عن أسرة تحرير مجلة الحرية نبأ :
وفاة العلامة الدكتور الفاضل فوزي رشيد
************************************************** *****
رحيل العلامة الدكتور فوزي رشيد
بقلم: أ. د. جعفر عبد المهدي صاحب بلغراد- جدمهورية صربيا يوم 26/3/2011
رحل الى جوار ربه العالم الجليل والباحث العلمي الأصيل، عالم الآثار البارز الأستاذ الدكتور فوزي رشيد الذي كرس جل سنوات حياته في التنقيب والبحث العلمي في مجال علم الآثار وتاريخ حضارات وادي الرافدين.لقد تعرفت على هذا العلم عام 1997 عندما كنا نعمل سوية بجامعة السابع من ابريل في مدينة الزاوية الليبية. وعندما نقول علم فانه بالفعل راية من بيارغ العراق وفارس من فرسان ميادين البحث العلمي. وقد اقتربت منه أكثر عندما كلفت من إدارة كلية الآداب أن أضع كتابا منهجيا لمادة الفكر الشرقي القديم لطلاب قسم الفلسفة الذي كنت رئيسه يومذاك. وخلال إحدى زيارته في بيتي بالمجمع السكني في منطقة قمودة في مدينة الزاوية سلمته مسودة كتابي المذكور(الأفكار والمعتقدات الدينية في الشرق القديم)، وكنت قد اعتمدت في جزء منه على مؤلفه (السياسة والدين في العراق القديم). فاعاد لي مسودة الكتاب بعد يوم واحد فقط وعلية ملاحظاته الرصينة لتي دونها بخط يده على صفحات مشروع الكتاب. قلت له: يا أبا ميسون، يبدو أنك لم تنم الليلة الفارطة بسبب مراجعتك لمسودة الكتاب لأن هذه الملاحظات الدقيقة على متنه وهوامشه تتطلب وقتا طويلا ربما اياما وليال عديدة وانت قد انجزت ذلك في ليلة واحدة؟ فاجابني – رحمه الله- انني اتلذذ بدراسات التاريخ القديم كما يتلذذ الطفل بقطعة الحلوى. يا له من جواب جميل رائع من عالم جليل يحب صنعته ويشبهها بفطرة وبراءة الأطفال حينما يتهافتون على قطع الحلوى.ذاكرة ناشطة:والذي ادهشني بهذا العالم أنه يصحح ارقام مواد شريعة حمورابي عن ظهر قلب، ففي يوم من الأيام كنت أقرأ عليه نصا من شريعة حمورابي فأخطأت في رقم المادة فنهض من كرسيه مصححا الرقم. فوزي رشيد الانسان الحنون: الأستاذ الدكتور فوزي رشيد هادئ الطبع قليل الكلام ويفضل الاستماع على الحديث عندما يكون خارج إطار إختصصاصه، وهو كثير الكلام مستطرد فيه عندما يكون الحديث عن تاريخ العراق القديم. والذي يستمع له لا يصاب بالملل ولا من ضجر الإستطراد لأن حديثه يغتصب أذني السامع على المتابعة والإنصات لحديثه السلس الممتع. وهذا ما يفسر تشوق تلاميذه وحرصهم على حضور محاضراته بشكل منتظم. وهذا ما يفسر أيضا نجاحه في مهنته التربوية.كما يزورني باستمرار في بيتي كنت كذلك حريصا لزيارته في بيته، ومن يزوره يلاحظ بجلاء مدى مودته مع أفراد اسرته ومودتهم له ابتداء من زوجته الأستاذة راجحة – تحمل شهادة الماجستير بنفس اختصاصه – نزولا باحفاده من كريماته الثلاث (فاتن – ميسون – فائزة).


