من روائع النابلسي

﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾

هذه النون نون النسوة، أضيفت إلى البيوت التي تسكن فيها النساء، وكأن البيت الذي تسكنه الزوجة أضيف إليها لا إضافة تملّكٍ، بل إضافة تشبُّث، أي أيتها المرأة تشبَّثي في بيتك، ولا تخرجي منه، إن خرجت منه أسأتِ إلى زوجك، إن خرجتِ منه تفاقم الأمر، بالتعبير الجديد.. تفجَّر الأمر.. مشكلة إما أن تحاصرها، وإما أن تحتويها، وإما أن تصغِّره وتحجِّمها، وإما أن تتفاقم، وأن تكبر إلى أن تنفجر.
أيها الإخوة الكرام، يستنبط من هذا التوجيه الحكيم أن المرأة إذا خرجت من بيتها إلى بيت أهلها من دون إذن زوجها عقب طلاقٍ رجعي، إذا خرجت فقد ضيّعت حقّ زوجها وأولادها، وقد عَصَتْ ربَّها، وقد أساءت إلى أسرتها، وعقابها أن هذه المشكلة التي بينها وبين زوجها تتفاقم، تزيد إلى أن تنتهي بالطلاق الحقيقي، وكم من امرأةٍ خرجت من بيت زوجها إلى بيت أهلها، ولم ترجع أبداً، جاء دور الشيطان ينفخ فيها، وينفخ فيه، يقول لها: لم يتِّصل بك، لم يأت لزيارتكِ، لم يسأل عنكِ، ويقول له: لم تتصل بك، ولم تعُد إلى البيت، ولم تعبأ بك، حينما تخرج الزوجة من بيت زوجها إلى بيت أهلها عقب طلاقٍ رجعي من دون إذن زوجها أساءت، وفجَّرت الموقف بيدها، وإن أخرجها من بيته عنوةً، وقسوةً، وإكراهاً أيضاً فقد حملها على أن تزيد المشكلة سوءًا، لو أن الأزواج والزوجات طبَّقوا جميعاً هذا التوجيه الإلهي الكريم لتضاءلت قضايا المشكلات الزوجية إلى العُشر، هذا كلام خالق الكون، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يحملها على البقاء في البيت، وكأنه بيتك..﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ ﴾
لم يقل: من البيوت، لم يقل: لا تخرجوهن من بيوتكم، البيت للزوج، وهو مسجلٌ باسم الزوج، وهو مالكه، هو الذي يبيعه، والقرآن الكريم نسبه إلى الزوجة فقال:
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾
أي أيها الزوج، وإن كان البيت لكَ في السجلاَّت الرسمية هو لها في حق التشبّث به، ويا أيتها الزوجة، ولو أنكِ لا تملكين هذا البيت فإنما هو بيتك في نص القرآن الكريم لا نسبة ملكية، بل نسبة تشبُّث، الخلاصة أن كل خلافٍ زوجي يتضاءل إذا بقيت المرأة في بيت زوجها، وإن كل خلافٍ زوجي يتفاقم إذا خرجت من بيت زوجها.
وقد ذكرت لكم من قبل: أن قرار الطلاق قلَّما يبنى على محاكمة منطقية، قلَّما يبنى على ضرورة، أغلب ما يبنى على انفعال، والانفعال موقت، الانفعال لا يدوم، الانفعال يتناقص، الانفعال يتلاشى بعد حين، فالله سبحانه وتعالى لئلا يكون فرقةٌ بين الزوجين، لئلا يُشَرَّد الأولاد، لئلا تنهدم الأسرة، لئلا تُدمَّر الحياة في هذا البيت جعل الطلاق بهذه الطريقة.
إذاً روعة تنفيذ أمر الله في هذه الفقرة، طلقتها طلاقاً سُنِّياً، تطليقةً واحدةً في طهرٍ لم تمسَّها فيه، هذا الطلاق السُنِّي، طبعاً لو طلقتها في حيض فهذا طلاقٌ بدعي، لو طلقتها في طهرٍ مسستها فيه فهذا طلاقٌ بدعي، لو طلقتها طلاقاً سنياً وفق السنة الشريفة في طهرٍ لم تمسها فيه، إلا أنك أخرجتها من بيتك إلى بيت أهلها من أجل أن تبتعد عنك فأنت عَطَّلْتَ حكمة أمر الله عزَّ وجل، أرادها الله أن تبقى إلى جانبك، أراد الله أن تنسى بعد يومين أو ثلاثة هذه المشكلة، أرادها أن تتضاءل، وأنت حينما أخرجتها من بيت أهلها أردتها أن تتفاقم.
