أكّدت أنّ المَوْهِبة الحَقيقيّة قادرة على مُقاومَة أسْوأ الظّروف
القاصّة السّعوديّة زهراء موسى في حوارٍ صَريح:
لا ألتفِت مُطلقًا لمُحاولات الاسْتفزاز، ولا أنوي قهر فكري وحشرهِ في قالبٍ واحِد خاص بشبكة التوافق الإخباريّة حاورتها لصالح الشّبكة:
زينب البحراني ليست مُجرّد قاصّة، ولا فيلسُوفة صغيرة فحسب، وإنّما أديبة مُثقّفة الرّوح بامتياز. من ذاك النّوع الذي تتغذّى حياته على الصّبر والإيمان بالله والثّقة بالنّفس ليواجه بقوّته المعنويّة جبروت التّحدّيات في عالم الأدب، وعالم الحياة الواقعيّة، كبطلةٍ خُرافيّةٍ فرّت من صُلبِ روايةٍ أسطوريّةٍ مشحونةٍ بصُور الخير والحق والجمال، لتبني عالمها الجميل بالحبر والورق علّه يكون أملاً جديدًا فوق عالمٍ واقعيّ كبيرٍ من الخراب، في مُجتمعٍ لا يكاد يعترف بغير التّشابُه، التّقليد،التّسطيح، والسّلوكيّات المُستهلِكة. رُبّما انعكَس تواضُعها الشّديد على صعيدٍ شخصي ليُلقي بظلاله على عنوان مجموعتها القصصيّة الأولى "إحداهُنّ"، لكنّ إجاباتها على أسئلة هذا الحوار تؤكّد أنّها ليست من "إحداهنّ"، كيانٌ بلا لونٍ ولا مذاقٍ ولا رائحة كأكثر الهائمات دون إدراكٍ لماضٍ أو مُستقبل، وإنّما كيانٌ ينفردُ بذاتٍ لا يسعك أن تجتاز ما تقول دون أن تراها بوِجدانِك. لهذا كانت القاصّة السّعوديّة "زهراء موسى" بطلة حِوار شبكة التوافُق الإخباريّة هذه المرّة، وهكذا سألناها وأجابت في حوارٍ شيّقٍ صريح. لكتابك عليك حق - التوافُق: أعلم أنّكِ أجبتِ من قبل على عددٍ لا بأس به من أسئلة الحوارات واللقاءات الصّحفيّة والإعلاميّة، لهذا سأحاول أن تكون بدايتي غير تقليديّة. سأحاول اقتحام كينونتك الإنسانيّة والإبداعيّة بكلمة "أكشن" فوريّة أبدأ معها الحديث بسؤالك: كيف حالك زهراء؟ كيف تشعرين هذه الأيّام الماضغة للأعصاب على الصّعيد الشعبي العربي العام فوق ما كُنّا نُعانيه على الصّعيد الإنساني الشخصي في أكثر الأوضاع استتبابًا؟ - زهراء موسى: راقبنا لحظة بلحظة أحداث تونس ومِصر، وفرحنا لتحرّرهم من طُغاتهم، وطال صبرنا مع أهل اليمن، ودَعَوْنا مع الليبيين على السّفاح، غضِبنا لغضب أهل البحرين وبكينا لبُكائِهِم، وحبسنا أنفاسنا لما يُحاك ضد سوريا، هذه الأوضاع صَهرتنا وأذابَت الشوائب التي عَلِقت بنا وصفّت جوهرنا، هذه الأحداث جعلتنا نفيق من نوم الغفلة، ونعرف عدوّنا من صديقنا، نعرف موقعنا، وإلى أين تسير الأمور. - التوافُق: حسنٌ؛ لنسمح للحوار أن ينعطف مُنعطفًا جريئًا هذه المرّة وأسألك: بصراحة؛ ألا تُشعرين أنّك "مظلومة" على صعيد الانتشار الأدبي رُغم كُل الجُهد الذي تبذلينه للاشتغال على ذاتك وعلى أعمالك؟ خطر لي هذا السؤال من مُنطلق شعوري كـ "قاصّة وكاتبة" قبل أن أكون مُحاوِرة صحفيّة، وكزميلة على خط المعاناة الأدبيّة ألاحظ أنّك تتعبين كثيرًا على جميع الأصعِدة، على صعيد الكتابة، الاشتغال على النص، مُحاولات التسويق، التواصُل مع زملاء المجال ذاته، ومع هذا لا أجد أنّ "رد الفعل" على مجهودك مُساويًا له في المقدار ومُتجهًا لصالحك بما فيه الكفاية. ما هو السّبب من وُجهة نظرك؟
