سَــــرْنَمَــــاتُ وَلِــــــــيدٍ النَّبْهَــــــــانِيِّ

أَرْبَعُونَ حَقًّا سُمِّيَتْ أَبَاطِيلَ

للدكتور محمد جمال صقر

قيل وأنا صَبيٌّ أُنْصِتُ: إن المخدَّر يبوح بما ينبغيألا يبوح به؛ فلما احتاج الطبيب إلى تَخْدِيري لجأتُ إلى أمي خائفا على أسراري،فما زالت تَعُدُّها عَلَيّ؛ فكيف بالمُسَرْنَمِ! زعم وليد النبهاني في حاشية اسمكتابه ذي الأربعين سرنمة (أُقْصُوصَةً)، عن "معجم الفلسفة" متصرفا- أنالسرنمة "رد فعل عصابي يغادر فيه النائم سريره وينهمك في مظهر من مظاهرالنشاط يعتقد أنه يهدف إلى إشباع رغبة أو تفريج توتر"! وما هي فيما بدا ليغير كلمة منحوتة من الفِعْلَيِن ["سَارَ، يَسِيرُ، سِرْ"، و"نَامَ،يَنَامُ، نَمْ"]؛ فإنَّ قائم العُصَاب إذا قامَ هَتَفَ بالنائم أَنْ: سِرْ،فيسيرُ، حتى إذا ظَنَّ أنه يَقْظَانُ هَتَفَ به أَنْ: نَمْ، فينامُ، وهكذا دواليك،حتى يَذِلَّ المَهْتوفُ به!

وإذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، فإذا كان أفق بوحالمهتوف به أَرْحَبَ من أن يَحُدَّه حَدٌّ، فَيَا ما أَحْوَجَ عبارته إلى أن تضيق!ولكن دعوى القصة بسطر واحد التي ادعاها وليد النبهاني، كدعوى القصيدة ببيت واحد؛ينبغي ألا يُعَدَّ من القِصَص السطرُ الواحد، كما ينبغي ألا يُعَدَّ من القصائدالبيتُ الواحد؛ كيف يستطيع هذا البيت الشعري: "لِأَنَّنِي أَمْشِي أَدْرَكَنِينَعْشِي"، أن يُمَغْنِطَ إحساس المستمع فيتبعه إلى حيث يذهب! أم كيف يستطيعهذا السطر النثري: "للجدران آذان، وللجارة لسان. أين سيخفي الأعمىعورته؟"، أن يُحِيطَ المتلقي بدائرة حكائية كاملة تمنع مخالب الواقع من أنتصل إليه! ولكنها الكتابة الجديدة التي يسابق فيها الكتابُ الشعراءَ إلى الأماسيّ،بنصوص قصيرة الأطوال مثيرة الأفكار حيوية الأساليب فَعَّالة التِّقَانات.

وينبغي أن نعترف لوليد النبهاني، بخصب الينبوع الذييستقي منه أفكار نصوصه؛ فهي كثيرة مختلفة، لا يكاد يجف ما يستمده من تأمل أحوالالإنسان والحيوان، حتى يسترفد أحوال النبات والجماد -مثل نصوص "هكذا فكربالون"، و"فلج"، و"مزمار داود"- فيَسْبُرُ منها ما لايلقي له أحد بالا، وكأنما ينكشف عنه حجابها، فيسمع لسان حالها! ولا تشغلهالجغرافيا إلا مثلما يشغله التاريخ، فيربط أحداثه المتنافرة بعضها ببعض ربطا فنيالا يخلو من سخرية -مثل نص "تملُّك"- فإنه إن لم يفعل أَكْمَدَ نَفْسَه،ولم تَتَغَيَّرِ الأحداث- حتى إذا خشي تكرار الأفكار سَطَا على الحِكَم المطمئنة قديمةوحديثة -مثل نصي "الغنيمة"، و"بديهة"- فبعثها من مرقدها، فيصُوَرٍ إيحائية ساخرة. ولا بد لمن يقرأ قوله في نص "بديهة":"الذبابة تطير منذ مدة والضفدع ذو اللسان الطويل لا يستطيع أن يلتقطها طائرةبسبب بطء بديهته ستسقط الذبابة في الأرض كي يلتقطها الضفدع وستزحف بديهته ببطء إلىأن يحدث ذلك"، من أن يستحضر في وقت واحد معًا قولَ الغابرين: ["إِنَّالرَّأْيَ إِذَا أَقْبَلَ عَرَفَهُ الْعَالِمُ، وَإِذَا أَدْبَرَ عَرَفَهُ الْعَالِمُوَالْجَاهِلُ"= "شَرُّ الرَّأْيِ الدَّبَرِيُّ"]، وقول الحاضرين:"يفهمها وهي طايرة"! ويغالب السِّينيمائيِّين على انتباه المتلقين،بنصوص تتخذ من الأفلام السينيمائية أَنْفُسِها مادَّتَها، فتُفَكِّكها وتُحَلِّلهاوتُركِّبها بهواها على رؤاها، فتنتصب مرة أخرى فوق الأفلام كلها، بقامات أرفع منقاماتها وسَطَوات أَوْقَعَ من سَطَواتها.

