كسر شوكة الإسلام هدفهم ..
الأسرة المسلمة في فخ العولمة
القاهرة: هناء محمد

العولمة.. النظام العالمي الجديد.. القرية الكونية.. الشرق الأوسط الكبير.. مصطلحات مختلفة، اتفقت على هدف مشترك.. وهو كسر شوكة الإسلام، وهدم نظام الأسرة التي يتفرد هذا الدين العظيم برؤية عبقرية لها عجز الغرب، رغم عراقة حضارته، عن تطبيقها. وتقع المرأة في مركز دائرة الأسرة لتصبح المستهدفة الأولى بمخططات تحاك بليل لسلخها عن هويتها العقيدية، وتطويعها ثقافيًا لمقتضيات العولمة.

ورغم أن مصطلح العولمة قد شاع على الساحة الثقافية في العقدين الأخيرين، فإن تأسيسه الفعلي بدأ منذ عام 1965م في اجتماع المجمع المسكوني الثاني الذي نص على توحيد الكنائس تحت كاثوليكية روما لجمع صفها في مواجهة الإسلام واقتلاعه في عقد التسعينيات.
وفى عام 1978م انعقد المؤتمر المسكوني الثاني في كلورادو، ونوقش فيه أربعون بحثًا حول منافذ التسلل لتنصير المسلمين، وكانت المرأة والأسرة المسلمتان في مقدمة هذه المنافذ؛ استغلالاً لجهل بعض النساء بدينهن، وعدم حصولهن على حقوقهن كاملة، كما منحها لهن الإسلام، فضلاً عن سوء فهم بعض الرجال والمجتمعات لموقف الإسلام من المرأة، ومن ثم معاملتها بدونية، فكانت هذه الظروف مناخًا مهيئًا لتغلغل الفكر العلماني في نسيج الأسرة المسلمة، عبر عدة آليات يخدم بعضها بعضًا هي:
1 التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية النسائية لتكون أداة لتمرير مخططات العولمة.
2 الضغوط الاقتصادية لتفعيل وتنفيذ توصيات الاتفاقات الدولية الخاصة بالمرأة، ومقررات مؤتمرات الأمم المتحدة التي تروج للشذوذ ولأشكال من العلاقات المثلية التي تطلق عليها زورًا "أسرة"، كما تطالب برفع سن الزواج في مقابل خفض سن الممارسة الجنسية .
3 تسليع المرأة واستخدامها كوسيلة تسويقية، والتركيز عليها كأنثى في أغاني العرى الفاضحة.
ويلاحظ أن الآليتين الثانية والثالثة مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، فمن خلال تشديد وثائق مؤتمرات المرأة على إلغاء التحفظات الدينية أو القيمية، ووصفها للدين بأنه مجرد نسق تراثي نابع من تقاليد المرأة الفقيرة، وكذلك النظر إلى الزوجية والأمومة على اعتبار أنهما من أسباب قهر المرأة، وإلى العمل المنزلي كجهد غير مربح، من خلال هذا كله وغيره وصل إلى المرأة مفهوم مغلوط عن الحرية، يجعلها تقبل التسليع، بل وتسعى إليه.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض نساء المسلمين تحولن إلى أبواق لترويج مخططات العولمة، وبرامج الأمم المتحدة، واستراتيجيات تحرير المرأة عبر التطاول على ثوابت الدين، والمطالبة بإلغاء بعضها مثل: نظام الإرث، وشهادة المرأة والعدة، وقد شهد مؤتمر "مائة عام على تحرير المرأة" الذي عقد في القاهرة عام 2000م مواجهات ساخنة بين العلمانيات والإسلاميات، بعد أن جاهرت بعض العلمانيات بهذه الأفكار، ووصفن الدين بأنه "عائق أمام تحرر المرأة وتحقيقها لذاتها"!


المرأة المسلمة بين تشدد والانحلال


والواقع أن التطرف العلماني في النظر إلى قضية المرأة والأسرة هو وجه واحد من نظرتين تتمزق المرأة المسلمة بينهما. والتطرف الثاني هو النظرة الضيقة المتشددة للمرأة، واعتبارها تابعة للرجل مجردة من الحقوق لا تتمتع بشرف المشاركة في تنمية وإصلاح مجتمعها، ولعل أوضح صورة لهذه النظرة مقولة: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات طوال حياتها: من رحم أمها، وإلى بيت زوجها، ثم إلى القبر.
وبين هذين النظرتين تقع نظرة الإسلام الوسطية المعتدلة، التي تجمع بين احترام خصوصية المرأة كأنثى، والاحتفاء بها كإنسان في الوقت نفسه، تلك النظرة التي تسعى العولمة إلى تغييبها، والتعتيم عليها، وإحلال نظرة منفلتة متحررة من كل الضوابط مكانها.


