وحدة الموضوع في قصائد عبد الكريم عبد الرحيم


"المكان نموذجاً"
عدنان كنفاني

مفردات معجونة بماء الروح، يجدل الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم من حروف اللغة ضفائر من فضّة تتلظّى في واحات الأسئلة التي ما زالت تتقاطر نازلة بسخرية متوحّشة على أرض لا تشبه الأرض، بين أربعة سواتر من خيش مهترئ، أضلاعه المسكونة ببؤس اللجوء تحجب مساحة، أصبحت تسمى بمفردات الأيام العجاف.. بيتاً، يلتقطها.. ليصنع منها جناحين يحلق بهما عبر ضباب الذاكرة، وبياض المفارق، وسطور الحكايات، وإلماعات الصور، ليدخل إلى المكان.
أيّ مكان ذلك الملوّن بألوان خرجت من حنين الذاكرة عن منظومة الألوان، لترسم صورة لوطن لا يشبه أيّ وطن.! يحمل في تفاصيل المفردات الماضية إليه متاع القداسة، حتى لتحسبه، مع توالي الصور الراجفة بالصدق، قطعة سقطت ذات حب من أسفار الجنّة لتتربع على أرض شكلت جبالها وسهولها وماءها وفضاءها وشماً أزلياً، فكانت فلسطين.!
تُستنفر الحواس، وتُستحضر الصور، وتَفرد الذاكرة شراعها على "تهويمات المكان" ، لتبدو بواكير تضاريس الوطن تحتضن بحيرة "طبرية"، فيشرق الشاعر فرحاً، يكاد يلمس صفحة الماء، ويشمّ روائح الشيح، وخبز الطابون، ويكاد يضع خطواته على أول الطريق الذاهب إلى الجرمق:
هذا إذنْ وطني
حجارتُهُ الأملْ
وإذا يطوّقني ذراعاهُ يعاودُني الغزلْ
وأضيء شمعي
إنْ حبسْتُ نجومَهُ
وتركتُ في لغتي ضبابَ الشوقِ
منْ مثلي على ماءِ البحيرةِ قد مشى
حباً وصلَّى واشتعَلْ!.. "من قصيدة تهويمات المكان" ص 66
إن اللغة الباذخة التي رسم بها الشاعر تلك الصور السابحة في عوالم الرقّة والجمال، والتي تجمّل بها ديوان "وأدخل في مفردات المكان (**)" "للشاعر عبد الكريم عبد الرحيم (*)" لم تُخرج القصائد عن وحدة موضوعاتها، ولم تخلط بين الأفكار إلى درجة الارتباك، "كما نلاحظ عند الكثيرين من الكتاب الذين يحاولون من خلال نصّ واحد زجّ أكبر قدر من الموضوعات والأفكار"، بل تمكن الشاعر أن يفرد من شفافية اللغة فضاءات شكل فيها الصور بالألوان والمعاني التي وهي تأخذنا بسحرها الجميل، تبقى لخدمة النص والموضوع.
هذه اللغة الراقية في الديوان حرضتني، وأنا أمتشق شدو القراءة، أن أدخل إليه من خلال هذه المقدمة، وأبحث بين المفردات التي أرادها الشاعر أن تحمله إلى المكان كيف يشتغل الشاعر على وحدة الموضوع في رؤيته للمكان.
ويبقى المكان، بكل تجلياته وصوره وذكرياته هاجساً يكاد لا يفارق مخيّلة المبدعين الذين تجرّعوا فقد المكان.. الوطن، وهم بطبيعة الحال "والشعراء خاصّة" الأقدر على امتلاك وسائل التعبير عن هذا الفقد المفجع، وأستطيع أن أقول أيضاً بأن شاعرنا عبد الكريم عبد الرحيم في طليعة الذين اشتغلوا بالكلمة والنبض والإحساس على هذا المسار، وأستطاع أن يدخل إلى تهويمات المكان، وأن يرصف في سبيله إلى ذلك طريقاً تتناثر على جنباته الصور والمفردات لتكرس فيما بعد في القصيدة الواحدة شعائر وحدة موضوع المكان.
