في الذكرى 35 لوفاة المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ..وقفة تحية واستذكار
في الذكرى 35 لوفاة المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ..وقفة تحية واستذكار

أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل


للاحتفال بذكرى مرور 35 عاما على وفاة المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي مايبرره، فهو معروف بتأييده للحق العربي في فلسطين ،وبتسليطه الضوء على كيفية اغتصابها .. كما أنه يعد من أعظم المؤرخين العالميين في عصرنا الحاضر . وكتابه الموسوم: ASTUDY OF HISTORY " دراسة للتاريخ " من أعظم المصادر التاريخية التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين .لذلك يجدر بنا أن نقف عند توينبي ونتابع سيرته الحافلة باقتضاب. فقد ولد سنة 1889 ودرس في جامعة أكسفورد ثم عمل فيها بين سنتي 1912- 1915 . وفي سنة 1918 عين موظفا في وزارة الخارجية البريطانية. و أسهم كعضو في جلسات مؤتمر الصلح في باريس وفي قسم الشرق الأوسط في الوفد البريطاني. وخلال الحرب العالمية الثانية تسلم منصب مدير قسم الأبحاث والدراسات في" المعهد الملكي للشؤون الدولية" وأستاذا باحثا للتاريخ الدولي في جامعة لندن إلى أن تقاعد سنة 1955 .وفي 22 تشرين الأول سنة 1975 توفي في يورك ببريطانيا عن عمر يناهز الـ 86 عاما. لتوينبي مؤلفات عديدة أبرزها كتابه( دراسة التاريخ) ويقع في 12 جزءا درس فيه توينبي الحضارات البشرية وأنماطها منذ عصور التاريخ الأولى وحتى السنوات القليلة التي سبقت وفاته . ولقد اختصر " سمرفيل " هذا الكتاب في جزئين ترجما إلى اللغة العربية من قبل الأستاذ فؤاد محمد شبل بتكليف من الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية .
ولقد تعددت مصادر الفكر( التوينبي) وزادت بشكل لايمكن حصره في مقال مقتضبة. ومع هذا أننا لانملك غير الإشارة إلى بعضها. فتوينبي يعد نفسه مؤرخا سعيد الحظ ذلك أن الأوضاع العالمية التي عاش في ظلالها اتاحت له أن يقف على مادة خصبة للدراسة. كما كان ملما باليونانية واللاتينية وهذا ماجعل الثقافة الكلاسيكية أي تراث الفكر اليوناني- الروماني عماد تفكيره والقاعدة الراسخة التي كانت تدعمه دائما.
ولقد أثار كتاب الفكر الألماني ازوالد شبنكلر( سقوط الغرب) في نفس توينبي كثيرا من القلق على مصير الحضارة الأوربية فعكف على دراسة الحضارات السابقة في محاولة لمعرفة عوامل تدهورها وسقوطها.
ومن خلال تفقد توينبي لنظرية شبنكلر تبلورت أفكار توينبي ويقارن لدكتور محمد هادي الحاج مير في مقال له نشر سنة 1962 في المغرب بين المؤرخين فيقول أن شبنكلر يمثل من الناحية الفكرية الشخص الذي جاء يتلو مراسيم تأبين الحضارة الأوربية وهي تدخل قبرها. أما توينبي فهو بمثابة الطبيب الذي يبذل كل جهده لكي ينقذ المريض الذي يرقد على فراش الموت وهو الحضارة الأوربية. وإذا كانت المدرسة الشبنكلرية توصف بأنها( رياضة حتمية ) فان مدرسة توينبي يسندها الأيمان مع عدم التشاؤم إزاء المستقبل. والمجتمعات في نظره ليست- كما يقول شبنكلر - كائنات عضوية .وتوينبي على هذا الأساس ليس فيلسوفا بل مؤرخا قيم الحضارات السابقة على الحضارة الأوربية تقييما علميا موضوعيا، ووحدة الدراسة عنده ليست "القومية" بل هي"الحضارة "التي تنتظم عدة أمم. ويحصى توينبي أحدى وعشرين حضارة ظهرت إلى الوجود لم يبق منها غير خمس حضارات. أما البقية فقد انهارت وتحللت .ومن الوحدات التاريخية لمجتمعات العالم هي: الحضارة المسيحية الغربية( أوربا وأمريكا) الحضارة المسيحية الشرقية الارثودكسية (روسيا ودول البلقان) الحضارة الإسلامية، حضارة الشرق الأقصى، الحضارة الهندية. ويدين تويني للمؤرخ الروسي( دانيلفسكي) في تبنيه هذا الاتجاه.
وتوينبي كذلك يرد الحضارات إلى الأديان ذلك أن الإمبراطوريات ليست هي مقياس الحضارة بل على العكس فهي تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة . ومن هنا فأن الفكرة المسيطرة على توينبي والموجهة له هي العقيدة الدينية والتاريخ الديني بنظره هو المضمون الأساسي للتاريخ البشري ويتلوه العامل المادي في الأهمية .
لقد كان توينبي من أبرز المؤرخين الذين أباحوا لأنفسهم أن يسألوا لماذا ؟ والى أين؟ ولم يكتف بأن يرسم صورة جذابة لماضي الإنسان بل انه رنا ببصره نحو المستقبل. أما لماذا تنهار الحضارات؟ فأن توينبي يقول أن طبيعة الانهيار تكمن في ثلاث مسائل هي :
1-قصور الطاقة الإبداعية في أقلية المجتمع
2- ابتعاد الأكثرية عن محاكاة الأقلية
3- انصراف الأكثرية عن بدل الولاء للأقلية القائدة.
ويرى توينبي بان المحيط السهل لا يخلق حضارة ،بل العكس هو الصحيح فلقد ازدهرت الحضارات في الظروف القاسية وهذه الظروف تشكل ما يسميه توينبي ( التحدي) وتحصل
( الاستجابة) في حالة نجاح المجتمع في مواجهة التحدي. وثمة أيقاع أخر يضاف إلى الإيقاع الأول وهو أن الفرد أو المجتمع أو الأمة قد ينسحب في ظروف معينة ويختفي ليعود أكثر قوة وانسجاما بعد أن يمر بعملية تنقية يسميها توينبي عملية ( الانسحاب والعودة ).
وينتقد توينبي من يقول أن تفسير انهيار الحضارة يقوم على الغزو الأجنبي، ويصر على القول بأن انقسام المجتمع على نفسه دليل انهياره. ويضيف بأن البنية الاجتماعية- بعد تفشي الخلافات الداخلية- تنقسم إلى ثلاثة ولكل منها وظيفة:
الأول: أقلية مسيطرة وهي الطبقة المبدعة
الثاني: البروليتاريا الداخلية وهي الجماهير
الثالث : البروليتاريا الخارجية وهم الغزاة الأجانب.
لقد اشتهر توينبي بموافقة الايجابية من قضية العرب الكبرى وهي قضية فلسطين ولقد تعرض نتيجة لذلك إلى ضغوط الحركة الصهيونية وحلفائها الغربيين وغيرهم .
يقول توينبي عن ( إسرائيل ) والصهيونية (... لقد اتجهوا في تحد واندفاع إلى تحويل أنفسهم إلى عمال بدويين وأصحاب حرف بدلا من وسطاء إلى زراع بعد أن كانوا صيارفة والى محاربين بدلا من تجار والى إرهابيين بعد أن كانوا مضطهدين...)
وكم وقف توينبي يحاجج الصهاينة في المؤتمرات الدولية وغيرها. فهو يناظر في 31 كانون الثاني سنة 1961- مثلا- سفير ( إسرائيل) في كندا ياكوف هيرزوج على أحد مدرجات جامعة ما كجيل في كندا.
قال توينبي: " أن ارض فلسطين ملك لأولئك العرب الذين طردوا من ديارهم ". وخاطب الطلبة اليهود في الجامعة قائلا:" أنكم تطالبون بحق اليهود في العودة إلى فلسطين على الرغم من انه ل يكن هناك في فلسطين سنة 125 ميلادية سكان من اليهود لهم كيان... " . وأضاف: " أن معاملة اليهود للعرب في فلسطين سنة 1947 كانت متشابهة من الناحية الأخلاقية لقتل النازيين لليهود خلال الحرب العالمية الثانية". ولدى زيارته إلى غزة في السنة 1964 قال : " قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المتكررة، والتي تعيد تأكيد حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم واستعادة ممتلكاتهم- لما تزل ورقة ميتة بينما في نفس الوقت كان تصميم اللاجئين على الظفر بوطنهم المسلوب لا يزال ثابتا لم يتزعزع كل هذا كان ألان كما رايته من قبل وهذا في حده وضع مأساوي، إذ من المرعب المخيف أن يكون المرء لاجئا واسوا قدرا من ذلك أن يولد لاجئا وأشد سوءا من كل ذلك أن يولد ويقضي حياته ثم يموت صارفا أيامه من الطفولة حتى الشيخوخة في احد مخيمات اللاجئين: مخيم اللاجئين ليس إلا زنزانة .. انه ليس قطعة من عالم الناس العاديين الذين يكون لهم فيه بيوت وأشغال يقومون بها".