انعكاسات العولمة على الأسرة المسلمة


يكشف التأمل الدقيق لأوضاع معظم الأسر المسلمة اليوم عن فجوة عميقة بين الصورة التي يرتضيها الإسلام لها، وواقعها الحالي، وذلك بسبب تسرب قيم العولمة إلى صميم الأسرة، لتصبح أهم ملامحها:
1 التفكك: فقد صار التماسك والترابط في كثير من أسرنا أثرًا بعد عين
2 النفعية: فلم تعد مصلحة الأسرة ككيان واحد تهم أفرادها، بل أصبح كل منهم أسير مصلحته الذاتية.
3 شيوع العقوق: فالبر والولاء للأبوين لم يعد قيمة متجذرة في نفوس الأبناء، الذين تحولت نظرتهم لآبائهم من التقدير إلى الاستهزاء، وصاروا يعتبرونهم متخلفي التفكير.
4 اختلال معايير الأبوة والأمومة: فكثير من الآباء يختزلون دورهم في الإنفاق متخلين عن مسؤولياتهم التربوية، وأدوارهم المعنوية في حياة أبنائهم، أما الأمهات فصرن يعتبرن أمومتهن عبئًا وتضحية غير مبررة، وأن أعمارهن التي أنفقنها داخل أسرهن ضاعت سدى.
5 تفسخ علاقات الجوار: فكم من أسر تتجاور في السكن ولا يعرف بعضها بعضًا، وقد يلتقون قدرًا في المصاعد أو أثناء صعود السلم، فلا يتبادلون حتى التحية، ولم يعد الجار يتفقد أحوال جاره، ويتحرى احتياجاته، بل صارت كل أسرة جزيرة معزولة عن غيرها.
6 انهيار قيمة الكبير: فالمسن الذي كان شيخ الأسرة وحكيمها ورأسها، صار ينظر إليه على أنه عبء وتراث يجب أن ينزوي في ركن؛ لكيلا يعطل مشاريع باقي أفراد الأسرة، ودخلت بيوت المسنين ضمن ثقافة المجتمع، بعد أن كان ينظر إليها كعار وشيء مشين. وتراجعت صورة الأسرة الممتدة التي يمثل الجد أو الجدة عمودها، كما انتشرت ظاهرة مسنِّي الشوارع الذين لا يجدون مأوى، أو الذين يعملون في مهن شاقة رغم شيخوختهم.
7 انتشار الجريمة الأسرية: فقتل الآباء للأبناء والأبناء لأمهاتهم وآبائهم، والأزواج للزوجات والعكس، وزنا المحارم وغيرها من الجرائم التي تقع في نطاق الأسرة الواحدة أصبحت عناوين شبه ثابتة في صفحات الحوادث.
8 صعود ثقافة الثراء بلا جهد: فمسابقات الهاتف السطحية، وشهادة المليون، وكوبونات السلع الغذائية وغيرها تكريس للخمول والوهن، والتقاعس والقعود، ولقيمة تحقيق الثراء بلا أدنى جهد، وانتظار الفرص دون السعي إليها، وكلها مفاهيم صدرتها لنا العولمة المرتكزة على تقديس المادية والفردية والانتهازية والكسب السريع.
9 غياب المفهوم الحقيقي للحرية: فبينما يطرح الإسلام قيمة الحرية الملتزمة بضوابط الشرع في إطار قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" أفرزت العولمة فهمًا فوضويًا للحرية التي تجاوزت المسلك الشخصي إلى السلوك الجنسي، فبدأ الإعلام يروج لفكرة الملكية الخاصة للجسد، وعدم ارتباط عذرية الفتاة بالبكارة. وبدأت بعض الأفلام تقدم شخصية المثلى أو الشاذ، وتدافع عن اختياره.
10 النظر إلى الالتزام الديني كقيد: فكثير من الآباء والأمهات أصبحوا يعتبرون اتجاه أبنائهم نحو التدين قتلاً لفرصهم في العمل والحياة، وساعد على ذلك ما تلاقيه المحجبات من صعوبات في الحصول على وظائف، فضلاً عن الاضطهاد والملاحقة الأمنية لأبناء الحركات الإسلامية، مما جعل الدين يتحول إلى مجرد طقوس تعبدية لا انعكاس لها على سلوك الفرد وأخلاقه، وهذا هو صلب أهداف العولمة، تنحية الدين عن الحياة، وفصله عن تفاعلات الحياة اليومية وحبسه في دور العبادة.
11 الأخذ بفكرة مراكز إيواء المعنَّفات: هذه الفكرة مهدت لها وثائق الأمم المتحدة الخاصة بالعنف ضد النساء، ويمثل وجودها في بعض الدول العربية طعنة في مقتل لقيم التكافل الاجتماعي والحلول الإسلامية للمشكلات الأسرية، وتكريسًا للعداء المزعوم بين الرجل والمرأة، وفصمًا للعلاقات الأسرية، خاصة إذا ارتبط الإيواء ببرامج فكرية وثقافية لتزييف وعى من تؤويهن هذه البيوت، وتعبئتهن بأفكار تدعو إلى التمرد على الأسرة ورفض الانصياع للقيود الاجتماعية والأخلاقية وهو عين ما ترمى إليه العولمة.
ومن هنا يتضح لنا أن العولمة لا تقتصر على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها، بل إنها أخذت فعلاً تعمم القيم الثقافية التي تكوّن لب حياة المجتمع، وبخاصة القيم الأخلاقية.
والثقافة التي تملك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت، مما يؤدى إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق، وخاصة عند الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد، والحصانة الذاتية، فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة، وأغان ورقص، وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة، مما يؤثر تأثيرًا واضحًا على المعتقدات والقيم .
وربما أدى هذا الاكتساح للقيم، وهدم العلاقات الأسرية، والهجوم على المرجعيات والقيم الثقافية إلى رد فعل، يتمثل في تفجير أزمة الهوية فيرجع الناس إلى التقاليد القديمة والعصبيات القبلية أو القومية الضيقة، التي تؤدى إلى سلوكيات، ربما تكون أسوأ مثل التطهير العرقي، والاحتماء المتشدد بالثقافة القومية، وعدم الانفتاح
مجلة المجتمع