- زهراء موسى: قد أشعر بالظلم في نواح عدّة من حياتي ليس من بينها الظلم على صعيد الانتشار الأدبي، فالانتشار الأدبي يكون من نصيب اثنين: كاتب يفهم السّوق، يبحث عن الرّائج ويقدّمه. وكاتب يمتلك عُمق التجربة، والنضوج الفكري المعرفي، ما يخوّله ليرى ما لا يراه الآخرون. وأنا لست الأول ولن أكونه إن شاء الله، والثاني لم أصِل إليه بعد، لذلك فوضعي طبيعيّ جدّا، كاتبة مُبتدئة تعمل لتكبُر، ومعنيّة بأن تكبُر من الداخل أكثر من أن تتضخّم من الخارِج. المجهود الذي بذلته في التواصل والتسويق لمَجموعتي الأولى ليس سِوى مُحاولة للقيام بالواجب، أعتقد أن لكتابك عليك حقّ، وحقّ كتابك أن تمنحه فرصته في الوصول إلى الآخرين. - التّوافُق: هل تعتقدين أنّ هُناك أسباب "قِبليّة" أو "فِئويّة" لها عِلاقة بانتشار أسْماء بعض الأديبات السعوديّات، وتجاهُل أسْماء أخرى؟ - زهراء موسى: كما أسلفت في ردّي السّابق، إن الرّواج من نصيب فئتين: فئة تعرف سبل التسويق وتفعل أيّ شيء من أجل الانتشار، وفئة تفرض أعْمالها بالقوّة لأن أعمالها متفوّقة في ذاتها وجديرة بالانتشار ولو بين النخبة، ولو لم يكن لها نصيب عند القارئ غير النوعيّ. وبما أنك حدّدت (القبلية والفئوية) أجيبك بأنّ الكاتب الطامع في الانتشار بأيّة طريقة لن يتورّع عن توظيف (القبلية والفئوية) كوسيلة تحقّق له الانتشار، لكن الثابت بأن العمل الجيّد والجدير يتخطّى عقبات (القِبلية والفئوية) ويتجاوزها فارضًا نفسه حتّى على الأباعِد والمُخالفين. - التّوافُق: العِلاقات العامّة.. التواصُل الإعْلامي المُكثّف.. الوَسَاطات والمحسُوبيّات، كُلّها مفاتيح لانتشار اسم الأديب في عصرنا الحاضر، لكنّ المرأة في منطقتنا مازالت – في الغالب- بمنأى عن الوصول إلى تلك المفاتيح. هل تؤمنين بذلك؟ وما السبب أو الأسباب من وُجهة نظرك؟ - زهراء موسى: شخصيًا لست آسفة على فوات تلك المفاتيح، لأنها في أغلبها رخيصة، حتّى التواصُل الإعلامي الذي يعتبر الأكثر براءة من بين المفاتيح التي ذكرتِها لا ينبغي أن يشغلنا، لأنه عندما يكون لدينا ما يستحقّ فإنه سيُجبر الإعلام على التفتيش عنا؛ بل مُطاردتنا. الإعلام يعرف طريقه. وإذا كانت خصوصية وضع المرأة تحرمها من بعض مزايا الرجل في سُهولة التواصل وسعة شبكة العِلاقات، فبالمُقابل هي تتمتّع بامتيازات لا تتوفر للرّجل: منها أن المُنافسة داخل السّاحة النسائية أقلّ ضراوة، فكونك كاتبة أو مثقفة بين نساء قلّ من حظِي بهذه المزيّة بينهن، فإن هذا يزيد فرصِك في البُروز، على عكس الرجل الذي عليه أن يقاتل ليثبت وجوده في ساحة مليئة بالمتميزين والبارزين والضالعين، كما أن مُجرّد كونك امرأة يفتح لك أبوابا لا تفتح أمام نظيرك الرجل، هذا لو قبلتِ أنتِ بهذا النوع من الأبواب.
