متغيرات دولية

بقلم نقولا ناصر*

إن موت المسنة الايرلندية (81 سنة) آن كيوميسكي أوائل الشهر الجاري اختناقا بدخان حريق شب في منزلها بسبب الشموع المضاءة بدلا من الكهرباء التي فصلت عنه لعجز معيلها عن تسديد فواتيرها بعد أن فقد عمله نتيجة للأزمة الاقتصادية المتسارعة في إيرلندا التي قادت الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي إلى ارتهان إيرلندا لهما بحجة انقاذها من أزمتها التي ضاعفت معدل البطالة ثلاث مرات تقريبا منذ عام 2005 إلى أكثر من 13% وأطلقت موجة هجرة من البلاد تذكر بالهجرة الجماعية إلى أميركا في القرن التاسع عشر بعد أن خسر الايرلنديون محاصيلهم من البطاطا بسبب المناخ، إذ وصل بعض العمال الايرلنديين الذين خسروا وظائفهم إلى كوريا الجنوبية بحثا عن عمل بينما تقول الاحصائيات إن أكثر من 1250 طالب إيرلندي يغادرون بلدهم شهريا للغرض نفسه. والأزمة الاقتصادية الطاحنة المتفاقمة في ايرلندا هي جزء من الأزمة نفسها التي تطحن الملايين من عمال أوروبا وفقرائها الذين تضخمت أعدادهم بالملايين من الطبقات الوسطى الذين أفقدتهم الأزمة العالمية وظائفهم وأمنهم الاجتماعي والاقتصادي، ليس في القارة الأوروبية فقط بل وفي المركز الأميركي للنظام الرأسمالي العالمي حيث بدأت الأزمة التي أعادت الصراع الطبقي إلى الواجهة بعد أن ظن الكثيرون بأن هذا الصراع قد انتهى بانهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفياتي وأعادت معه الحديث مجددا عن أزمة النظام الرأسمالي البنيوية.

في التاسع من الشهر الحالي كتب أحدهم في صحيفة "برافدا" التي كانت ناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي السابق رابطا بين الحروب الأميركية والأزمة الاقتصادية العالمية فقال: "إلى أين نحن ذاهبون؟ لقد خذلنا سياسيونا. هل هذا هو العالم الذي نريده؟ هل يريد أحد حقا الحروب الفظيعة في أفغانستان والعراق، حيث ضاعت مئات الآلاف من الأرواح وهدرت تريليونات من الدولارات، وكل ذلك من أجل ثروات أفغانستان المعدنية وموقعها الجغرافي الاستراتيجي بجوار حقول النفط والغاز في آسيا الوسطى وكله من أجل كون العراق أحد أكبر منتجي النفط في العالم. فهل هذا هو العالم الذي نريده، حيث انفقت منذ عام 2000 مليارات الدولارات على الحروب بينما المجتمع الدولي عاجز بصورة محزنة عن تمويل المشاريع الانسانية؟" وقد أجاب الكاتب على أسئلته بالنفي، مبشرا بتغيير في المشهد الدولي اسشتهد للدلالة عليه بتاييد الرئيس الأميركي باراك أوباما لحصول الهند على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي باعتباره "فرصة هامة للنظر إلى العالم من منظور جديد، الآن بعد أن اختفى الواقع الذي أنشأ منظمة الأمم المتحدة حيث تملك خمس دول نووية مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي وتتمع فيه بحق النقض (الفيتو)".

وفي منتصف الشهر الجاري كتبت سيندي شيهان الناشطة الأميركية ضد الحرب التي قتلت المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي ابنها عام 2004 مقالا استهلته باقتباس من مؤسس حزب العمل الايرلندي جيمس كونولي: "نعم أيها الأصدقاء، إن الحكومات في المجتمع الرأسمالي ليست إلا لجانا للأغنياء لإدارة شؤون الطبقة الرأسمالية"، وقالت في مقالها إن الرئيس الأميركي باراك أوباما "يمارس الرياضة الدولية للطبقة الحاكمة التي ترغم الأقل حظا في المجتمع على تسديد ثمن جرائم وتجاوزات نادي الواحد في المئة – أي أؤلئك الذين يجلسون على قمة السلسلة الغذائية ويديرون ما لايقل عن 50 في المئة من ثروة الأمة"، مشيرة إلى خطط إدارته لاستغلال طاقة القوى البشرية العاملة حتى الرمق الأخير باقتراح رفع سن التقاعد إلى 69 سنة، واقتراح تخفيضات وصفتها ب"الوحشية" في الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، وفي مقابل ذلك تقترح إدارته تخفيض الضرائب على الأغنياء بنسبة 23% إضافة إلى 35% يتمتعون بها حاليا. ومن الواضع أن وعي شيهان قد تطور من مجرد وعي أم ثكلى ناشطة من أجل السلام إلى وعي طبقي يربط بين الحرب والسلام وبين النظام السياسي والاقتصادي ويدعو إلى تغييرات أكثر عدالة اجتماعية.

