منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 7 من 8 الأولىالأولى ... 5678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 70 من 73
  1. #61
    واستولت علي شيئا فشيئا رغبة ملحة في عمل من هذا النوع, لعل عملا لم ينتبه له أحد يفضي إلى نتائج كبيرة الأثر.
    وسكت الرفيقان شاكر ومولود, وبدا هذا الأخير غارقا في التفكير وساوره شعور بالقلق, وكان يشعر بأن دنياه تضيق به وبدا له أن من يصادفهم لا ينطقون إلا هراء ,ماذا يجري لو أخفق في مهمته, إذن يكون جنى على شاكر الذي أسلم قياده إليه.
    ولكنه عاد ليقول إنه هو وشاكر يحيون حياة لا طعم لها ولامعنى, وأخيرا تأتي لحظة فتفيق ,تفيق في جوف الليل وتظل بلا حراك, وعيناك مفتوحتان في الظلام وتشعر أن شيئا يوشك أن يكون ,ثم يكون فعلا لقد أجمعت رأيك وعلى كل حال إنك تقوم بعمل صغير الحجم على قدك تماما, فأنت سائر في الأرض المحتلة لا يشتبه بك لأنك من سكانها ,تقود بيدك ضريرا أو عاجزا.
    واستيقظ مولود من تفكيره مع وقوف السيارة في المكان المقصود, وكانت شمس نيسان قد أذنت بالغيب, وتنفس نفسا عميقا فهاهنا هواء منعش بليل ,وقد فاح عبير شجر الشربين العطري ,وعلى الأفق الممتد أمام عينيه هضبة متوسطة الارتفاع, وكان يعلم أن شاكر سيدهشه ما سيشاهده يرافقه فيها.
    كان الطريق أمامهما "آدوميا" يدور حول الهضبة إلى غابة هناك ثم يعرج كأنه أفعى أو سكران يترنح, وفي أكثر من تقاطع واحد تقوم أشجار بلوط تقف أو شربين تقف كأنها جندي مرة فوق منصة خضراء ,وقال شاكر:
    -لأول مرة أشاهد هذه البطاح وهي من أراضينا في الجمهورية العربية السورية, وإني لأعتقد أن كل ما في الدنيا من شعر وسحر تقاليد, وقدم وغرابة وخشونة محفوظ ومختزن في هذا الوادي الجميل المكسال وفي الهواء العليل ,هنا يدب إلى القلب هدوء ساحر مبهم توحي به عزلة هذا المكان واتساع الفضا من حوله, وتغشاه برودة محببة, وقد أحدقت به الكثبان الخضر وحملتها برفق كأنها قدح يحتوي سائلا غالي الثمن, ومن فوق ذلك سماء ضاحكة تسبح فيها السحب كأنها سمك براق في بحر بعيد الغور.
    ونظر مولود إلى شاكر مذعورا, فقد هاله أن يسمع هذه اللغة التي لا يفهمها في مثل هذا الموقف, فجرى على لسانه الكلام بأسرع من لمح البصر:
    -إيه إيه...إي....ه لا أعتقد أنك ستنظم قصيدة شعرية هنا, فتأتي إلى هؤلاء المحتلين بالحجة التي لا تدفع على أننا لانصلح إلا للأحلام, والمهمة التي جئنا من أجلها؟
    وضحك شاكر ثم قال:
    -والله ماكنت في يوم من الأيام أنظم الشعر ولن أنظمه أبدا, ولكنني أردت أن أعلم إلى أي مدى أنت ذاهب في مشاريعك, والآن بعد أن اطمأنت نفسي أمضي معك بدون تحفظ, اسمع يا مولود.. لقد أصبنا في الصميم. كما يعلم الجميع ,ونريد أن نشكو إلى الله هذا الكرب المهلك.
    واليوم وقد صح عزمنا من جديد نريد أن نشكو إليه الضيق ونسأله أن يزيل هذا الكرب.116

  2. #62
    كان شاكر يتكلم بلهجة رجل وإن كان مازال فتى, لا بلهجة صوفي يتحدث حديثا دينيا, وسأله مولود:
    -وما فائدة الصواريخ إذن في هذا المقام؟
    وأجاب شاكر:
    -إن الله يسمع ضوضاءنا ,ونريد أن تطمئن قلوبنا إلى أنه يسمع بأجود مما كان.