وفي هذه الكتابة الجديدة تجتمع الأضداد:

1 التحدي الفني الذي جمع في بناء النص بين عمل الكاتب من داخله وعمل القارئ منخارجه في وقت واحد معا -مثل نص "حمال الأرز والراوي ذو الضمير الغائب"-وقد نشأ هذا الأسلوب طريئا بريئا، ثم طغى به وليد النبهاني على النَّصِّ. ومنالتحدي الفني أسلوب العنونة الذي تردد بين إشراك العنوان في النص حتى لَيُمْكِنُ عَدُّهفقرة من فقره -مثل نص "هكذا فكر بالون"- فلولا العنوان لاستغلق فهمالنص، وبين موازاة النص بالعنوان حتى لَيُمْكِنُ تَرجيحُه عليه -مثل نص "قارئالسماء عراف المطر"- فقد امتطى العنوان الصورة اللطيفة إلى شبه الحكمة المَثَلِيَّةالآسرة، فأما متن النص نفسه فلم يتجاوز محاولة اصطناع المُلْحة! وربما كانالإلغازُ من هذا التحدي الفني -مثل نص "سفرجلة"- ولا سيما أن نصوصه مغريةغير مستغلقة، من شاء استمتع بتحريرها وتوجيهها، غير مبال بما يمكن أن يقصده بهاصاحبها.

2 النقد الأدبي الذي يقضي بين القَداميّين والحَداثيّين -مثل نصوص "في البدءالآن"، و"الخصيان"، و"فتنة الناقد"، و"غبار"- ويوحيبأن "الآن" كان ينبغي أن يكون "في البدء" -وإن مَلَّ الحَداثيُّأحيانا، فتَمَنَّى القَدَاميَّةَ، وطَفِقَ يَتَقَلَّب على نَارَيْهِما!- ويدل على افتتانالناقد بنقده وإنكاره لغيره -إذ يتلجلج في أحوال الآراء بين التوفيق والإخفاق،ولكنه لا يرى غير نفسه في عين نفسه- وعلى أن الكاتب الكبير هو نفسه كاتم أنفاسالكاتب الصغير، وإن ادعى غير ذلك!

لقد ضَفَرَ وليد النبهاني في ضَفيرة سَرْنَمَاتِه، خُصْلَتَيْنِمِنْ عَمَلَيِ الفنان الكاتب (التحدي الفني) والعالم الناقد (النقد الأدبي) جميعامعا، ثم ألجم بضفيرتها خصومه، حين سبق إلى الحديث عنهم إسكاتا لهم، بمثل قوله في"فتنة الناقد": "كان خطأ مقصودا بعناية حين استبدل بمبخرتهوتعاويذه كتبا ينقدها وبالرغم من عدم أهمية ذلك فإنه لا بد من ذكر السبب الذي جعلالمشعوذ يرتكب هذا الخطأ حتى لا يقال بأنني أخفي الحقائق دائما فقد سمع الناقدالأدبي حين كان مشعوذا أن الكتاب لا يؤمنون بما يفعله المشعوذون لكنهم يستطيعون أنيؤمنوا بما يقوله النقاد أما الخطأ الأكبر في نظر الناقد فهو أنني أخبرتكم بهذهالحقيقة في قصة قصيرة للغاية مع أنه كان من الأفضل لي أن أكون مشعوذا حتى تصدقواما أقوله لكم بعناية أكبر"!

وليس لقارئ أن يلومه على ما فعل، ما دام قد أقامه في حالمُرَكَّبَةٍ لم يَكُنْ لِيَقُومَ فيها- ولا أن يشتغل بنقده الأدبي عن تحديه الفني؛فإنه إذا قال له: أنا أرى، قال له: وأنا لا أرى!