- التّوافُق: معكِ حق، وعنّي أنا لا ولن أقبل بطبيعة الحال.. وسائل الانتشار الغير مشروعة تنعطف بنا نحو سؤالٍ آخر، وهو أنّنا اليوم في السعوديّة نُعاني طفرةً مُرعبة في عدد "الموهومين" أدبيًا أمام "الموهوبين" والمُجتهدين في هذا المجال فعليًا. لن أقول أنّ لهذا مخاطره على تاريخ الأدب السعودي مستقبلاً إيمانًا مني أن "البقاء للأصلح"، لكن الواقع يقول أن لهذا مخاطره الكبيرة على انتشار الأسماء الموهوبة والمُجتهدة بمزاحمتها إعلاميًا والتهام فُرصتها المشروعة في الإعلان عن نفسها. ما الحل لمُكافحة تلك الظاهرة السرطانيّة من وُجهة نظرك؟ - زهراء موسى: أميل للرّأي القائل بأن البقاء للأصلح، ولا أرى تهديدًا في مُزاحمة الموهومين، وليس على الموهوبين أن يقلقوا أو يخافوا، فالموهبة الحقيقيّة تصمد وتثبت وجودها، وهي قادرة على استثمار أبسط الموارد ومقاومة أسوأ الظروف. التّوافُق: استمتعتُ بمُطالعة مجموعتك القصصيّة "إحداهُنّ". غير أنني شعرتُ أن إرفاق مسرحيّتك اليتيمة بذيل المجموعة بدلاً من طباعتها كإصدارٍ مُنفرِد كان فيه غبنًا كبيرًا لها، ولحقّك كمشروع فنّانة تستحق الالتفات، والاهتمام، والتصفيق. هل خطر لكِ ذلك بعد النّشر؟ - زهراء موسى: في الإصْدار الأول يغلب الخلط، وأجدها خطوة موفّقة ولله الحمد أن يكون إصداري الأول قصصيّا بالكامل، وليس خليطا بين قصّة وخاطرة ومقال، بالنسبة للمسرحيّة - أو التجربة المسرحيّة بالأحرى- فقد اضطررت لإلحاقها بالمجموعة لأنها كانت صغيرة ولا أستطيع إفرادها بإصْدارِ خاصّ، أقول عنها تجربة أو مُحاولة لأني لم أقرأ كفاية في فنّ الكتابة المَسْرحية، وأعتبر مسرحية (شهد وبرد) بدائية مقارنة بما وصَلَت له الكتابة المسرحيّة. - التّوافُق: ألا تحلمين بأن تنبعث مَسرحيّتك لتقفز من الوَرق إلى أرضِ الواقع وتُمثل على خشبة المسْرح ولو خارج السعوديّة؟ - زهراء موسى: لا، حلمت أكثر بقصّة (مجنون الجبل) لأنها من عُمق الميثولوجيا الأحسائية، رُبما ساهم في فكرة تحويلها إلى عمل فني تعليق الفنان "إبراهيم الحساوي" وقتها، وأمنيته أن تتحوّل لعمل تلفزيوني أو غيره. - التّوافُق: وهل أنتِ راضية عما حققته "إحداهنّ" كإصدار؟ أم تشعرين بإحباطٍ لا تدرين معه كيف سيكون مصير إصدارك المُقبل؟ - زهراء موسى: أنا لسْتُ راضية، ولا مُحبطة، ولا أُحمّل أحدا مسؤولية محدُودية انتشار مجموعتي، كونها تجربة أولى، غير ناضِجة، وكوني لم أبذل جهودًا كبيرة في ترويجها. بالنسبة لفكرة إصْدارٍ مُقبل، فليس بالضّرورة أن يكون قصصيّا، هذا ما أميلُ مع الوقت لترجيحه. فرُغم ازدحام الأفكار ونموّها، ورُغم حُبّي الكبير للقصّة، لكنني لم أكتب قصّة مُنذ مُدّة، تبقى القصّة بالنسبة لي شكلا من أشكال التعبير، ولا