    لم يضحك مولود مما قرأه شاكر من كتاب أفكاره ’فلقد أدرك بنافذ بصيرته أنه مشترك مع شاكر بهذا المنطق, منطق الدعاء المعدني ,وفجأة توقف وشخص بصره إلى الأفق وفمه مفتوح ثم ابتسم وهدأ وقال هاهم مقبلون من وراء الحدود.
    وظل الركب المتجه إليهما يدلف, ويدلف, حتى صار أدنى ما يكون أشار مولود إلى سائق السيارة فهفوا دفعة واحدة إلى الركب وأخذ كل واحد منهم بساعد فرد منه يساعدونهم .
    كان هناك واحد يتحسس الطريق وقد شخص ببصره وهو مازال شابا وآخر يمشي على عكاز, وكان في الركب رجل يعرج له وجه أسمر وكأنه خلاسي وقد طالت لحيته وتشعث ,وقرأ مولود هول مصير هؤلاء الرجال في آيات القلق والتعاسة المخطوطة على جباههم عندما أقبل يلف ذراع أحدهم على عنقه وينهض فيدب به دبيبا إلى السيارة.
    وقال الرجل لمولود:
    -إنك لتراني في حالة لا رجاء فيها.
    وسكت مولود, سكت سكوت المتحير ,بماذا يجيب هذا الرجل المحطم الذي يضرع في طلب الماء, واكتفى بأن وضع كفه برفق على خد الرجل يشجعه ثم يسقيه حتى بلغا الباص وقد ظهر عليه بعض الانتعاش.
    كان في رفقة هؤلاء التعسا خمسة شبان من الأرض المحتلة, ما إن أبصروا أن أماناتهم من هؤلاء قد وصلت إلى السيارة سالمة ,حتى انكفأوا فمالوا إلى طريق آخر بجانب هضبة ثانية ملوحين بأيديهم من بعيد.
    وحين تحرك الباص عائدا في طريق ماتزال معالمها واضحة بعض الوضوح ,ارتسمت على محيا مولود آيات الرضى ,فمن قريب لا يتجاوز الساعة سيلج الباص في طريق تحفة أشجار البساتين من كل جانب ويغدو الجميع في أمان ,وقال مولود في سره:
    -إن السعادة في نجاح هذه المهمة لا يعادلها سوى السعادة في نجاح هذه المهمة.
    ******
    وكمركب فقد ربانه,بعد أن تسلمت الهيئة المخصوصة الأمانة المعهودة من تلك المخلوقات التعسة,سار مولد على غير هدى ,وقد أسلس قياده لقدميه,وإذا بهما تقودانه إلى معهد الأحداث.
    كان كل واحد من الرجال يشغل باله,ويريد أن يتحدث بأمره مع المدير.
    ص 118

  3. #63
    إنه صغير السن ,إلا أنه لم يجد في المعهد من المسؤولين أحدا, كان الوقت عند المغيب ,وحين هم بالخروج لمغادرة المعهد لمح من بعيد فتاتين اكتملت أنوثتهما ,كانت كل واحدة منهما تحمل وعاء كبيرا حوى ملابس مغسولة معدة للنشر, كانتا متجهتين إلى سطح البناء تهمان بوضع قدميهما على أول درجة من السلم المؤدي إليه, وتسمرت خطاه ووقفت الفتاتان ,وفكر:
    -إنه يعرفها ولكن في أية مناسبة تعرفها.
    وبدأ يسترد صور الماضي شيئا فشيئا ,إحدى الفتاتين هي بدور ذات المأساة المروعة, لقد كانت مصابة بالتهابات بالغة الخطر نتيجة إساءة بعض الغلمان التصرف معها باستمرار. أما الثانية نهلة فقد كانت أحد أفراد عصابته, وتذكر مع ذلك أنهما كانتا سنتئذ أصغر منه بعشرة سنوات.
    وقف ووقفتا تنظران إليه ,فلقد عرفتاه فوضعتا حمليهما وقال مولود:
    -هل التقينا قبل اليوم؟
    وقالت بدور:
    -بالطبع.
    وقالت نهلة:
    -لقد كنت رئيسنا.
    وقال مولود:
    -ما كان لك أن تقولي هذا ونحن الآن..
    وعضت نهلة على شفتها السفلى بشدة واحمر وجهها ,ونظرت إليها بدور نظرة خائفة, وشعر مولود بأنه لئن كانت نهلة تستحق هذا اللوم فلقد كان قاسيا جدا معها ,وابتسم بسرعة وقال:
    -لابأس ,لم يحصل ضرر أليس كذلك؟
    وانفرجت الأسارير وعادت الوجوه إلى لونها.