المرحوم الدكتور فوزي رشيد وعقيلته الأستاذة راجحة النعيمي سفره الوظيفي:ولد الدكتور فوزي رشيد عام 1936 . اكمل بتفوق كلية الآداب بجامعة بغداد- قسم التاريخ- عام 1960 فحصل على بعثة دراسية لألمانيا الغربية إذ انجز الدكتوراه في الخط المسماري بجامعة هاد لبرك عام 1966. وعاد الى الوطن ليعمل استاذا جامعيا بقسم التاريخ بجامعة بغداد. وشغل وظيفة مدير المتحف العراقي للفترة (1978- 1987) عاد بعدها للعمل بجامعة بغداد. ونظرا لظروف العراق الاقتصادية الصعبة خلال التسعينيات من القرن المنصرم سافر أستاذنا لليمن للعمل في جامعاتها ، وقدم الى ليبيا عام 1997 وعمل بجامعة السابع من أبريل في الزاوية ثم بجامعة النقاط الخمس في مدينة زوارة القريبة من الحدود التونسية.يتركه الأغنياء فيتلاقفه الفقراء: لم يكن تقييم الجامعات الليبية تقييما يتناسب مع مكانة هذا العالم عندما انهيت خدماته عام 2002 بسبب بلوغه السن الذي تسمح به القوانين الليبية، فتلاقفته الجارة تونس،رغم فقرها مقارنة بليبيا، وعمل في الجامعات التونسية حتى عام 2010 رغم أن عمره اقترب من الثمانين عاما فلم تنهى خدماته الا بطلب شخصي منه. وهذا ما يذكرنا بما حصل ايضا مع الدكتور فاضل الجمالي –رحمه الله - عندما خدم في الجامعات التونسية كاستاذ جامعي مقتدر ولمدة تزيد على اربعين عاما وعندما وافاه الأجل المحتوم شيعته الجماهير التونسية تشييعا بهيا وعدد المشيعين فاق عدد المشيعين الذين ظهروا وراء جنازة رئيسهم الراحل الحبيب بورقيبه. عاش الدكتور فوزي رشيد بمفرده في تونس مع بقاء كامل عائلته في ليبيا إذ كانت زوجته تعمل في جامعة الزاوية ثم جامعة زواره وكذلك كريمته السيدة ميسون فهي مدرسة ثانوية ناجحة للغة الإنجليزية. وغالبا ما كانت السيدة راجحة تذهب لزيارته في تونس ومعها بقية افراد الأسرة خصوصا خلال العطلات الصيفية. وكنت اهاتفه وهو في تونس بين فترة واخرى للإطمئنان على صحته.اسلوب شيق في الحديث مع جلسائه:عند عودته من تونس اخذت ازوره باستمرار في بيته الواقع في احد زقاق شارع عمر المختار الى جانب اسواق الاصقع في مدينة الزاوية. وقد لاحظت عليه علامات الوهن الجسدي بفعل الكبر وتأكدت منه شخصيا بانه غير معتل بمرض. كان يشكو فقط من عدم قابليته للوقوف على قدميه لمدة طويله وصعوبة يعانيها اثناء المشي، وأخذ في أيامه الأخيرة –قبل الأحداث الليبية - يضع كرسيا يجلس عليه في مدخل الزنقة التي يسكنها. وفي احدى الزيارات لبيته رافقني صديقي الليبي الاستاذ جمال الصيد اشكندالي الذي انبهر في اسلوب حديثه واهتمامه بالعلم ومواصلة البحث العلمي رغم حالة الهرم التي يمر بها. فقد تحدث عن دموزي وزواجه من الإلهة إنانا، وقال ان التاريخ في بلاد ما بين النهرين يكرر نفسه ضمن دراما شعبية تتسم بطابع ثيولوجي، وأن فكرة ديموزي من جانب الدلالة اللغوية يعني، العلا- العالي في السماء- العلو الذي لا يدانيه علو في حين أن معنى إنانا: مانعة الحليب أي الأم التي تفطم رضيعها. وهنا يشدد د. فوزي رشيد بان شخصية علي وفاطمة هي تكرار في المشهد العراقي عبر حقبات التاريخ السحقيق وحضاراته العملاقة مرورا بالعهد الاسلامي.