أعيد وأكرِّر: أي خلافٍ بين الزوجين مهما كان كبيراً يتضاءل، ويتلاشى بعد حين إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها، وأي خلافٍ بين الزوجين مهما كان صغيراً يتفاقم، وقد ينتهي إلى الطلاق إذا خرجت من بيت زوجها إلى بيت أهلها، خروجها من بيت زوجها إلى بيت أهلها من دون إذن زوجها تَضْيِيعٌ لحق زوجها، وإخراجها من بيت زوجها إلى بيت أهلها مكرهةً تضييعٌ لحقِّها، من حقِّها أن تبقى في بيت زوجها، ومن حقِّه أن تبقى له، وهي مطلَّقة، لأن هذا الطلاق في الأعمِّ الأغلب ينتهي إلى المراجعة لو طُبِقَت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، هذا كلامٌ ليس للاستمتاع، ولا لأخذ العلم، ولكن للتطبيق.
فكثيراً ما يأتي إخوةٌ كرام طلَّقوا زوجاتهم طلاقاً وَفْقَ السنَّة، ولكن طردوهنّ إلى بيت أهلهن، وبهذا الطرد يتفاقم الأمر، وقد ينتهي إلى الطلاق، هذا توجيه الله عزَّ وجل، ولا أدل على هذا التوجيه القويم من أن هذا البيت ينبغي أن تتشبَّث به الزوجة، وكأنه بيتها، وهذا البيت الذي هو لك أيها الزوج ينبغي أن تتحرَّج أن تخرجها منه، ولو كان بيتك، إنه في كتاب الله بيتها، وإنه في كتاب الله منسوبٌ إليها، لا أقول: نسبة تملُّك بل أقول: نسبة تشبُّث.
هناك معنى آخر، وهو أنه حينما نسب الله هذا البيت الذي تسكنه أنت وزوجتك إلى زوجتك، أضافه إليها ﴿مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾
بعض العلماء استنبط أن الزواج عند الرجل أحد فصول حياته، له فصلٌ في علاقته مع ربِّه، وله فصلٌ في علاقته مع من حوله، وله فصلٌ في عمله، وله فصلٌ في تأكيد ذاته، وأحد فصول حياته زواجه، فإن لم تظهر كفاءة الزوج، ولم تظهر عبقرية الزوج في بيته ظهرت خارج البيت، إن لم تظهر في بيته ظهرت في عمله، إن لم تظهر في بيته ظهرت في إنجازه، في قوة شخصيته، في دقَّة صنعته، في براعة حرفته، في رواج تجارته، في نماء مزروعاته، الرجل يستطيع أن يؤكِّد ذاته في حقولٍ كثيرة، أحدها عمله، أحدها علاقاته، أحدها علاقته مع ربِّه، أما الزوجة يعَدُّ الزواج بالنسبة إليها كل فصول حياتها، فإذا نجحت في أن يتزوَّجها رجلٌ كفء لها فقد نجحت في الحياة، وإن لم تنجح فقد أخفقت، لذلك في أي مكانٍ تؤكد الزوجة ذاتها، وتظهر عبقريتها، وتظهر كفاءتها، وتظهر قوة شخصيتها، وتظهر براعتها، وتظهر حسن تدبيرها ؟ في بيتها، فإذا منعها الزوج من حقِّها الطبيعي في أن تكون مسؤولةً عن بيت زوجها فقد حرمها كل فصول حياتها، لذلك هذا معنى آخر ذكره بعض العلماء في عِلّة نسبة البيت إلى الزوجة، فأنت حقق شخصيتك وكفاءتك خارج البيت، ودعها هي لتحقق إمكاناتها، وحسن إدارتها، وذوقها داخل البيت طبعاَ في حدود المستطاع، لأنكِ أيتها الزوجة إن أردتِ أن تطاعي فأمري بما يُستطاع، وهذه حكمةٌ بليغة: " إذا أردت إن تُطاع فأمر بما يُستطاع ".
إذاً أول نسبةٍ للبيت إلى الزوجة نسبة تشبُّث، لا تخرج، ارفضي أن تخرجي، وأيها الزوج لا تخرجها، إياك أن تخرجها كي تعود إليك، ولا تخرجي كي تعودي إليه، لا تخرجها كي تعود إليك، ولا تخرجي أيتها الزوجة كي يعود إليكِ، أما إذا خرجتِ أو أخرجتها فإن أصغر قضيةٍ بينك وبينها تتفاقم، وتتفجَّر، وتنتهي إلى الطلاق، أما إذا بقيت في بيت زوجها فإن أكبر مشكلةٍ بينك وبينها تتلاشى، وتنتهي إلى الوفاق.
إذاً أيها الإخوة، هذا كلامٌ للتطبيق، لا لأخذ العلم، ولا للمتعة المجرَّدة، ولا للترنّم بكتاب الله، هذا توجيه ربنا لنا، حافظ على تطبيق هذه الآية، بل إن الزوج.. كما قلت قبل قليل.. لو طَلَّقَ امرأته طلاقاً سنياً راعى فيه كل الشروط، ولم يطبِّق هذا البند من هذه الآية، في قوله تعالى:


--


fawaz abu hejleh






http://alhejlawy.blogspot.com/