    في هذ الوقفة القصيرة تذكر مولود كل شيء عن الفتاة الأولى:
    بدور ,لقد وصلت إلى معهد الأحداث حين كان هو موقوفا فيه لليوم العشرين, مساء حاملة متاعا زريا مؤلفا من قطع قماش وسخة فألقت ما حملت ونظرت إلى المائدة التي تحلق حولها الأحداث وصاحت دهشة:
    -ما هذا ؟أتأكلون لحما؟ وسرعان ما قدم لها الطاهي طبقا مملوء باللحم والخضار فاغترفت الطعام بيديها والتهمته التهاما بغير تكلف نفسها مؤونة البحث عن ملعقة.
    ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تحتفظ بما أكلته إلا دقائق معدودات ,قذفت يعدها معدتها بكل ما أدخل عليها ولما طال إعياؤها استدعي لها طبيب المعهد فقال: إنها تكاد تموت من قلة الزاد ,ونصح بإعطائها ملعقة من خبز المغموس باللبن الساخن مرة كل ساعة إلى أن تتمكن من الاحتفاظ بالطعام في معدتها.
    ثم أودعت الفراش بعد أن لبست قميصا نظيفا بدا على هيكلها العظمي متهدلا فضفاضا رغم أنها في السابعة من عمرها .
    وقد برزت ضلوعها كقفص الطائر, وظهرت عظام الكتفين كأجنحة من الورق المقوى التي يلهو بها الأطفال في الأعياد. ص 12

  4. #64
    ولم يمض وقت طويل حتى عادت إليها قواها ,فاستطاعت أن تأكل ثلاث مرات في اليوم ,ولكنها ظلت غربية في منظرها وبات بياض بشرتها كريها تبدو عليه صفرة الموت, وكان فمها مترهلا تعافه العين كما كانت تتعمد الحول في عينيها حتى يتجعد جبينها وتسعل سعالا عميقا كأنها كلب ينبح بالدرن ,كما سمعوا يقولون أن قناة الأذن مسدودة بالألياف, ولكنهم وجدوا الصدر صحيحا والعين سليمة ولم الحول والسعال إلا نتيجة لحدة المزاج.
    وتذكر مولود أن هذه الفتاة لم تمكث في معهد الصبيان سوى كان مزدحما ,فلما أوشكت هذه المدة أن تنتهي عاودها القيء ,وظنت هذه البنت الصغيرة التي تقف الآن أمامه, ظنت إذ ذاك حين سمعت بأنها ستغادر المعهد ,أن أولي الأمر سيلقون بها في الشارع, فتوغلت في سريرها أكثر فأكثر ,وهي تستعطف المراقب بكل حماس مسترحمة أن يبقيها في المعهد ,وتعهدت بأن تقوم بكل ما يراد منها فقال المراقب على سبيل الجد الممزوج بالهزل ,وكيف ذلك وأنت في شجار مع الأطفال ,تلجأ ين إلى الغش في اللعب فيمنعونك عن الاشتراك معهم فيه وتعتمدين الكذب في القول, فلا ندري متى تصدقين ؟.
    وأجابت بدور وهي خائفة :
    -لن أفعل شيئا من هذا إذا بقيت هنا ,فأرجو ألا تبعدوني ,دخيلكم لا تبعدوني.
    عندئذ فقط أفهمها المراقب وهو يمسح على رأسها أن إخراجها من هذا المعهد يعني إيداعها في معهد آخر مماثل ومعد للبنات فقط, عندها بكت هذه الطفلة فرحا.
    تذكر مولود كل هذا وتذكر معه نفسه كيف ألمت به غشية من غشيات عله مرضية كاد يشفي منها على التلف, وكيف أبل منها بفضل سهر مراقبي المعهد.
    وعندها ما وصل مولود إلى هذا الحد من ذكرياته كان قد ودع الفتاتين واتجه إلى الباب فغادر المعهد بعد أن علم منهما سبب وجودهما فيه فإن معهد الأحداث الذكور احتا إلى من يعتني بشؤونه الداخلية من خدماته لا تتقنها إلا الفتيات مثل الغسيل والكي, فاستعان على ذلك بهما وأن هاتين الفتاتين تدخلان المعهد للمرة الثانية.
    وعادت صورة الفتاة الثانية نهلة ترتسم في مخيلته من جديد.
