلقى أجلك
إذا كنا نجد شعرا خفيفا في العصر الجاهلي،فنحن على يقين أن العصور الأخرى،فيها من الشعر الخفيف المطرب الكثير،بقدر ما فيها من الشعر الصعب،المعقد مثل :
إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنقاخ والعوطبيس
لا يتوقف الأمر على الشعر الخفيف فقط،بل هناك الشعر الفكاهي،وهو باب مستقل وجذاب،ولا يخلوا بعض النثر من الفكاهة. أضرب مثالا على ذلك بهذه المحاكاة لخطبة الجمعة.عارض الشيخ يوسف الشربيني خطبتي الجمعة فما قال في الخطبة الأولى :(الحمد لله مستحق الحمد على التحقيق،الذي وفق بين الفرج والضيق،وأمر بالحج إلى بيته العتيق،وجعل السمن البقري لعسل النحل رفيق،أحمده حمد من عنده من الجوع دسيسة،وأغاثه الله بقصعة من البسيسة،بالفطر الرقيق،فملا منها بطنه وأحسن بالله ظنه،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،شهادة تحمي قائلها من الضيق،وأشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الناطق بالصدق الموصوف بالحق والتحقيق.أيها الناس مالي أراكم عن الزبدة بعسل النحل غافلون،وعن الأرز المفلفل باللحم الضأني تاركون،وعن البقلاوة في الصواني معرضون،وعن الأوز السمين والدجاج المحمر لا هون،فاغتنموا رحمكم الله هذه الموعظة،ودعوا أكل المغلظة،كالعدس و المدمس و الفول الحار.وقال في الخطبة الثانية :"الحمد لله مزيل الحزن،ومزين الأرز باللبن،وأشهد أن اللحم الضأني سيد الأطعمة ومصلح للبدن،واعلموا أن القشطة لا تترك،وأن المهلبية أحسن وأبرك){ص 198 – 199 (الفكاهة في الأجدب) / د. أحمد الحوفي}.الحديث عن الشعر قد يطول،لو أرخيت لنفسي العنان،ولكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من مشاركتكم هذه القصيدة،والتي نشرها،قبل سنوات،الأستاذ عبد الله خياط،متسائلا عن قائلها :
إلى اللقاء حبذا إلى اللقاء = وحبذا من فيك ترديد النداء
فيه عزاء في النوى أي عزاء = فيه رضاء وجزاء ووفاء
إلى اللقاء أحرف منورة = إلى اللقاء همسة معطرة
جديدة قديمة معمرة = عبلة يوما أسمعتها عنترة
ذا يومنا يرنو بشوق لغد = بوده لو يسبقه في الأبد
فيدرك الموعد قبل الموعد = ويحتوينا في لقاء سرمدي
إلى اللقاء حلوة كالعسل = إلى اللقاء مرة كالحنظل
هي انتهاء للقاء الأول = هي ابتداء للقاء المقبل
لو شئت قلت إنها صوت البشير = أو شئت قلت إنها صوت النذير
فيها من الضدين ظل وهجير = فيها على إيجازها نار ونور
فيها ربيع رائع منه العبق = فيها خريف ذابل فيه الورق
فيها فراق بين متاهات الغسق = فيها لقاء بين أحضان الشفق
إلى اللقاء فكرة لفكرة = إلى اللقاء خطرة لخطرة
لا تطيلي لا تطيلي هجري = فإن يومي في النوى بعشرة
وهذا (بلاغ) آخر،فمن يعرف قائل هذه القصيدة؟!!أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة