المبحث الثاني :
التعجب القياسى أورد سيبويه في كتابه باباً للتعجب ، قال فيه :
"هذا باب ما يعمل عمل الفعل، ولم يجر مجرى الفعل ، ولم يتمكن من ذلك ، قولك : ما أحسن عبد الله ، وزعم الخليل أنه بمنزلة قولك :
ما شئ أحسن من عبد الله ، ودخله معنى التعجب أو لم يتكلم به".(96) وبرجوعنا لكتاب الخليل وجدنا التقدير غير ما ذكره سيبويه عنه ، قال الخليل :"قولهم ما أحسن زيداً وما أكرم عمراً ، وهو في التمثال بمنزلة الفاعل والمفعول به كأنهم قالوا : شئ حسن زيداً". (97) ولعل هذا ما جعل المبرد يتساءل قائلاً :
"وإن قال قائل : فإذا قلت :
ما أحسن زيداً فكأنه بمنزلة شئ حسن زيداً ، فكيف دخله معنى التعجب ، وليس ذلك في قولك : شئ أحسن زيداً؟ قيل له : قد يدخل المعنى في اللفظ ولا يدخل في نظيره ، فمن ذلك قولهم :
على الله لأفعلن لفظه لفظ رزق الله ، ومعناه : القسم ، ومن ذلك : غفر الله لزيد ، لفظه لفظ الخير ، ومعناه الدعاء". (98)والمتتبع لنص سيبويه السابق يجد أن سيبويه لم يصرح فيه بوضوح بفعلية التعجب وإنما عدّها أشبه بالمثل ، في قوله :
" ...... وهذا تمثيل لم يتكلم به". (99) وقال أيضاً في موضع آخر :"وبناؤه أبداً من فعَل وفعِل وفعٌل وأفعل هذا لأنهم لم يريدوا أن يتصرف ، فجعلوا له مثالاً واحداً يجرى عليه فشبه هذا بما ليس من الفعل لاماً" (100)ولعل غموض هذه النصوص بعض الشئ كان سبباً في منشأ الخلاف بعدئذٍ بين الكوفيين والبصريين ، ومن جاء بعدهم من النحاة ، وخير من ذكر هذا الخلاف والاختلاف بين الكوفيين والبصريين ، ابن الأنبارى في كتابه "الإنصاف في مسائل الخلاف".وصيغ التعجب المطّردة القياسية المبوب لها في كتب النحو ، صيغتان :ما أفعله ، افعل به ، يقول ابن السراج :
"فعل التعجب على ضربين ،وهو منقول من بنات الثلاثة إما إلى فعل ، ويبنى على الفتح لأنه ماضٍ ، وإما إلى أفعل به، ويبنى على الوقف لأنه على لفظ الأمر" (101). وهذا ما ذكره من بعده جمهور النحاة كأبى على الفارسى (102) ، وابن جنى (103) ، والزمخشرى (104) ، وابن الأنبارى (105) ، والعكبرى (106) ، وابن معط (107) ، وابن يعيش (108) ، والسيوطى (109) ، والصبان (110).غير أن هناك من النحاة المتأخرين من يرى أن للتعجب ثلاث صيغ ، هى : ما افعله ، وأفعل به ، ولفعل يقول ابن عصفور : "للتعجب ثلاثة ألفاظ : ما أفعله وأفعل به ولفعل". (111) ويقول ابن هشام :
"التعجب له ثلاث صيغ ، الأولى : ما أحسن زيداً ، والمعنى شئ حسن زيداً ، والثانية ، أحسن به وليس الأمر حقيقة ،والثالثة : فعل ، ويكثر فاعله كفاعل نعم وبئس ، ويجوز جره بالباء الزائدة".(112)وهو ما ذهب إليه ابن جماعة (113) أيضاً قياساً ، وهو فعل بفتح الفاء وضم العين ، وتستعمل استعمال أفعال المدح والذم كقولك : كرم الرجل المتصدق".(114)وكذلك ذكر أبو حيان ثلاث صيغ : صيغة ما أفعله وأفعل به ولفعل (115) ، وسنذكر هذه الصيغ الثلاث بشئ من التفصيل وبيان آراء العلماء فيها :
1-الصيغة القياسية : ما أفعله :زيدت "ما" في التعجب في صيغة "ما افعله" في نحو :
ما أحسن زيداً لأنها غاية الإبهام ، ولأن الشئ إذا أبهم كان أعظم في النفس لاحتماله أموراً كثيرة ، ولهذا كانت زيادتها في التعجب أولى من غيرها. (116) ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجانى "اعلم أن التعجب من مواضع الإبهام والبعد عن الوضوح والبيان ألا ترى أن حقيقة قولك: أعجبني الشئ أنك أنكرته فلم تعرف ، ولا يتعجب إلا من الشئ الذي يتعدى حد أشكاله ، ولم يبلغ مرتبة تفوق مراتبها ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون "ما" في قولك : اسماً مجرداً من الصلة والصفة".(117)وقد اختلف النحويون في معنى "ما" ، فمذهب سيبويه (118) ، وأكثر البصريين ، والمبرد (119) ، وابن السراج (120) ، إلى أنها بمعنى "شئ" ، وهى نكرة تامة ،وهى في موضع رفع بالابتداء كما في مثل : ما أحسن زيداً ، وأحسن خبره ، والتقدير :
شئ أحسن زيداً ، وممن قال بأنها نكرة تامة أيضاً الأخفش في أحد أقواله (121) ، وهو كذلك مذهب أبى على الفارسى (122) ، وابن جنى (123) ، والزمخشرى (124) ،وابن الانبارى (125) ، وابن يعيش (126)، وأبى على الشلوبين (127) ، وعبد القاهر الجرجانى (128) ، وابن عصفور ، ويرى هذا الأخير أن الصحيح ما ذهب إليه سيبويه من أن لها اسماً وليس لها صلة". (129) وهو كذلك مذهب بعض النحاة المتأخرين –كابن الناظم (130) ، وأبى حيان (131) ، ابن هشام (132) ، والسيوطى. (133).وهناك من خالف هذا المذهب كالفراء والأخفش وابن درستويه (134) ، حيث يرى الأخفش أن "ما" معرفة ناقصة بمعنى "الذي" فهى عنده : اسم موصول وواقع مبتدأ وما بعدها صلة والخبر محذوف ، والتقدير عنده في مثل :
ما أحسن زيداً الذي أحسن زيداً شئ ، ويرى أيضاً : أنه يجوز أن تعرب نكرة ناقصة وما بعدها صفة والخبر محذوف والتقدير عنده : شئ أحسن زيداً عظيم. (135) وقد خالف المبرد الأخفش فيما ادعاه ، حيث قال : وقد قال قوم إن "أحسن" صلة ما والخبر محذوف ، وليس كما قالوا وذلك أن الأخبار إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها وإنما هربوا من أن تكون "ما" وحدها اسماً فتقديرهم : الذي أحسن زيداً شئ ،والقول فيها ما بدأنا من أنها تجرى بغير صلة لمضارعتها الاستفهام والجزاء في الإبهام. (136)وقد خالفه وردّه أيضاً الزمخشرى من وجهين : الأول : أن التعجب من مواضع الإبهام و"الذي" فيه إيضاح بصلتها الثانى : أن تقدير الخبر هنا لا فائدة فيه ، عند تقديره : الذي أحسن وهو ما ذكره ابن يعيش أيضاً حيث قال :
"الشئ إذا أبهم كان أفخم لمعناه ، وكانت النفس متشوقة إليه لاحتماله أموراً". (138) وكذلك ردّه ابن عصفور في شرحه واتهم مذهبه فيها بالفساد بحجة أن معنى التعجب لا يكون إلا مما خفى فيه السبب ، ويرى أن جعل "ما" موصولة بعد معرفة يناقض معنى التعجب ، وأن الصحيح ما ذهب إليه سيبويه من أنها اسم وليس لها صلة. (139) ، وهذا التوجيه ذكره عبد القاهر الجرجانى أيضاً. (140)أما مذهب الفرّاء وابن درستويه فهو أن "ما" استفهامية عندهما صحبها معنى التعجب ، فخرجت عن حقيقة الاستفهام ، كما يصحب الاستفهام معنى التقرير والتوبيخ ، فيخرج عن أصله وتقدير الكلام أي شئ أحسن زيداً. (141) وقد ضعّف ابن الحاجب هذا الرأى من جانب ، وقواه من جانب آخر فهو قوىٌ عنده من حيث المعنى لأنه كان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه ،وقد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب وهو ضعيف عنده ، من حيث أنه نقل من الاستفهام إلى التعجب ، فالنقل من إنشاء إلى إنشاء مما لم يثبت. (142) وما ذكره الفرّاء يمثل المذهب الكوفى (143) إلا أن الكسائى ، -وهو من الكوفيين- قد خرج مخرجاً آخر في الإعراب خالف فيه الإجماع ، إذ نقل عنه أن "ما" عنده لا موضع لها من الإعراب (144) ، وما قاله الكسائى نراه بعيداً لأنه شاذٌ ولا يقدح في الإجماع. فمن خلال هذا نستطيع أن نقول :إن ما ذهب إليه سيبويه ومن أيده في إعرابه أولى وأظهر–كما قال ابن الأنبارى (145) وابن الحاجب (146) وابن الناظم (147) ، وذلك لأن الكلام على قولهم مستقل بنفسه لا يفتقر إلى تقدير شئ وعلي القول الأخر وهو مذهب الأخفش يفتقر إلى تقدير شئ وإذا كان الكلام مستقلاً بنفسه مستغنياً عن تقدير كان أولى مما يفتقر إلى تقدير ، هذا عن "ما" التعجبية.أما صيغة "أفعل" الواردة في صيغة التعجب "ما أفعله" فقد اختلف فيها النحاة بين الفعلية والاسمية ، فقد ذهب البصريون والكسائى وابن هشام إلى أن "أفعل" فعل ماضٍ غير متصرف ، بينما ذهب الكوفيون عدا الكسائى وابن هشام إلى اسمية (أفعل) في التعجب ،ولكلِ منهم حجيته وأدلته. (148) وقد وردت هذه الصيغة التعجبية "ما أفعله" في شعر امرئ القيس في قوله :أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا بكاءً على عمرو وما كان أصبرا(149)فقوله "وما كان أصبرا" زيدت "كان" بين "ما" وفعل التعجب "أصبرا" ، وحذف المتعجب منه ، وهو جائز.ووردت أيضاً في قول طرفة بن العبد : كلهم أروع من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة2-أفعل به :الصيغة الثانية التعجبية هى "أفعل به" ، وقد كانت أيضاً موطن خلاف بين النحويين ، والخلاف وقع بينهم حول "أفعل" ، هل هى فعل أم اسم ؟ فإن كانت فعلاً فهل صيغة الأمر فيها حقيقية أم لا؟ والهمزة هل هى للنقل أو للصيرورة؟الباء في "به" هل هى زائدة أو لا؟ وما محل ما بعدها؟
فهناك من يرى أن صيغة "افعل" في "افعل به" هى فعل ، لفظه لفظ الأمر ولكنه غير حقيقى ، إذ معناه الخبر ، أي الماضى ، والدليل على ذلك لزومه حالة واحدة ، وهى أفعل في حالة التأنيث والتثنية والجمع ، فإذا قلت : أكرم بزيد وأحسن بزيد ، فالمعنى كرّم زيدّّ وحسنّ زيد ، أي صار ذا كرم ، وذا حسن ، وقيل إن المعنى : كرم زيد جداً ، حسن زيد جداً. (151)والهمزة في "افعل" للصيرورة ، وسماها الخليل ألف التعجب "152" والباء فيه زيدت لغرض التعجب ، وسماها الخليل أيضاً باء التعجب (153) ، وما بعدها في موضع رفع فاعل وقد نقل التعجب هنا من صيغة الإخبار وهى الماضى إلى صيغة الإنشاء ، وهى الأمر ، وقد قال بهذا الرأى ابن السراج (154) وأبو علي الفارسى (155) ، وابن جنى (156) ، والعكبرى (157) ، وابن يعيش (158) ، وابن الحاجب (159) ، وابن الناظم (160) ، وأبو حيان. (161) وقد خالف بعض النحاة المتأخرين هذا المذهب في بعض جزئياته كابن هشام (ت 761 هـ) ، فهو يرى : أن الأمر في قولك : أحسن به ليس أمراً حقيقياً والفاعل مستتر فيه ، والباء للتعدية وما بعده في موضع نصب ، والمعنى عنده : ما أحسنه. (162) وهناك من يرى : أن دلالة الفعل "أفعل" على الأمر هى دلالة حقيقية وفاعله مستتر والهمزة فيه للنقل لا للصيرورة ، وزيد في قولك :
أحسن بزيد هى في موضع المفعول به والباء فيه زائدة ، وقد قال بهذا الرأى (163) الكوفيون والأخفش وابن خروف (164) ، وهناك من النحاة من عدّ "أفعل" في التعجب اسماً.يقول ابن حيان :"ورأيت لابن الأنبارى أن "أحسن" اسم وأنه يجوز تصغيره قياساًَ على "أحسن". (165) وقد استعملت هذه الصيغة التعجبية "افعل به" في عدة مواضع من الشعر الجاهلى ،كما في قول امرئ القيس :
أعالج ملك قيصر كل يوم وأجدر بالمنية أن تقودا (166)وفى قول لبيد بن ربيعة العامرى :ومقام أكرم به من مقام وهواد وسنة ومشار (167)وفى قول الحارث بن حلزة :فأنعم بجد لا يضير ك النوك ما أعطيت جداً (168)3-صيغة "فعُل" :أما صيغة "فعل" فهناك من النحاة من عدّها من الصيغ القياسية الثلاث للتعجب ، كابن هشام ، حيث يقول :"التعجب له ثلاث صيغ "ما أحسن زيداً ، والثانية أحسن به ، والثالثة فعلٌ ..... " (169) ، وكذا عدّها ابن عصفور من قبله. (170) وهناك من عدّها من الصيغ الملحقة بصيغتى التعجب ، كالأخفش ، يقول السيوطى :"وقد يلحق "فعل" المذكور بصيغتى التعجب أيضاً : حكى الأخفش ذلك عن العرب ، فيقال : حسٌن الرجل زيد ، بمعنى : ما أحسنه فيصدر بلامٍ نحو : لكرم الرجل بمعنى : ما أكرمه ..." (171) وقد سمى الخليل (ت 175هـ) هذه اللام المفتوحة التي لحقت (فعل) لام التعجب ، حيث قال :
"ولام التعجب مفتوحة أبداً نحو قولهم : لظرف زيد ولكرم عمر ، ولقضو القاضى ، أي :
ما أظرف زيداً ، وأكرم عمراً وأقضى القاضى". (172) وهناك من عدّ هذه اللام لام ابتداء أو لاماً واقعة جواباً لقسم محذوف ، والتقدير : والله لقد ...." (173) والمتتبع لأساليب التعجب السماعية والقياسية سيلحظ أن الأساليب السماعية اعتمدت على العنصر التنغيمى ، وهو تغيير صوتى يلعب دوراً مهماً في فهم المعنى المراد من اللفظ ،وسيلحظ أيضاً الكثرة في هذه الأساليب القياسية فقد أخذت ملحماً إعرابياً ، وعدم الاعتماد في فهمها عن العنصر التنغيمى ، مما أوقع النحاة في مفاهيم خاطئة لا تتفق وقوانين اللغة.