    لقد كانت وهو يودعها تنظر إليه نظرات من نوع خاص وقد احمر وجهها فجأة وخطفت عينيه جانبيا منظرها وهي تتبعه بنظراتها تلك حتى من بعد أن استدار لينصرف ,لقد وجد نفسه مدفوعا لمغادرة معهد الأحداث, هكذا بسرعة, أراد أن يستنشق الهواء ,الهواء الجديد يبدد الضباب وبالأخص الضباب الذي يتجمع حول منافذ النفس فيرهقها ,وأحس كأنما هو ينزف دما, هكذا تصور وبشكل عفوي امتدت يداه تتحسس جسمه, عبثا حاول أن يكتشف موضوع هذا النزف ,ولكن أين الدم؟, إنه ليعجب من أين مأتى هذا التخيل, التصور بانه ينزف دما منذ متى بدأ , إذا كان مصدر الدم موهوما فلا ريب أن منطلق النزف الزمني أيضا موسوم.
    وعاد لنفسه فقال : غنها جروح لا ترى , جروح موهومة ننزف الدم, وهي سريعة العدوى ,لأنها جروح في الأعماق ,انتقلت إليها من بدور ,ألهذا عجل بمغادرة المعهد لئلا يطيل وجوده معها, ربما وشيئ آخر مع موقف بدور تلك الأسوار التي كانت تحيطه حين كان في تخرجه ,ولكن له أيضا صورته البشعة وهي الأسوار.
    توقف عن التكفير عند الحد ,فلقد وصل إلى مدير المعهد وأشفق أن يمسه بسوء في تفكيره وتذكر مافاه به المدير في أحد أيام إقامته في المعهد كيف يستطيع الإنسان بفضل حريته الباطنية أن يحرر نفسه من أعظم قوة في العالم وهي المال وكيف يستطيع أن يعايش الناس من غير أن يكتسب عدوا واحدا تلك هي المشكلة الوجود المزدوجة ,وليس يستطيع حل هذه المشكلة إلا بالتعاون ,هنا جاء ذكر العنصر النسائي ,فاكتشف أنه بحاجة في مشاريعه إلى هذا العنصر وأن هاتين الفتاتين اللتين التقى بهما اليوم هما ضالته المنشودة.
    أهو هذا الذي تنشده حقا ,أم أن أعماقنا ارتفعت لتنطرح مرة أخرى تحت أشعة الشمس ,لقد تتعاطف مع هذه البنت الصغيرة نهلة تعاطفا فيه محبة, فلو صحبتك معها استمرت مدة أطول ماذا كان يكون مصير هذا التعاطف ,كان سيلتهب أليس كذلك؟, أليست نظرتها الغريبة اليوم متجهة إليه وهي خير دليل على ذلك.
    وقلب كل سيء يمكن ومشى مسرعا ,كأن سرعته في مشيته هرب من الفكرة, ولكن كل شيء يمكن الفرار منه إلا الفكرة إنها الجزرة التي تتدلى أمام عيني دابة تحفزها على الجري لإدراكها دون أن تدركها أبدا.
    ص 123

  5. #65
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    882
    -4-
    ستكون منذ اليوم الجليس المفضل لهم, أو ما ترى حريتك التي يهرتهم ,وأن عيونهم لمتطلعة إليك؟.
    في كل مجلس ينعقد بين معارف تلتقي عيون الحاضرين عند نقطة واحدة كأنها شعاعات استقطبي نهاياتها عدسة شفافة ,هي هذا الشخص الغريب الجديد الوافد عليها, ترود حوله وتتلمس نقاط ضعفه وقوته.
    تحاول أن تغمز فناته آنا وأن تؤانسه أحيانا ,كل ذلك في سبيل استكشاف مجهولة واكتناه مكنونه, تلك هي الظاهرة:
    روح المجتمعات ,فإذا كنت ذكيا مستيقظ الجوارح في تلك اللحظة تصرفت ببراعة: إن الحكم الذي يصدره عليك من حولك ,هو في النهائي الذي قلما يطرأ عليه تعديل.
    حيويته فائضة هذا اليوم, ولكن مازال يشعر بأنه يركب بحرا يلذ له أن يسخره لمشيئة ,ولكنه لا ينسى أن البحر خداع وغدار.
    وليس بمعجز أن يتغلب على موجه ولو أن أغلالا ثقيلة تربطه بذلك الماضي. إن عذابه بمقاومة هذه الأغلال هو الذي ينشئ معنى الحياة ,ينبغي أن تتعذب ,أن تصهرك المحن, وإلا فلم لم تبق هناك, يجب أن تتبلو الحياة وتجربها في أعمق مجالاتها.
    مصباح عالم بهذا الماضي فلماذا تحمل السوط لتجلد نفسك؟.
    أبداً ينبغي أن لا تفسد هذه الذكرى في يومك هذا. إنك الآن في هذا المجلس و كفى.
    جرى ذهن مولود بالحيوية ذاتها التي يتحرك بها فتساءل : و كيف راق له أن يلبي دعوة مصباح في هذه الليلة بينما ضاق صدره و اعتذر في ليلة سابقة.. لعله الرضى عن النفس، لقد قام قبل أسبوع بالواجب غير هياب، إنه لنوع من الجرأة- ولا يقول البطولة- أن يوفق إلى تهيئة كل شيئ لاستقبال دفعة من المسجونين في الأرض المحتلة ، و إذن فليس إسفافا أن يثرثر ، مادام قد أدى مقدما حسابه.
    سيسمي هؤلاء منطقه تزمتا إذا سمعوه يجهر بهذا المنطق أو يسمونه سذاجة. إنه يفهم روح الشباب العابث. كان هو عابثا في يوم من الأيام ، و بشكل من الأشكال.
    حاول أن يؤكد أمام نفسه أن هذا المجلس ذو صفة عارضة في حياته. إن ما يتحدثون به هو أفكارهم يعكفون عليها وحدهم و يستغرقون فيها، يلوكونها المرة بعد المرة.. و ليس هو ذاته سوى بعض هذه الخواطر التي يحصرون فيها أفكارهم.
    كانت فائزة شقيقة مصباح تجلس في موضع مقابل لموضعه، فتاة عذبة ساجية الطرف، بيضاء البشرة، مقبولة الشكل، ليس في أعضائها مبالغة و لا عدها فضول.. لا ينقصها طول القوام و الهيف. و قد بدت عليها برودة الطبع فهي لا تتحمس لشيء. أما المرأة الناضجة التي تجلس عن يمينها، فقد كان نظرها يتلظى.. تنتقد كل شيء و لا يرضيها شيء.
    و لئن جلس مولود جلسة غير الحافل بما يدور حوله من حديث، كأنه لا يعنيه، فقد اشرأب بسمعه عن بعد، لقد تطرق الحديث إلى أحد زملائه في المعهد. إنه يعرف هذا الزميل حتى ما خفي من أحواله الداخلية، فهو رقيق الحال و من عائلة مغمورة، فما بال والدة مصباح تغمز من خفضه لمجرد أن ابن أختيها قد خطب شقيقته.
    آه.. ها هو الحديث يتجه اتجاها آخر، الهدف الآن فتى آخرمن عائلة مرموقة.. و برغم ماذكروه عن تفاهته، فإن والدة مصباح كانت تمتدح شمائله و تشير بطرف خفي دون أن تصرح أن الفتى طوع بنانها، هي التي انتقت له زوجته فلانة، وهي..
    و عندما خرج مولود من دار صديقة كان رأسه يدور، أحس بأنه كان في كن مشبع برائحة البخور التي توحي بلزوم القبول بكل شيء..أليس هذا مفعول البخور في المعابد؟.. أن السدر الذي تحدثه هذه المادة المحترقة في الأعصاب يشل الإرادة..أما هو، فإنه نبيذ خرج الآن من زجاجته.الآن فقط يستطيع أن يمارس مفعوله في الحياة أو في الرؤوس إنه لا يريد أن يظل حتى يموت محتبسا في الزجاجة، و لو أن هذا ما يسمى بالتعتيق.
    و قال مولود :
    - ما هذا المجتمع؟ إنه مفتوح مغلق : مفتوح لأنه يرحب بأي مخلوق على وجه الأرض، يرحب به ويحييه، و يبسم له ، يحدثه، و يضيفه ثم يودعه..، مغلق لأانه كل طبقة فيه تمارس طقوسها الخاصة بها ، و ترفضالتزاوج، و النتيجة هي : مجتمعات متعددة بل هائلة العدد، يتميز بعضها عن بعض، قطع مرصوفة بعضها إلى جانب البعض الآخر. إذا نزعت منه قطعة سارت القطع الباقية سيرها الطبيعي في الحياة كأن شيئا لم يكن.
    - فلو تعاقبت قوى بعدد هذه القطع و اختطفت كل واحدة مننها قطعة منه لم يبق منه شيء، لأن التفاعل العضوى بين القطع المرصوفة مفقود. و هو إلى ذلك مجتمع مكبوس في المعلبات، لا حرية فيه، لا يتزوج امرؤ إلا بالفتاة التي يوافق عليها الجميع و عندها تكون هذه الفتاة في الفتاة المثالية، أما إذا تخيرها لنفسه ضاربا صفحا عن رضى الجميع، سقطت و سقط من أعينهم.
    - و روض قسوة هذه الصورة في ذهن مولود ملامح فائزة، برزله هنا الوجه الوديع مضيئاً باسماً محاطاً بهالة. كيف نسي هذا الوده؟ إنها لديرة بالمودة و بشيء أكثر منه أيضاً.. لماذا تباطأ تفكيرك أخشيت تلك الكلمة الكبيرة الصغيرة؟.. و عبثا حاول أن يلقي دون ملامحها حجابا صفيقا.
    - و ابتسم، خجل بينه و بين نفسه، حين وسوست له أن فائزة ليست من هؤلاء الناس. لماذا كانت تبسم له و تستنسخ الفرصة لتنظر في عينيه.
    - أتراها تعني بسمتها هذه؟ أم هذا من تهاويل هذه المجالس التي لا حقيقة وراءها؟..
    - و تساءل : كيف؟.. و هل يمكن تجريد هذه البسمات من وجودها.. لقد كانت ابتسامات لا ريب فيها و لا هم، ذات لحم و دم.. أترى فائزة تردك أعماق ذاته و ما يجول في دخيلته من هزء بهذه المجتمعات؟.. أتراها توجه نارها إليه لتحرق مقاومته؟.. و لتخضعه لإرادتها؟.. كل شيء ممكن في مجتمع مائع زنبقي تجري المؤامرات فيه تحت الأرض كما تسري المياه الجوفية.
    - أأنا ذلك الجيولوجي الأريب الذي يخطط و يحفر ليستخرج هذه المياه من مكانها؟..
    - ليس لدي الوقت الكافي.. ثم مالي و لهؤلاء. خير لي أن أصرفهم عن تفكيري. إلى أين وصلنا؟..
    - - ما هو الفتح الذي يعد بيه الفرع الالكتروني. ها ..هنا عقدة البحث. ذلك سيمكنه من أن يصنع شيئا لأولئك الذين يرزحون هناك في الأرض المحتلة من إخواننا.
    - و فاجأ نفسه و قد عادت فائزة تتسلل إليها مرة ثانية :
    - حسناً.. و ما لفائزة هذه أيضاً؟.. أتعتقد بأنها ستتحرك إليك، أتعتقد بأن المبادرة ستكون منها..؟ المرأة لا تبادره أبداً، يجب أن تبادر أنت..
    - و لماذا أبادرها.. هل أنا محب لها. بما نعم، و بما لا و لكن لا أنكر أن حديث المرأة غذاء في غالب الأحيان. كسب، هو وحده غذاء. إذا شاهدتها في الطريق سأستغل الفرصة و أكلمها.. إلا أن أيه علاقة لم تنشأ بيننا.. من يدري ما يخبئه المستقبل؟.
    - بدأ اليوم التالي و ضيئاً مصقول الحواشي كثمرة ناضجة شقت لساعتا و تهيأت.. و عندما التقى مولود بمصباح في استراحة المعهد العالي جذب انتباهه جذباً عنيفاً السبه الماثل في وجده مصباح لشقيقته فائزة، إنه شبه صارخ تجاوز قسمات الوجه ليشمل حركات اليد و انحناءة الرأس و جرس الكلمات الصاعدة من الفم، و أراد مولود أن يتفادى من النظر في وجه زميله، و لكنه ألفى نفسه ينتزع بصره من انتزاعا..
    - لماذا لم يدرك هذا التماثل بينهما أمس في المجلس الذي ضمه و إياهما؟.. هل معنى ذلك أن صوت فائزة سكن في أذنيه فلا يغادرهما ..و هل معناه أن حركات يديها ما زالت تلوح أما عينيه حتى الآن؟.. و هل معنى ذلك أيضا أن صورتها انطبعت في مخيلته فهي أبداً أما ناظريه؟..
    - و حاول أن يتبرأ من كل هذا. قال في سره : أليست الذاكرة الحركية و الصوتية أقوى لدى الأنسان من أي ذاكرة أخرى ساكنة صامتة؟.
    - هذا ما تعلمه في الكتب المدرسية.. كتب علم النفس.