وقد حمل توينبي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية ماحدث ويحدث في فلسطين. وكتب بهذا الشأن إلى مجلة يهودية تدعى ( جويش فرو تنير) الحملة الصحفية التي شنتها عليه هذه المجلة ليقول : " باعتباري بريطانيا فاني اشعر شخصيا بهذه المسؤولية"
ويبدي توينبي رأيه في الوحدة العربية فيقول أن الحدود القائمة اليوم أقامتها بريطانيا وفرنسا بصورة مصطنعة لتكون منسجمة ومصالحها الاقتصادية والإستراتيجية والاستعمارية، لا لتلبي حاجات السكان العرب. ويعرب توينبي عن دهشته في سر تمسك العرب بهذة الحدود إلى الآن . وله رأي في حل قضية فلسطين تتلخص بإعادة الفلسطينيين إلى ديارهم وبهذا يعود الحق إلى نصابه.
وأخيرا فأن الالتفاتة إلى هذا المؤرخ المنصف، والدعوة إلى أقامة مهرجان أو مؤتمر لتكريمه أمر مهم ومن الممكن أن تضطلع جامعة الدول العربية أو إحدى الجامعات العربية أو اتحاد المؤرخين العرب أو إحدى أقسام التاريخ بهذه المسؤولية فتكريمه –بحق - يؤكد أولا وقبل كل شيء قيم العرب الأصيلة في الوفاء وعدم نكران الجميل.
*الرجاء زيارة مدونة الدكتور إبراهيم العلاف ورابطها التالي :
http://wwwallafblogspotcom.blogspot....1908-1995.html

نقلن عن ابراهبم خليل العلاف/منتديات الوحدة العربية