أنوي قهر فِكري وحشره في قالب بعينه، المهم عِندي أن تكون وسِيلة التعبير مُناسبة، قصّة كانت أو رِواية أو غير ذلك. حسد.. إنكار.. وتجاهُل - التّوافُق: صرّحتِ مرّةً خلال تحقيقٍ صحفي مُشارك مع مُبدِعات خليجيّات أخريات - كُنتُ قد أجريته معكِ من قبل- بوجهة نظرك التي تقول أنّ "المرأة لا يُمكنها التخصص في مجالٍ واحد بسبب الأعْباء والمسْؤوليّات الواجبة عليها".. من جانبي – كامرأة- لا أتفق مع هذا الرّأي، وأرى أنّ المرأة باستطاعتها تحقيق تلك المُعادلة لو نالت حقها من تعاون الأسرة والمُجتمع وشريك الحياة قبل الجميع.. ماذا تقولين في هذا السياق؟ - زهراء موسى: ربما يكون الحقّ معك، وربما عمّمت وقتها تجربتي، أو استقرائي الناقص، لأني من خلال الملاحظة وجدت أن أغلب النساء الناشطات في أيّ مجال معرّضات للتقصير؛ إلا إذا استدركنا باستثنائك الذي يقول بحقّ المرأة في الحُصول على دعم شريكها وأسرتها ومجتمعها. شخصيًا لا أكلّف أحدًا بمُساندتي، ولا أعتبره حقّا من حقوقي على أحد، ولكِ أن تعتبريها سلبيّة أو نكران للذات أيّا يكن، بالطبع لو حصلت على مبادرات دعم دون تكليف أو طلب فسأرحّب وأسعد بها. - التّوافُق: وصرّحتِ مرّةً ثانية أن "من أهم مشاكل المرأة المُبدعة في مُجتمعنا أن زميلاتها في الوسط الإبداعي ذاته يواجهنها بالتجاهُل والحسد والتسقيط بدلاً من التعاون والمساعدة" أتفق معكِ في هذا الرأي، لكن ألا ترين أن جُزءًا من هذه المشكلة يكمن في "السلبية الشديدة" لأكثر النساء المنتميات لهذا المجال، بمعنى أن أكثرهن خاملات، كسولات، يتوهمن أن الكتابة وحدها تكفي مُغنيةً عما يجب أن يواكبها من مجهود للتواصل، والتسويق، والتشجيع المتبادل بين المبدعات؟ - زهراء موسى: المشكلتان موجودتان معا، وإحداهما لا تلغي الأخرى، ليس كلّ المُبدعين مهمومين بالتسويق، التعبير الأكثر دقّة بأن أكثر المُبدعين لا يملك موهبة التسويق، ولا معنيا بها، ويجدها عمليّة مُرهقة ومملّة، أساسًا هذه من مسؤوليّات دور النشر، والكتّاب الكبار يوظفون من يقوم بهذه المهمّة نيابة عنهم، ويكفيهم همّ التسويق الذي هو في الواقع ليس من صميم اختصاص المبدع. أما مُشكلة الغيرة النسائية والحسد فهي واضحة وملموسة، وإن وُجِدَت كذلك في وسط الكُتّاب الذكور لكنها في الوسط النسائي أكثر ضراوة، وتأخذ أشكالا متعدّدة من التجاهل وعدم التعاون حتّى الإنكار ومحاولة الإحباط، إلى محاولات مُستميتة ومزرية لسَرِقة الأضواء. - التّوافُق: كذلك صرّحتِ مرّةً ثالثة أنّ افتقار مُجتمعنا السعودي لـ "ثقافة الاختلاط" حتى في الأوساط الثقافيّة والإبداعيّة يحد كثيرًا من انطلاق الشخصيّة الإبداعيّة، ويحصر فرصها في أطر ضيّقة، لا سيّما بالنسبة للمرأة. أعترف باتفاقي مع هذا الرأي لا سيّما وأنني من أشد المُناهضين لثقافة "العزل المُتعمد" بين المبدعين والمُبدعات في بلادنا ، والتي أجدها تُعلن عن تخلّفٍ إنساني كبير غير قادر على مواكبة التقدم الإنساني والإبداعي في أقرب الدول المجاورة لنا. برأيك؛ كيف باستطاعة المبدعين من ذوي النفسيّات السويّة إيجاد حلول مُلائمة لتلك المُشكلة؟ - زهراء موسى: في الحديث عن ثقافة الاختلاط الموضوع متشعّب، قلتُ في التحقيق الذي أشرت إليه أن الوسط الثقافي يرفض سِياسة الفصل بين الجنسين، وأن المُجتمع يرفض فكرة الاختلاط، وقد التمست العذر للمُجتمع وأبديت وجاهة الأسْباب، المُشكلة ليست في أصل الاختلاط، فهذا الفصل الجائر في زماننا لم يكن موجودًا في الأزمِنة السّابقة بما فيها زمن الرّسُول (ص)، وحتّى في المُجتمعات المُتدينة الأخرى مثل إيران والعراق وجنوب لبنان، لا نجد مثل هذا الوَجَل المُفرط من فكرة الاختلاط، أتمنى مثلك أن يحظى مُجتمعنا بذات التجربة، ويصل لِمرحَلة النضوج في التعامل المُباشِر بين الجنسين، لكن تشخيصي الحالي، ومن واقع تجربة، فإن الأنشطة المختلطة تبعث على الاستياء لكثرة التجاوزات، المسألة مسألة أولويات، إذا كنا سنعطي الأولويّة للفعالية ونجاحها فبالتأكيد الاختلاط سيعطي نتائج ملموسة، لكن لو كانت نظرتنا أعمق وأكثر أصالة فعلينا أن نعترف بأن الخسائر في جانب حشمة المرأة وحيائها وسلامتها وخيمة. وهذا ما عنته السيّدة الزهراء (ع) بمقولتها الشهيرة (خير للمرأة أن لا ترى رجلا، ولا يراها رجل)، المشكلة مع هذه الرواية أن الناس عمّمتها بشكل سيّء وأعطتها قوّة الوجُوب، بينما السّيدة الزهراء استخدمت كلمة (خير) والتي أفهمها كـ"توجيه" وليس كـ "إلزام"، المرأة المُثقفة مُضطرّة للتعامل مع الجنس الآخر، لأن الوسَط الذكوري وسط نشط، ومُناسِب لاحتِضان موهبة المُبدِع، وتنميتها، على خلاف المُجتمع النسائي البعيد عن الهمّ الثقافيّ والفكريّ، والذي تنحصر اشتغالاته في حيّز محدود يغلب عليه الطابع الحسيّ. أما سُؤالك عن الحُلول المُلائمة لهذه المُشكلة، فالحلّ ليس بيد الأسْوِياء، لأن مَرْضى القلوب أكثر منهم، وهم مُتنفذون وأيديهم طويلة، هذه الفئة تعيث في الساحة الأدبية والثقافية أشرًا وبطرًا، ولا أعرِف وسِيلة للخلاص من شُرُورِهِم. تُعذّبني البيئات الاستهلاكيّة - التّوافُق: أنتِ وأنا من البيئة الاجتماعيّة ذاتها، وهي بيئة تظلم المرأة المُبدِعة كثيرًا بإجبارها على التواصُل اليومي مع نسوة "عوام"، حُرمن من التربية النفسية الكافية، والتعليم، والثقافة التي تؤهّلهن لفهم أنفسهن فضلاً عن تفهّم التركيبة النفسيّة الاستثنائيّة لتلك المرأة المُبدعة.. كيف تتعاملين مع تلك البيئة؟ ألا تشعرين أن ذلك يدفعك أحيانًا إلى الجُنون على الرغم من صبرك؟ - زهراء موسى: يدفعني للانعزال، والاختلاط بهم بقدر، لا أسْتطيع البقاء طويلا في تلك الأجْواء، لأني بطبيعتي شخصِيّة ناقدة وألاحِظ التجاوزات والأخطاء والقصور، فبقائي في مكان يعجّ بضوضاء الأخطاء يُصيبني بالتوتر، وهي مُشكلة لا تنحصر في المُجتمع النسائيّ فحسْب، بل في البيئة الاسْتهلاكية عموما برِجالها ونِسائِها، إذا أردتِ تعذيبي فعليكِ وضعي في بيئة استهلاكية كالمُجمّعات التجارية، وسط بشر لا يفعلون شيئًا سِوى الاسْتهلاك، اسْتهلاك الطّعام والبضائِع والتسلية والمتعة، حيث الإعْلانات الجشِعة تحيط بك وتحرّضك على المزيد من الشراهة والاستهلاك، هذه المَحْدوديّة والغفلة تعذّبني، وللنساء منها النصيب الأوفر. إنما للحقّ؛ أنت ككاتبة، كقاصّة تحديدًا، ستجدين في الوسَط النسائي الكثير من الشخصيات المُلهِمة لفرط رِقتها وبسَاطتها أو لفرط بشاعتها وتعقيدها، وستجدين الكثير من بذور القِصص التي تنتظر من يزرعها، وهي فرصة يحسِدكِ عليها الكتّاب الذكور. - التّوافُق: لكُل مُبدع بين قومٍ جُهلاء نصيبًا من السخرية. هل واجهتِ هذا النصيب من قبل؟ - زهراء موسى: لم أواجه السّخرية من قبل أسرتي ولا مُجتمعي، ولا من قِبَل قُرّاء ولا نقّاد، بل من قبل بعض الذكور المُتعالين الذين لسَببٍ ما يكرهونَ رؤية المَرْأة أو سماع صَوتها، وهُم على فكرة ناشطون ويعتبرون أنفسهم نُخْبة! ربّما لأنني قادِمة من بيئة مُختلفة، بيئة أدبية وِجدانية مِثالية، بينما اهتماماتهم عملية واقعية سياسية، ربما لأنني أصْدِمهم بفكرٍ مُغاير، ولأنني أعتني بالتفاصيل. رُبّما بسبب لُغتي الناقدة في الحِوار والتي لا تخلو من حِدّة، الأمر الذي يُحرِجُهم ويدفعهم لإسْكاتي بأيّة طريقة وأسْهلها وأقربها تناولاً: "أنتِ امرأة.. لا مكان لكِ هُنا.. عُودِي لعالمِك" . - التّوافُق: وكيف كان ردّ فعلك؟ - زهراء موسى: بالطّبع هذا لا ينجح مَعِي، بل يزيدني عِنادًا وإصْرارًا، فلا ألتفت مُطلقا لِمُحاولات الاسْتفزاز والسّخرية، بل أركّز على هَدفي، وأسير نحوه. - التّوافُق: المُبدعون الأصلاء، لا سيّما جيل الرّواد منهم، يؤمنون أنّ المُبدع بأحاسيسه المُرهفة لابد وأن يعيش وقته كُلّه في "حالة حُب". ليس بالضرورة أن يكون حُبًا لشخصٍ مُحدد، وإنّما حُبًا كونيًا ينبثق من الدّاخل ليكون صمام أمان قادر على تخدير الأحزان وتحدّي مشاعر اليأس مهما كان حجمها. كيف تصنعين أجواء الحب تلك؟ باحتواء أطفالك؟ بمُشاهدة فيلمٍ رومانسي؟ بمقطوعةٍ موسيقيّة؟ بالتوحد البصري مع البحر ذات ساعة حُريّة نادرة؟ أم بطُرقٍ سِريّةٍ أخرى؟ - زهراء موسى: ربما جميع ما سبق، لكن هِوايتي المفضّلة هي التأمّل في هذه السّجادة الفارسِيّة التي اسْمها الحَيَاة، بخطوطِها الدّقيقة وتلافيفها المُبدعة، أرى فيها جَمال الله وعدله، ويحدث كثيرًا أن أقلب السجادة لأتأمل الشبكة الخلفية لهذه السّجادة، إذ تنقلني لمرحلة الصنع، وإلى التشابك الخفيّ الذي يعكس الجمال الظاهر، تأمّل الحياة يريني عدل الله الذي فتّشت عنه طويلا وافتقدته في كثيرٍ من الأحيان، لكن التأمّل أثبت لي أن عدل الله سُنّة تسري في كلّ الأحوال بشكل حتميّ، فحتى لو وقف البشر في طريق تحقّق عدل الله فإن العدل يجد طريقا آخر، ولو كان نفقا خفيًا، البشر يخترقون سُنن الله ويحدثون ثقوبا في منظومة العدل الإلهي، لكني كنت مخطئة حين اعتقدت بأن الحياة وسنن الله التي تحكمها خرقة بالية شوّهتها الثقوب، الحياة في الواقع هي قماش من الدانتيلا بتخريماته التي تشفّ عن الجمال الذي يستره، فحتى لو قصد البشر خرق القماش وتشويهه فإن الجمال يظهر من تحته، جمال عدل الله الذي يسري في كلّ العوالم وفي كلّ الظروف. الأزمة الطّائفيّة..ونار النّمرود - التّوافُق: نحن نُعاني أزمة طائفيّة حادّة في المنطقة خلال هذه الفترة، ولا يسعنا أن ننكر أن منشأ تلك الأزمة يكمن بدرجةٍ كبيرة في "العقليات المسطحة" و "الألسنة الببغائيّة" للعوام من الناس، الذين يرددون ما يسمعونه من ثرثرة، ولغط، وشتائم، دون تفكّر، أو تدبّر، أو بحث، أو استقصاء. وعلى اعتبار أن المُبدعين، والفلاسفة، والمثقفين، هم أطبّاء المُجتمع الجاهل؛ ما هو دور المبدع والمثقف الأصيل للتخفيف من هذا الاحتقان النّاجم عن تراكمات تخلّفيّة معقّدة؟ - زهراء موسى: دوره دور ضفدعة نبيّ الله إبراهيم (ع)، الطائفية نار نمرود هذا العصر، والوِحْدة هي المُعادل لنبي الله إبراهيم الذي أوقِدَت النار لإحْراقه، وربّك قادر على جعل نار النمرود بردًا وسلامًا وإخراج الوِحدة الإسلامية سالمة دون أن يمسها سُوء، الأمر يتعلق بإرادة الله، أما دورنا نحن البشر فهو إظهار معدننا. منا من سيختار دور "الوزغة" وسينفخ في نار الطائفية، ومنا من سيأخذ دور "الضفدعة" ويملأ فمه الصّغير بالماء محاولا إطفاء الفتنة، لا الوزغة أشعلت النار، ولا الضفدعة أطفأتها، لكن كل يعمل على شاكلته، وغدًا يُحاسبنا الله على نوايانا ومواقفنا.
- التّوافُق: بماذا تحلُمين يا زهراء؟ ماذا تتمنين لنفسك دون قيود؟.. تذكري أن "الأحلام" مجانيّة، ولكِ الحق في التعبير عنها كما يحلو لكِ، لذا لا تكوني بخيلة! - زهراء موسى: لو لم تشترطي أن تكون الأمنية لنفسي لكانت أمنيتي أن لا يبقى في الحياة إنسان بلا طعام ولا دواء ولا سكن، أما أمنيتي الخاصة فهي أن أعرف، أن أعرف ما يستحقّ المعرفة وما معرفته ضرورية ومثمرة، ما معرفته تجعلني أشرف على الكون من مكان يسمح لي برؤية واضحة شاملة تؤهلني لأن أحكم بالصواب وأقرّر الصواب.