    - قاوم ما شاءت لك المقاومة، و حاول أن تمهد الأرض وراءك لتمحو آثار أقادمك، فلست فائزاً إلا بخداع النفس. أوما تشعر بدقات قلبك تتسارع كلما التقيت مصباح؟.. إن عقلك يشر عليك بوجوب الابتعاد عن مصباح و لكنك لا تفعل سوى أنك تجد نفسك حيث يكون. هكذا بالصدفة أليس كذلك؟.
    - و تمتد يده لمصافحة مصباح برغبة كلما التقى به. و يشعر أن ترحيبه به يصادف محله. هو ترحيب بصديق و أكثر قليل.. و تشتبك الذراعان، و يدخل الرفيقان الفصل.
    - بعد لحظة دخل الأستاذ و صعد المنصة فوقف الطلاب و ظلوا واقفين حتى أشار لهم بالجلوس و راح يصفف على المنصة أدواته من عدادات و كماشات و مجهر.. كان أما كل واحد منهم مجهر، فقد كانت المحاضرة بحثاً في الخلائط المعدنية. و في سبيل ذلك قام المحضر مسبقا فوزع على الطلاب "عينا" من خلائط معينة لوضعها تحت المجهر.
    - بدأ الأستاذ يشرح مبدأ الخلائط و يرسم على اللوح بعض المعادلات ثم قال :
    - - أعطيت كل خمسة منكم مادة واحدة موزعة على خمس "ع ينات " و على كل واحد من هذه المجموعة أن يعطي صفة واحدة للمادة بعد رصدها بالمجهر لتطبيق المبدأ عمليا. و انكبت الرؤوس على المجاهر.
    - فوجئ مولود بعد بضع دقائق بيد تربت على كتفه، فإذا به الأستاذ و قال له : كل الطلاب أكبوا على مجاهرهم، إلا أنت.. ماذا هناك..
    - و ارتبك مولود و أحمر وجهه و أجاب :
    - لا شيء.. لا شيء. سوى أنني أردت التريث لاستعد.ص 130
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

  6. #66
    وابتسم الأستاذ بينما كان مولود يكب على مجهره وابتعد..
    وحين انتهى الفصل تذكر ان النهار هو الخميس وهو نهار مشكوك فيه بين ان يكون نهار وقفة عيد الأضحى او اليوم السابق له.
    وكاد يتساءل عن سبب تخلف الفتى الموعود حينما خرج إلى الباحة فبادره خادم المعهد يخبره أن في صالة الانتظار فتى ينتظره ..وادرك من فوره من هو.
    -أهلا يا معاذ .
    -جئت حسب طلبك.
    -حسنا تنتظرنا مهمة ,فالعطلة تبدأ غدا ووقد اعتقدت اننا نستطيع ان ننجز خلالها عملا لها.
    -هو ذلك ,ففي هذه العطلة متسع ..هات مشروعك.
    -اسمع يا معاذ لقد كنا نحاو العثور عليك ,ويجب ان تذهب حالا لتستغل هذه العطلة المستطيلة, فلقد أعددت لك مهمة الاتصال بسامح ورفاقه هناك وراء الحدود.
    وناول مولود معاذا ورقة وقال:
    -هذا عنوانه فاحفظه عن ظهر قلب وأتلف الورقة من بعد ذلك ,ويجب ان تعلم أننا لسنا في مهمة استخبارية ,فنحن أبعد ما نكون عن ذلك وإنما أنت ولا ريب مطلع على أن رسائل اولئك الرازحين وراء الحدود إلى ذويهم التي تسمعها في الإذاعة العدوة أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة ,فهي ما ان تكون محكية عن لسانهم حالة كونهم لم يسألوا عما يريدون إذاعته أو أنها محرفة عن حقيقة ما يجري لهم هناك, إن مهمتك التي ننفذك إليها هي الاتصال بالعائلات ممن تخلفوا هناك ولهم أقارب هنا وسؤالهم عما يريدون إنهاءه إلى أقاربهم, ثم الحصول على إحصاء عن أحوالهم وما يشكون منه على أن يكون هذا العلم دقيقا ومستندا إلى وقائع وأرقام.
    وسكت مولود لحظه ثم أردف قائلا:
    -هل تشعر بأنك على استعداد للتحرك ضمن حدود المهمة؟, إن أول أمر هام في مثل هذه المواقف هو حرية التحرك لصاحب المهمة.
