فن التعلق بالمطلق

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
هو الفن الإسلامي الذي كان ولا يزال أعظم فن روحي خاطب المطلق في النفس البشرية، كما تجلى ذلك في انبهار الرسام الفرنسي “هنري ماتيس” والمسحور بتلك الروح الكامنة، فانعكس ذلك السحر في معظم لوحاته وقال: (لا توجد حضارة في التاريخ الإنساني اقتصرت على اللون مثل الحضارة الإسلامية).


اللون هو جوهر الحالة الروحية عند الإنسان، فقد خلق الله النبات بالأخضر كباعث لحب السلام والخير، وهو أحب الألوان للنبي الكريم. وخلق السماء زرقاء لتكون مبعث الرغبة بالسكون وتعلق المبصرين بالغيب، وخلق الأحمر في الورد كمحفز للذة تشبه لون الدم يحتويها الشوك حاميا. حتى الإحرام الذي ألزم فيه البياض؛ كشفت الدراسات العلمية الحديثة أن لونه محرض لقلب الإنسان على محاسبة ذاته. وكان أجدادنا يحضرون عزاء الميت بملابسهم البيضاء، وتعلق الفن الإسلامي بالألوان كثيرا، حتى وضع المتصوفة درجات وأسماء للألوان كل درجة فيها؛ تعبر عن حالة من حالات الإنسان؛ العاطفية والعقلية.


من غير المتداول أن العرب برعوا بشكل ما في فن النحت قبل الإسلام، ولكن رمزية الأصنام لعهد الشرك والظلام، دفع المسلمين للتوجس فتجاهلوه وتعلقوا بديلا في المطلق. وكأن ذلك التحريم الفقهي منبعه دلالات تلك الرغبة الإنسانية في تجسيم الإله ورؤيته حتى يطمئن قلبه. ربما قد كانت هي الدلالة التي حرضت الحضارة المسيحية لتقديس النحت، ومعظم الديانات خضعت بتلك الرغبة لإرادة التجسيم: (العزير أبن الله عند اليهود، عيسى هو الإله عند النصارى، الطبيعة هي الله عند معتنقي البوذية، الأصنام هي الآلهة عند عرب الجاهلية). حتى الأصنام العربية القديمة كانت دخيلا تجاريا حديثا، على أمة تعلقت بالسماء، فأولئك الذين صنعوا “الرقش” هم من عبد الكواكب والنجوم حينما سكتت السماء عن الأرض، كما تعلق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بالسماء العظمى في غار حراء.

تنزه الله بصفاته وأسماءه له العبادة المطلقة وحده الأحد، فكان في أول الإسلام حافلا بطمس معالم التجسيم نحتا وتصويرا حتى القارئ المتعلم “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه أزال الشجرة التي كانت عند بيعة الرضوان، حينما رأي مسلمين لا زالوا عندها يتبركون.

من ذلك ولجمال الكون في قلب المؤمن، توجهت طاقة الفن الإنساني عند المسلمين إلى اللون، وخاصة بعد خروج العرب من الصحراء، ولذتهم بألوان الحضارات الفارسية والعراقية والرومية والمصرية. تطور مفهوم اللون إلى الزخرفة، ويمكن أن نعتبر (اللون والزخرفة) هما عينا الفن الإسلامي القديم، فكان لذوق هذا العربي الرفيع، دافعا إلى زخرفة الحرف وتشكيله، برقة وإحساس مرهفين، وذلك ما لم تتميز به كل اللغات، فكان الحرف العربي (زينة مزخرفة) يتسابق فيه الخلفاء على تكريم الخطاطين المبدعين بالمال وبتسمية الخطوط على أسماءهم. كان لتقديس القرآن الكريم وحب البلاغة العربية المطلق للكلمة حافزا على ذلك الاهتمام.

الوجدان والمنطق هما قرينا التفكير عند الإنسان، وهما في نصفي الدماغ الأيمن والأيسر، الأول مسئول عن الوجدان، والثاني عن المنطق، وعندما تؤمن بالرسالة الإسلامية للمرة الأولى فأنت تستعين بالمنطق لوعيها، ثم تستعين بالوجدان لترسيخها ثم بكليهما لتشكيل أبعادهما في الجوارح.

عشق العرب بلاغة الوجدان فكانوا أنبل الأمم، وتمنطقوا بالوجدان، فالوجدان هو الذي أدرك به المسلمون معنى الألوان ودلالاتها، وشكل الزخارف وتأثيراتها، فمارسوا حياتهم في عالم تلك التأثيرات والأبعاد. فكان انعكاسا لذلك الذوق الروحي المطلق.

وهب الفنان المسلم وجدانه للفن، وقال أحد المستشرقين: (إن الفنان المسلم لم يكن يوقع أعماله باسمه، فقد كان يمارس أعلى درجات الروحانية في عمله، وهو الجانب التعبدي والتجرد لله). لم يكن الفنان المسلم يؤرخ ما يصنع فخلوده مطلق مرتبط بالزمن الكلي الكامل لا بفناء الذات.

تطور مفهوم اللون فوصل لأعلى درجات “الزخرفة” وتبلور ذلك في عهد دولة الأندلس، منذ الهروب الكبير “لصقر قريش” وقيام الدولة العباسية في الشام على أنقاض الدولة الأموية، دخل الداخل إلى الأندلس لإعادة ملك بني أمية وقيام دولته الجديدة، فكانت مساجد غرناطة وأشبيلية وبيوتها محاكاة متطورة لمساجد وبيوت الشام، فأتصل فن المغرب بالمشرق.