فالمكان ليس قيمة جغرافية فقط، بل هو إضافة إلى البعد الجغرافي المهم لتأصيل انتماء أفراده إليه بتواجدهم المستديم فيه وعلى أرضه، هو أيضاً قيمة إنسانية وحسيّة تجمع التراث والذكريات وملاعب الطفولة وكل ما يمت وينبع من الوطن، وتصبح بواقع الفقد قِيَماً أكثر حضوراً لتستنهض أفانين الشوق والحنين، ولظى الوحشة والغربة والانتظار، ولا بد من إضاءة شمعة أمل يستحضرها الشاعر من مسالك النضال لتنير صفحات إصرار على الصمود والبقاء:
اعتذرتُ إلى الموتِ، كانتْ تراودني الساقياتُ
ليصعدَ في "اللوحِ" آخرُ ما تشتهيه الوصايا
فأدنو على حجرٍ من رفاتي
ضنيناً شقيّاً أعود البرايا
يضمِّدني الوردُ ينزعُ بعضَ بكائي،
وتعلنُ عطري يدايا.. "ص 97"
وهو صمود واقعي، أرضه إيمان شبه مطلق بأن المكان ملكنا، ومهما تجرّعنا "بسبب فقده" كؤوس المرارة سيعود إلينا ونعود إليه.
ولا تغيب الصور الأخرى التي يحرص الشاعر أن يقول بأنها أقل جمالاً وشفافية التي تصوّر المكان البديل بتداعياته الموشومة بتلك الصفات الحسيّة.
وفي السبيل إلى توضيح ذلك سأحاول أن أتسلق فضاء المفردات في قصيدة من الديوان بعنوان "ظلال المكان":
يستهل الشاعر مفتتح القصيدة باسترجاع دوافعه الخاصّة لركوب المفردات التي أعلن عنها في عنوان الديوان، إيذاناً بدخول تراكيب تحمل هالة نورانية مقدسّة يسجد الشاعر في محرابها الآسر، على عتبة استذكار المكان، ويقدّم نفسه:
تباركَ دمعُكِ يحملُ وجهي
إلى حزنِهِ
تبارك صمتُكِ يهطِلُ فيهِ
كلامي على وهنِهِ
يجمِّعُ فيَّ احتضاري.. "ص97"
ويمضي في ترتيل خشوعه أمام محراب ينضح بالحنين، وهذا يدور في موضوعة المكان، إذ لا اشتياق دون حنين، ولا شعور جارح بالفقد دون غصّة حزن تتسلق أهداب العيون، وتنحدر على إيقاع كلمات تمسّ بشفافية أدواتها الشعرية شغاف القلوب:
فهلْ... في دمائي أراكِ ؟
وهلْ... من دماكِ يهِلُّ النشيدُ؟
"يطولُ الطريقُ يطولُ... يطولُ "
وتكتبُ في الذكرياتِ الطلولُ
وأنى تلفتَّ
ما زالَ فينا مكانٌ
يكادُ من العشقِ شهداً يقولُ.. "ص101"
ولا بد أن تطل الذاكرة، فتتراجع سطوة الحنين ليحتل الدفق الآتي من بطن الضباب ومفردات الصورة، وذاكرة لا تكف عن الطنين، يستلهم منها مشاعر وصورة ذلك المكان:
ما لي نسيتُ
العصافيرَ والبيتَ..