وقد لقنت الاخ جمال بان يسأله بعض الأسئلة المحددة فسأله صديقي الضيف عن دلالة الرقم ثلاثة فاخذ يتحدث نصف ساعة عنه وكذلك تحدث كثيرا عن الرقم سبعة عندما سأله عنه، وأجاب باستفاضة عن هيبة ومكانة اللون الأسود فالقضاة يلبسون ملابس سوداء وحكام الرياضة يلبسون الأسود وسيارات الرؤساء والملوك سوداء ومفهوم السيادة والسادة له صلة بالموضوع...الخ.سرعة بداهته: يلاحظ جلساء الدكتور فوزي رشيد ان الرجل سريع البداهة لبق في اختيار مفردات حديثه ويشكل خاص إذا كان الحديث يدور حول حضارات العراق وتاريخه القديم. وبهذه المناسبة أود أن أذكر بهذا الشأن ما قرأته عنه في صحيفة الصباح التونسية في عددها ليوم 24/2/2008 إذ تم استعراض محاضرة القاها الدكتور فوزي في المنتدى الثقافي بمدينة صفاقس التونسية، وقد جاء في الصحيفةالمذكورة: " تحدث الدكتور فوزي رشيد بتلقائية كبيرة في محاضرته عن جوانب من حضارة العراق القديم تتعلّق بالفكر الحضاري و بعده الإنساني ، فركّز على ثلاثة محاور هامّة هي : المرأة في المجتمع و الدين ، و الخلود و الحرّية .، و اعتبر في البداية أن حضارة العراق حضارة عميقة أفرزت بعض الممارسات منها اعتماد بعض ما أسماه بقوانين السحر ، فأشار إلى أن اليد اليمنى أقوى من اليد اليسرى ، و هي ظاهرة حضارية في اعتقاده ،و شعر المرأة أطول من شعر الرجل و الصلع الذي يصيب الرجال فقط ، ثم خلص إلى الحديث عن مسألة التشابه ، فالخير لا يأتي منه إلا الخير و الشر لا يأتي منه إلا الشر، وأشار إلى أن المرأة أصبحت زعيمة الطقوس الدينية و الزراعية ، فأطالت شعرها لاعتقادها بأن لديها البعض من صفات الآلهة...". والذي شد انتباهي في الموضوع عفوية اجابات فقيدنا عن اسئلة الحضور وملاحظاتهم المتعلقة بمحاور المحاضرة، فقد علق احد الحاضرين قائلا:" الأساطير المتعلقة بالمدن وظاهرة اهتمام المرأة بالزراعة ليست ظاهرة عراقية، إنّما هي ظاهرة إنسانية ، وكذلك ظاهرة الشعرالطويل الموجودة لدى بعض الرجال...". فقد اجاب الدكتور الحاضر وعلى الفور: " إن الزراعة ظاهرة انسانية فعلا ولكن من اين انطلقت؟ لقد انطلقت من العراق مهد الحضارات، فهي إذن ظاهرة عراقية بالأصل والولادة .ثمّ أشار إلى الرجال أصحاب الشعور الطّويلة والأقراط و الأساور هم من " الخصيان "و قد كانوا وقتها يكلّفون بحماية نساء الملك".