وقد وصلت الدعوة إلى التغيير إلى أركان النظام الرأسمالي نفسه المسؤول أولا وآخرا عن الوضع الدولي الراهن. فقبل أيام من قمة العشرين للدول الاقتصادية الكبرى التي انعقدت مؤخرا في عاصمة كوريا الجنوبية سيئول، نشر رئيس البنك الدولي، روبرت زوليك، مقالا حولته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية إلى افتتاحية لها على صدر صفحتها الأولى لأهميته، دعا فيه إلى إصلاح أساسي في النظام العالمي للعملات يشمل "دورا أقل للدولار الأميركي ومقياسا معدلا للذهب"، بعد أن أشار في مستهل مقاله إلى "الحديث عن حروب العملات والاختلافات حول سياسة التسهيل الكمي لبنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي"، وهذه دعوة تتضمن اعترافا صريحا بأن النظام النقدي العالمي القائم على الدولار الأميركي المعمول به منذ عام 1971 هو نظام لم يعد صالحا للحياة، وهي دعوة تنطوي ضمنا على الاعتراف أيضا بأن الولايات المتحدة قد بدأت تفقد قيادتها العالمية الاقتصادية ولن يطول الوقت قبل أن يتبع ذلك فقدانها لقيادتها العالمية سياسيا.

وكانت إشارة زوليك إلى سياسة التسهيل الكمي الجديدة لبنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي إشارة إلى متغير في العلاقات بين المركز الأميركي للنظام الرأسمالي الدولي وبين أقطاب هذا النظام. فبموجب هذه السياسة الجديدة قام الاحتياطي الفدرالي الأميركي بطبع مئات المليارات من الدولارات من أجل شراء سندات الخزينة الأميركية، في سياق سياسة مدروسة متعمدة لخفض سعر صرف الدولار الأميركي من أجل جعل الصادرات الأميركية أرخص والواردات الأميركية أغلى، وبهذا الاجراء بدأت الولايات المتحدة حرب عملات دولية تهدد بانهيار نظام معدلات الصرف في فصل جديد من الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت من الولايات المتحدة أيضا، وقد اعتبرت الاقتصاديات الكبرى المنافسة للاقتصاد الأميركي هذا الاجراء عملا عدائيا.

فعلى سبيل المثال، اتهم مستشار البنك المركزي للصين الشعبية، كسياو بين، الاحتياطي الفدرالي الأميركي بإثارة أزمة عالمية جديدة، واقترح أن ترد بيجين عليه بإنشاء تحالفات اقليمية للعملات من أجل تسريع الاستخدام الدولي للعملة الصينية "اليوان". واتهم رئيس الوزراء الياباني، ناوتو كان، واشنطن بانتهاج "سياسة دولار ضعيف". وانتقد وزير المالية الألماني فولفغانغ شوبل في مقالة نشرتها دير شبيغل الولايات المتحدة قال فيها إن "نموذج النمو" الأميركي يمر في "أزمة عميقة"، مضيفا أن "قرارات الاحتياطي الفدرالي الأميركي تخلق المزيد من عدم الثقة في الاقتصاد العالمي .. وهي لا تتفق مع اتهام الأميركيين للصينيين باستغلال أسعار الصرف ثم يقومون هم أنفسهم بخفض اصطناعي لسعر صرف الدولار بطبعه". وقاد هذا الاجراء الأميركي اليابان إلى التدخل لأول مرة منذ ست سنوات في أسواق صرف العملات في أيلول / سبتمبر الماضي لوقف ارتفاع عملتها "الين" بخفض سعر الفائدة والاعلان عن برنامج خاص بها للتسهيل الكمي يتضمن اجراءات أخرى. أما البرازيل التي اتهم وزير ماليتها واشنطن باشعال حرب عملات عالمية فأعلن عن مضاعفة الضريبة على المشتريات الأجنبية للسندات البرازيلية لاحتواء تدفق الدولارات المضاربة على بلاده مما رفع سعر عملتها وهددها بالتضخم. واتخذت بلدان أخرى اجراءات مماثلة للتدخل في أسواق عملاتها منها تايلاند وكوريا الجنوبية والهند وتايوان. إن المركز الأميركي للنظام الرأسمالي العالمي الذي فجر الأزمة المالية العالمية يهدد الآن بحروب اقتصاد وعملات بين اقطاب النظام نفسه. ألم تكن هذه هي المقدمات التي قادت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية ؟