وجهي
وأسماءَ أحفاديَ الطيبينْ
تباركْتِ
دوماً أفتِّشُ عن ذكرياتي أمام حقولِ
الطفولةِ.. "ص98"
ولا بد أن تقفز الأسئلة، مرتبكة وحائرة، فهذه الغرائب التي باعدت بين الشاعر ووطنه وذكرياته، وأرست في صدره خفقات الحنين، وحرّضت الذاكرة على استرجاع حركاتها ومشاهدها، لتقترب من تصوّر الحال الغريب الذي ولّد هذا الألم، فالمرأة وطن، لكنها ظلّ للمكان، ظلّ على إيقاعات قد تواكب في لحظة ما سيرة الوطن، لكنها هي الأخرى مصهورة في دوامات الأسئلة:
يا امرأةً لمْ تمتْ في ظلال المكانِ
كفاكِ الدخولُ إلى حضنِ هذي الحجارةِ
يا وردةً من حنينِ الأسيرِ إلى عشِّهِ الأسريِّ
إذا غابَ فيه الندى.. "ص99"
وفي رحلة الغياب المعفّر بالحيرة والتوهان، يستعر السؤال، فيبحث الشاعر عبر مونولوج قد يكون على درجة من التخيّل عن جواب يمد أمامه سبل الاقتناع، فيخاطب نفسه:
وأسألُ عن عاشقٍ
شفَّهُ الزهدُ ماذا تركتَ
ـ ترابٌ يعانقني كالحبيبِ
فأولدُ بعدَ الرحيلِ
على مزنهِ
ترابٌ تفتَّحَ للعشقِ
ينبتُ في مقلتيه الغزلْ
دفيء عناقُ الكلامِ
ووجهكَ شمسٌ تمدّدَ كالبحرِ
يفرشُ لوني على لونهِ.. "ص99"
ويبرز المكان البديل، أو المؤقت ليعلن أنه في دائرة الحسّ، لكن الشاعر، وهو يقيم حياته في ذلك المكان البديل، يبدو له أقل جمالاً من مكان انتمائه "وطنه" مهما كان يحمل من قيم جمالية "لا يتنكّر لها ولا يلغيها"، لكنه أبداً يضعها في مرتبة أقل جمالاً من المكان الأصيل:
وكيفَ تغامرُ أرضٌ بأحبابها
يا زمانَ المغني أنا السرُّ
يحبسهُ المستحيلْ
ويطلقهُ
مدناً كالسرابِ
وأخرى تردّدُ خيباتها لا تعودُ.. "ص100"
وهنا تنساب تلك المفارقة التي أعتبرها الحاضنة لميزان التمايز بين المكانين من خلال كلمات تمتد بأبعادها المرموزة إلى آفاق البحث عن ذلك الفارق بين المكان الأصيل والمكان البديل:
وهذا المكانُ أيصبحُ وجهي
لأخسرَ صمتي الثقيلْ
وأبدأَ عمري الجميلْ.. "ص100"
ولا بد أن يرسو به مركب المفردات الذي حمل الشاعر مع امرأة يبحث بين عينيها عن وطن بديل على شاطئ المكان، ليكتشف أن كل ما تماهى في خيالاته، وما أتت به مرايا الذاكرة والصور والرؤى الأخرى، أنها ليست أكثر من ظلالٍ للمكان:
يحرجني الحبُّ
فتنةُ عينيكِ ظلُّ مكاني
تمدَّدَ في رئتيَّ يلذُّ الهواءُ
وماء المحيطِ يخالط جلدَ الحكاياتِ.. "ص98"
تتناثر هذه الأقانيم في قصيدة تحمل "ظلال المكان" ولا تخرج عن موضوعة المكان، بل تضيف إليه لواعجه ومعاييره، تجتمع في لحظة الخاتمة لتضع قفلة اكتمال الموضوع.
ولا بد لي أخيراً أن أقول بأن كل قصيدة من الـ 39 قصيدة في ديوان "وأدخل في مفردات المكان"، اعتنت في تكوين الأفكار على وحدة الموضوع، إلى جانب اللغة الباذخة، والصور التي تحلّق بنا إلى فضاءات الإبداع ما يعطي الديوان قيمة جمالية ناجية من الحشو والتكرار، وتضيف إلى الشاعر الكبير "عبد الكريم عبد الرحيم" إنجازاً متقدماً يتجاوز فيه نفسه، ويؤكد، أنه دون أيّ لبس ودون أي شك وبعيداً عن المحسوبيات والشلليات، وعن التسويقات السياسية والروافع المشبوهة، شاعر أصيل يحتل بجدارة موقعه في الصف الأول بين شعراء العربية، ولست أقول ذلك من فراغ، فبين أيدينا أعماله الإبداعية الملتزمة بالثوابت الوطنية والقومية والأخلاقية، والمنتمي بشخصه وروحه إلى فلسطين، ذلك المكان الذي لن يغيب عن ذواكرنا حتى نحقق نصرنا الآتي.
ـ ـ ـ
(*) عبد الكريم عبد الرحيم، شاعر فلسطيني، صدر له خمسة دواوين شعرية، وكتاب بحثي.
(**) وأدخل في مفردات المكان، ديوان شعر صادر عن اتحاد الكتاب العرب، 140 صفحة من القطع المتوسط، 39 قصيدة.