حسراته عندما يذكر اسم العراق: وبمناسبة عودته الى ليبيا عملنا حفل غداء على شرفه في تشرين الاول 2010 في مزرعة الدكتور حسين شفشه بمنطقة انجيله لاحظنا بطئ حركته في المشي وعدم مقدرته بمواصلة التخطي على الرمل فكان يفضل الدوران بمسافات عند تحركه داخل المزرعة ليسلك ارضا صلبة لان الارض الرملية تتعبه. وحضر حفل الغداء عددا من الاساتذة منهم الدكتور سعيد الفاندي والدكتور علي القصبي وعدد آخر من الاساتذة منهم محي الدين القمودي والسوري الورشفاني وياسين السنوسي ورشيد ابو حميره ومحمد ابوسيفي وخالد السنوسي وفتحي شلغوم وغيرهم. وقد لاحظت كما لاحظ الاخوة الليبيون حسرات وتنهدات الدكتور فوزي رشيد العميقة كلما يذكر اسم العراق ولسان حاله يقول: الغربة داء طوعي لا دواء له الا العودة للوطن، ولكن الوطن نفسه اصابته العلل التي تجبر علمائه الى الرحيل والتحسر بسبب ما آلت اليه الامور من قتل وتصفية للعلماء والأكاديميين من قبل آياد خبيثة خفية.عودته لأرض الوطن:أنقطعت صلتي بفقيدنا الغالي قبل شهر من موته وذلك يوم تركت ليبيا في 24/2/2011 إذ سافرت على متن الخطوط الجوية اليوغسلافية وبصحبتي عائلتي الى العاصمة الصربية بلغراد – وذلك بسبب الأحداث التي عصفت في ليبيا، وفي بلغراد علمت بوفاته عن طريق مكالمة هاتفية من الدكتور صفاء داود الصفار، ويبدو ان الدكتور المرحوم قد غادر ليبيا الى بغداد بعد سفري لصربيا باسبوع واحد على متن الرحلات الجوية التي قررت الحكومة العراقية ارسالها لاجلاء الرعايا العراقيين من هذا البلد.واشعر أن موعد رحيله عن هذه الدنيا كان ينتظره على ارض الرافدين التي كرس كل حياته لكشف عظمة حضاراتها الانسانية الراقية.وبرحيل زميلنا الدكتور فوزي رشيد يودع العراق والعراقيون عملاقا اكاديميا في مجال الآثارشأنه شأن العديد من العلماء العراقيين الذين عجلت غربتهم موعد رحيلهم عن الدنيا بفعل المكابدة والاجواء النفسية التي تلازمهم وهم خارج وطنهم الحبيب فليس من الغريب أن يعشق علماء العراق عراقهم. ويبدو أن لسان حلهم يسأل: هل من محب يتلذذ بعيش بعيدا عن حبيبه؟ تراثه الفكري:رحل الدكتور فوزي رشيد الى جوار ربه بعد ان ترك للعراق تراثا علميا زاخرا،فبالاضافة الى بحوثه العلمية الرصينة في العديد من الدوريات والمجلات والدوريات المحكمة ترك لنا الفقيد مؤلفات علمية نادرة تبحث في جماليات حضارات العراق القديم منها: قواعد اللغة السومريةقواعد اللغة الأكديةطه باقر- حياته وآثارهظواهر حضارية وجمالية من التاريخ القديمالشرائع العراثية القديمةالسياسة والدين في العراق القديمعلم المتاحفالفكر عبر التاريخ السلسلة الذهبية – للاطفال والتي بدأها بكتاب سرجون الآكدي أول امبراطور بالتاريخ- ومنها كتاب الملك حمورابي مجدد وحدة البلاد- وكتاب آشور أفق السماء- وكتاب الأمير كوديا- نرام سن ملك جهات العالم الأربع- وكتاب ابي سن آخر ملوك سلالة أور الثالثة.ويسجل رحيل الدكتور فوزي رشيد خسارة العراق لعالم من علمائه الأفذاد التي تطحنهم الغربة وتعجل بموتهم وصدورهم مليئة بالحسرة على وطن يعد من أغنى بلدان العالم ولكن تداعيات ظروفه الحالية جعلته اليوم بالشكل الذي يعرفه الجميع.رحم الله فيقدنا الذي ترك لنا ولأجيال العراق تراثا علميا عظيما. وستظل ذكراه طيبة بطيبة روحه الطاهرة.

ملف مرفق 978