إن هذه المتغيرات الدولية تشكك في أن الولايات المتحدة الأميركية سوف تظل محتفظة بمركزها القيادي العالمي كقوة لا تقهر قادرة على تجاوز الأزمة الراهنة التي أوهنت قواها. ويمكن في هذا السياق الاقتباس من د. محمد صالح المسفر في تعليقه المنشور في صحيفة القدس العربي اللندنية في الثاني والعشرين من الشهر الجاري على بعض حوارات المنتدى السنوي لصحيفة الاتحاد الاماراتية الذي عقد في أبو ظبي مؤخرا حول العلاقات العربية الأميركية حين أشار إلى "ما كتبه بعض المفكرين الأميركيين من آراء في مجلة فورين أفيرز" الأميركية حول "أفول نجمها كقوة عظمى"، ثم الاقتباس منه بشأن "عوامل الانهيار التي تنخر في جسد أميركا" التي عدد منها على سبيل المثال إفلاس 140 بنكا خلال العام الحالي، وبلوغ حجم دينها العام 10802 تريليون دولار، وارتفاع نسبة الدين العام إلى اجمالي الناتج المحلي من 40 إلى 70 في المئة، وإعلان أكبر شركتين لصناعة السيارات إفلاسهما العام الماضي وهما فورد وكرايسلر وكذلك صناعات أخرى، وانخفاض الطلب على التكنولوجيا الأميركية بعجز قدره 7.2 مليار دولار عام 2006 مقابل فائض قدره 4.6 مليار دولار عام ألفين، وتضاعف العجز التجاري الأميركي ست مرات خلال السنوات العشر الماضية، إلى غير ذلك من مؤشرات الأزمة الاقتصادية التي تتجه نحو التفاقم حسب الكثير من الخبراء الأميركيين، ناهيك عن فشل الولايلا المتحدة العسكري في حروبها منذ فيتنام ثم في أفغانستان والعراق والصومال.

لكن إجراءات التقشف الاقتصادي غير الانسانية ثم إجراءات إنقاذ النخب المالية والاقتصادية الأميركية التي تسببت في الأزمة في المقام الأول على حساب الرعاية الاجتماعية ل"الأقل حظا"، حسب تعبير سيندي شيهان، قد وسع الهوة الاقتصادية والطبقية التي تنخر المجتمع الأميركي من الداخل وهذا عامل انهيار داخلي تدل كل المؤشرات على أنه يتفاقم. كما أن زيادة تدخل الدولة الأميركية في الاقتصاد وإجراءات الحماية الاقتصادية في مواجهة القوى الاقتصادية المنافسة يضرب عصب النموذج الرأسمالي الذي ظلت واشنطن تسوقه عالميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية باعتباره النموذج الأمثل للمجتمع العالمي مما يهز الأساس الأيديولجي لهذا النموذج ويشير إلى أن الولايات المتحدة إذا لم تحدث معجزة سوف تخسر حربها الأيديولوجية كما بدأت تخسر حروبها الاقتصادية والعسكرية.

إن استعراض التوصيات التي تقدمت بها لجنة العجز في الميزانية التي يشارك في رئاستها ديموقراطي وجمهوري يشير إلى أن عولمل الانهيار الداخلي تتفاقم في الولايات المتحدة، فقد أوصى التقرير الذي نشره في العاشر من الشهر الجاري رئيسا اللجنة ألان سيمبسون وإيرسكاين باولز بخفض الضمان الاجتماعي للمتقاعدين وبرفع سن التقاعد إلى 68 سنة بحلول عام 2050 وإلى 69 سنة بحلول عام 2075، وبخفض الانفاق على الرعاية الصحية، وبخفض عدد العاملين في الحكومة الفدرالية بنسبة عشرة في المئة، وبتجميد الرواتب للموظفين غير العسكريين لمدة ثلاث سنوات، وبالاستغناء عن ربع مليون متعاقد غير عسكري. وهذه التوصيات وغيرها تنسجم مع سياسات إدارة أوباما خلال العامين الماضين التي تمحورت حول انقاذ البنوك، وخفض الأجور، وتوسيع الحرب، وخفض الانفاق الحكومي على الرعاية الصحية. واستنادا إلى الاحصائيات الرسمية قالت وكالة الأسوشيتدبرس إن الفارق في الدخل بين الأغنياء وبين الفقراء الأميركيين "ازداد خلال العام الماضي إلى أكبر قدر مسجل حتى الآن"، لتضيف بأن الفارق في الدخل بين الأميركيين هو الأكبر بين البلدان الرأسمالية المتقدمة.

* كاتب عربي من فلسطين