كتب فهمي هويدي في الشروق:
مجلس الأشقياء
اكتشفنا أخيرا أن مجلس الشعب القادم ليس ممثلا للشعب.. والفضل فى ذلك الاكتشاف المفاجئ يرجع للواء مختار الملا عضو المجلس العسكرى، الذى لم يرد أن يصدمنا بهذه المعلومة فسرَّبها إلى مجموعة من الصحفيين الأجانب «واحد بريطانى وستة من الأمريكيين»، وخرج هؤلاء من لقائه لينقلوا إلى العالم الخارجى الخبر قائلين بأن قبضة المجلس العسكرى على الحياة السياسية فى مصر سوف تستمر رغم الانتخابات التى ذكر اللواء الملا أن نتائجها لم تمثل الشعب، وأن الدستور الذى سيوضع سيتحكم المجلس العسكرى فى تشكيله وفى مشروعه الذى يفترض أن يطرح للاستفتاء، الأمر الذى يعنى أننا بصدد تشكيل مجلس افتراضى ليس مؤهلا لشىء.
ليس معروفا ما إذا كان هذا الكلام يعبر عن الرأى الشخصى للواء المذكور، أم أنه يعبر عن رأى المجلس العسكرى، وأرجح الاحتمال الأخير لأن المجلس إذا لم يكن مؤيدا لهذه الفكرة فقد كان بوسعه أن يسارع إلى تصحيحها، وهو ما لم يحدث، لكن الذى أعرفه أن اللواء الملا أهاننا بكلامه أربع مرات. مرة لأنه عبر عن احتقاره للجماهير التى صوتت فى الانتخابات، ومرة لأنه تعامل مع النتائج باستعلاء لا يليق برجل فى مثل موقعه، ومرة ثالثة لأنه أعلن على الملأ عدم احترامه للإرادة الشعبية. ومرة رابعة لأنه لم يشأ أن يحدث المصريين بذلك، فخاطب الأمريكيين والإنجليز، ومنهم عرفنا أن المجلس لم يأخذ الانتخابات ولا نتائجها على محمل الجد، وإنما اعتبرها لعبة جرى إلهاء الشعب بها، إدراكا منه بأنها بلا قيمة أو جدوى.
كان يمكن أن نطعن فى مجلس الشعب ولا نعير الانتخابات اهتماما لو أنها زورت وجرى التلاعب فى نتائجها. ولكن أما وأنها تمت بحرية ونزاهة تحمد للمجلس العسكرى، فإن نتائجها ينبغى أن تؤخذ على محمل الجد، حتى وإن لم تعجب البعض. وفى هذه الحالة فإن شرعية المجلس الذى تسفر عنه الانتخابات لا سبيل إلى الانتقاص منها أو تجاهلها. وإذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فإننى أزعم أن شرعية المجلس فى هذه الحالة تفوق بكثير شرعية المجلس العسكرى ذاته. إذ بوسع أعضاء مجلس الشعب أن يتحدَّوا الجميع مستندين إلى أن الشعب اختارهم بإرادته الحرة. وهو ما لم يتوفر للمجلس العسكرى مع الاحترام لكل أعضائه. وإذ يشكر لهم ويقدر موقفهم الذى انحازوا فيه إلى إرادة الشعب. لكن أحدا لا يستطيع أن يدعى بأنهم يمثلون الشعب، علما بأن شرعيتهم جميعا لا تتجاوز حدود اللحظة التاريخية التى أصدروا فيها بيانهم الأول الذى صدر فى العاشر من شهر فبراير الماضى، لو أعلنوا فيه تضامنهم مع مطالب الشعب المشروعة، بل أزعم أن شرعية اللحظة التاريخية والأمر الواقع التى تبدَّت آنذاك، لم تستمر طويلا، لأنها تأكلت بمضى الوقت حتى أصبحت فى أدنى مستوياتها فى الوقت الراهن. وشاءت المقادير أن يتزامن ذلك التآكل مع بروز مقدمات الشرعية الحقيقية البديلة، الممثلة فى بدء تشكيل مجلس الشعب بإرادة الشعب الحرة.
إن تصريحات اللواء مختار الملا للصحفيين الأجانب لا تمثل خطأ دستوريا وسياسيا فحسب، ولكنها تعد خطأ أخلاقيا أيضا. لأنه يكاد يقول لنا بصريح العبارة إن الشعب أساء الاختيار وإن ذلك الاختيار دال على أنه ليس مؤهلا بعد للممارسة الديمقراطية. وهو ذاته الكلام الذى ردده مبعوثو سلطة الاحتلال البريطانى فى أواخر القرن التاسع عشر. إذ تذكر المراجع التاريخية أنه عقب الاحتلال البريطانى عين اللورد كرومر قنصلا عاما لمصر فى سنة 1883، وجاء معه آنذاك، السفير البريطانى فى إسطنبول اللورد دوفرين، الذى كلف بوضع نظام حُكم مصر، وقال آنذاك: لا يستطيع أحد أن يدعى أن مصر وصلت إلى درجة من الوعى والنضج تمكنها من إقامة حكومة ديمقراطية صحيحة. وهى عبارة تكاد تكون مطابقة لما قاله اللواء الملا، الذى أخبرنا بدوره أنه لا يستطيع أحد أن يدعى بأن الإرادة الشعبية التى عبرت عنها الانتخابات يمكن أن تقيم مجلسا حقيقيا يمثل إرادة الشعب.
مما له دلالته فى هذا السياق أيضا أنه بعد إعلان استقلال مصر رسميا عام 1922، فإن السلطان فؤاد (الملك لاحقا) كلف وزارة عبدالخالق ثروت باشا بتشكيل لجنة لوضع دستور البلاد ضمت 30 عضوبا (نفس عدد المجلس الاستشارى الذى عينه المجلس العسكرى مؤخرا!)، لكن حزب الوفد عارضها بشدة وأعلن أن الدستور يجب أن تضعه هيئة تأسيسية ينتخبها الشعب، ووصفها سعد باشا زغلول آنذاك بأنها «لجنة الأشقياء».
القصة لها ذيول وتفصيلات كثيرة، لكنى أرى فيها الكثير مما نطالعه الآن فى ممارسات المجلس العسكرى، حتى أخشى أن يستعير أحد أعضائه عبارة سعد زغلول ليصب جام غضبه على مجلس الشعب القادم، ويسميه «مجلس الأشقياء». وأشدد على أننى أتحدث عن مجلس الشعب، راجيا ألا يلتبس الأمر على أحد، أو يُؤَوِّله أحد الخبثاء.