ولكنه يستطيع أن يُعَلِّقَ على "سرنماته" مايأتي:

1 في الاستفتاح بنص ألف ليلة وليلة مَنْعُ قراءة القصة من ذوي قارعة الطريقوالنساء والجواري والعبيد والسفهاء، وقَصْرُها على الأمراء والملوك والمفسرينوغيرهم؛ وهل "غيرهم" هذه إلا ذوو قارعة الطريق والنساء والجواري والعبيدوالسفهاء!

2 على رغم أن المزمار هو وحده أعلق الآلات الموسيقيةبالعازف، لم يستطع العازف أن يحميه -نص "مزمار داود"- فقد ذهب يستميلالملك، فاستماله الملك!

3 فُصِلَ بين الفكرة والعبارة، وكأنما تَخْطُر الأولىفجأة، ثم تُجَهَّز لها الثانية، كما يولد الولد ثم يُجَهَّز له ثوبه -نص"فكرة"- وهذا قياس مع الفارق؛ فإن الفكرة والعبارة كالروح والجسم، لاكالجسم والثوب!

4 لا بأس بالرمز إلى تَدْجِين الشعب بالحياة الرخية، وأنهلم يلبث أن شمل قادة الإصلاح أنفسهم -نص "كيف استراح الديك من صياحه"- ولكنالطريف أن الدجاجة التي تبيض ذهبا نفسها، لا تبيض حتى يخالطها الديك، فأماالمدجنون بالذهب فلا يعبؤون لشيء!

5 شيء خفي من تحري التحدي، في "فرقعة" رمضانعظام رقبته ومئذنة المسجد أمامه قد تهدمت -نص "المؤذن"- وقد كانت رقبتهعند الناس كالمئذنة، فمئذنته باقية، ومئذنتهم بائدة!

6 لا بأس بالرمز إلى أن من ظلم الصهيونية الباغية، أن تمنعالحقيقة عن شعب الكيان الإسرائيلي، خوفا على ما يفتضح له من أكاذيبها -نص"جدار عازل"- ولا بالرمز كذلك إلى أن للحقيقة وسائلها التي تُحَيِّرُعند ظهورها توقعات الظالم الباغي!

7 استعمال "في" بدل "إلى" -نص "بروسواين كما ينبغي"- استعمال موفق، يوحي بأنها لم تغادر أماكنها أصلا.

8 "هناك من قال حينمات" -نص "الأعمال التي لا تكتمل"- أجزل من "حين مات هناك منقال"، و"بالرغم من كذا كذا" -نص "فتنة الناقد"- أجزل من"بالرغم من كذا فإنه كذا"، و"في حجم هذه القصة وبراعتها" -نص"ذكرى بعيدة ذكرى قريبة"- أجزل من "في حجم وبراعة هذه القصة"،و"رأس الرجل ولحيته" - نص " تقاطع خطوط"- أجزل من "رأسولحية الرجل"؛ فلا خير في الفَصْل بين المُتَّصِلات!

9 عبارة "كانت تلك التجربة غامضة أو غير موجودة"-نص "ذكرى بعيدة ذكرى قريبة"- مثل عبارة "كانت غير كائنة"،وهو من السخرية بمكان!

10 في عبارة "قيد الأرض" -نص "قيد بن آدم الأرضي"- مناصاةعبارة "قيد الأوابد" من أولها، وعبارة "ملح الأرض" من آخرها-وما أحكمها مُناصاةً مُؤْسِيَة!

11 استعمال "صدفة" بدل "فرصة" -نص "ألف موعدوصدفة"- استعمال موفق بدلالته على الرضا بالعجز، فضلا عن توفيق استعمال"في" بدل "على"، بدلالته على اللصوق بالمكان!

12 أهو تقاطع -نص "تقاطع خطوط"- أم تقابل!


--





أ.د. محمد جمال صقر
PROF. MOHAMMAD GAMAL SAQR
كلية دار العلوم، جامعة القاهرة
FACULTY OF DAR EL-ULWM
CAIRO UNIVERSITY
كلية الآداب، جامعة السلطان قابوس
COLLEG OF ARTS AND SOCIAL SIENCES
SULTAN QABOOS UNIVERSIT
mogasaqr@yahoo.com
mogasaqr@gmail.com
saqr369@hotmail.com
mogasaqr@squ.edu.om
0096893919248
00202236252