تلك الزخارف المنقوشة والمعتقة في الأندلس، بألوان متناسقة وخافتة، كانت وليدة تلك الروح الدينية العظيمة عند الفنان المسلم، وفي دراسة علمية مقارنة لأحد الباحثين، تم بحث منطلقات الفن الإسلامي وتأثيراته النفسية والوجدانية من ناحية (اللون والزخرفة) بالمقارنة مع الفن الأوربي القديم والحديث. وجد الدارس؛ أن التأمل في هذا الفن يدفع للتفكير بالغيب والتعلق بقوته المطلقة، ويبعث السكينة والطمأنينة الروحية للفرد، وله دور فعال في معالجة قضية الإنسان الأولى وفقا لابن القيم ألا وهي “طرد الهم”.

وذلك بعكس الفن الأوروبي الذي يدفع الإنسان للتعلق بالدنيا، والصراع مع شهواتها، وخاصة في الألوان الفاقعة المشتتة للتفكير أو السوداوية الغامضة، والتي تلعب دورا في اختلاج الهم. إذ يتمثل الصراع الروحي عند الأوربي مع الحياة حتى في لوحات “كلود مونية” الرومانسية لرسم الطبيعة. وتتجسد الشهوانية في “الموناليزا”، والذاتية في فن “البورتريه”، والهولندي “رانبرنت” رسم ذاته عدة مرات، وكان هذا تقليدا مستمرا!

يتجسد أيضا الألم والوجع بكافة تجلياته في مئات اللوحات المعروفة التي تمثل آلام المسيح – وفق المعتقد المسيحي - “لدافنشي” أو “رافيالي” أو “فرانسيس دي جويا”، لتمثل في ذلك التجسيد البصري ذروة الصراع مع الحياة. حتى الفن الغربي الحديث المنبثق من فلسفة العدمية، تجلى عبر غموض وسوداوية “فان قوخ”، ومرحلة الحزن عند “بيكاسو” في زمن سمي “بالمرحلة الزرقاء” دلالة على الحزن رغم أن الأزرق دلالة على التأمل في الفن الإسلامي، بل وحتى في مرحلته “الوردية” .. كانت أبرز اللوحات هي “إمرأة باكية”.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
بعكس الحضارة الإسلامية التي كان الفن فيها وسيلة للاتصال الوجداني بالمطلق، والتعبير عن توق الفرد لذلك الجمال المطلق. والغوص في أعماقه الروحية والمتلونة بفرح الحياة.

إن الحياة ليست إما الفرح أو الحزن، وليست حتى مزيجا بينهما، إن مفهوم الحياة الذي يحقق السعادة المطلقة للفرد، هو تحويل طاقة العبودية عبر الكبد المجبول في الإنسان إلى وجهتها الصحيحة. هذه الطاقة قد تكون للشهوات الحسية وقد تكون للحضارة، وقد تكون للعلم، ولكن العلم لا ينفع سوى إن وصل إلى غايته عبر الوجدان، ذلك ما يصوره الفن الإسلامي.

عبودية المسلم توجهت إلى الوحدانية التي شكلت مركز للوجود، وكان لهذه المركزية إنعكاسا على الفن الإسلامي.

إن أكثر ما يعبر عن الحرية في الفن هي حرية الفن الإسلامي، فقد كان يمثل الإرادة الإنسانية المتوجهة إلى التعبير عن مخلوقات الله، والتحرر من الذات والآخرين، فبذلك التوجس من تصوير الناطق وتحريم الفقهاء المحدثين له، اتجه المسلمون بإرادتهم الحرة، للغوص في أبعد أعماق المطلق والتجريد، فنشا فن “الرقش” وهو يمثل قمة الفن العربي الإسلامي بعد انتقاله من الزخرفة، وهو فن رمزي غير ساكن، لا يعبر عن صورة محددة، بل عن بنية متحركة تولد جملة تكوينات متآلفة، كما بين “غرابار”.

والرقش هو تطوير للزخرفة؛ فالحرف العربي زخرفة بحد ذاته، ولكن عند الخروج الطوعي عن قواعده بهدف تزيينه فإنه يصبح بذلك رقشا. وهو أكثر عمقا من تزيين الحرف، إذ أنه فن يعتمد على خلفية فلسفية إسلامية، فلا يمكن خلطه مع أي فن في العالم، ليشكل بذلك حالة فريدة من نوعها لا تشبهها أي صورة.

والهدف من فن الرقش هو إتجاه الفنان المجرد، بكامل كيانه إلى الله – مصدر هذا الوجود- وهو إما أن يكون هندسيا أو نباتيا، ففي الهندسي تبدو الصورة على شكل أشعة، لها وميض متناوب، تصدر من مركز معين. أما في النباتي فإنها تستوحى من الأزهار والأوراق على شكل صيغ متناسخة مكررة أفقيا.

والرقش طريقة لتناول الكائنات المصورة عبر الرموز والحروف، والتعبير عن الكون وفق المصدرية المطلقة، وبتوظيف الألوان لصالح المعنى، عبر التنويع فيها للدلالة على تنوع الكون، وعدم اقتصاره على صورة محددة، بل على المطلق الذي يحقق للإنسان لذته الروحية المفطور عليها.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

إن مفهوم الفن الإسلامي ينبني على قاعدة هندسية هي : ((الوحدة من الكثرة، والكثرة من الوحدة)) أي مركز ينبثق منه كافة التجليات. حتى الأشياء من حولنا تبنى على نفس المركز على هذا النحو ..

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

وهنا تشرق الشمس في الأشياء وكأنها تحلق في سماء من ذهب ..

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
وفي هذه الصورة نموذج للصنف النباتي من فن الرقش ، عذوبة الإنسان في فنه، وكأنه يريد أن يستطيل ويتلون بقوة المركز

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


المصدر:
http://majid.ms/2009/01/%D9%81%D9%86...7%D9%84%D9%82/