    وأجاب معاذ:
    -ولم لا, لم أشعر بمثل هذه الحرية في وقت من الأوقات كما أشعر به الآن.
    -حسنا ,كنت أتوقع ذلك, وينبغي أن تعلم أن دوريات العدو تعترض طريقك, فإذا وقعت في مأزق ,فلن يكون في وسعنا أن ننجدك, فلا تتورط أبدا, ويجب أن تذكر أنه لا يدخل في هذه المهمة الغوص على المعلومات عن العدو, فاترك ذلك للصدفة وانقشه في ذاكرتك.
    وكاد معاذ يودع مولودا, إلا أن هذا الأخير ابتسم له ابتسامة عتاب وقال:
    -لم يحن بعد وقت مغادرتك.
    وبسط له خريطة وقال له:
    -هذا طريقك ,وبالطبع هذه تقع تحت طائلة الحفظ عن طهر قلب والإتلاف ,لا تجبر أحدا على التعاون معك, فقد تكون له مبرراته وظروفه.
    وصافح مولود معاذا بعنف وتركه وابتعد ,وتأثر مولود من عنف مصافحة معاذ له وأقلقه ذلك في الوقت نفسه, فإنك لتصافح من لا تتوقع أن تراه قريبا, ثم أخرج من جيبه مثيلة الخريطة التي سلمه إياها ,وراح يتبصر فيها ويقول: في وسع معاذ أن يأخذ بالطريق الصغير إذا احتاج إلى الهرب, أما إذا أخذ بالطريق الرئيسي فلا بد من واسطة نقل, وعسى أن لا يطلق عليه أفراد العدو النار تسلية كما اتفق ,أن فعلوا.
    وسرح طرفه في القصي البعيد وظل على ذلك يضع دقائق ,ثم هتف عاليا وكأنه يخاطبه:
    -الله معك يا معاذ.
    كان مولود قد اعتاد في كل يوم خميس أن يصطحب رفيقه شاكر في سيارة هذا الأخير إلى مكان ما حيث يرجى أن يصل أفراد ممن تحدروا من سجون كانوا يعذبون فيها, ولقد أصبح يوم الخميس موعدا مقيما يعلم كل من الرازحين وراء الحدود والراغبين في التداوي ,ماذا يعني بالنسبة لكل منكوب هناك يوم الخميس.
    وهكذا بدأ مولود وشاكر مغامرتهما التالية, لكن هدفهم في هذه المرة كان مختلفا ,فقد كان مشروعهما المرسوم يقضي بالتوغل في الأرض إلى بقعة يغلب عليها أنها أهملت وصار وضع نقطة تستقطب نشاطا أبعد مدى هناك أمرا مرغوبا فيه, كما يحتمل أن تصلح هذه النقطة كموضع للتلاقي. ص 134

  7. #67
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    882
    و قال مولود يخاطب شاكر :
    - الذي يستهوي نفسي إلى هذه المغامرة هو تصوري أن نشاط الرجال فرادى أقرب إلى النجاح من عمل الجماعي ، و كل ما يجب عمله هو إفهام هؤلاء الأفراد أن هناك من يعمل إلى جانبهم في الوقت ذاته ، و هذا ما يعضدهم و يأخذ بساعدهم.
    - و نظر مولود فجأة إلى رفيقه من حيث انشغل هذا الأخير بإصلاح قطعة حديدة في السيارة و قد تجلى فيه كل ما ينبئ عن طيب النفس و السذاجة و خاطب نفسه قائلا :
    - إنك يا مولود سعيد الحظ بمثل هؤلاء الرفاق و لكن ألست ترهقهم في أمرهم ؟ زز هذا شاكر سائق سيارة عمومية و قد جاء بك إلى الحددون إذن صاحبها الذي يعمل هو لحسابه و ستترك السيارة في مخبأ هنا يعرفه شاكر ، فليس لكما أن تستخد ماها هناك وراء الحدود لأن رقمها ليس رقما فلسطينيا ، فكيف يكون حال شاكر لو سرقت أو دمرت ؟ زز
    - و هنا التفت شاكر إلى مولود فقضى بذلك على تصور مولود.
    - كان برنامج الرحلة أن لا تصاحبهما السيارة لهذا سلك مولود و شاكر سبيل كل مسافر أخر في باص عادي في قرية على الحدود يعرفانهما جيداز و حين غادرا الباص كانا قد بلغا أكثر من نصف الطريق إلى هدفهما و كان عليهما الاختيار بين طرق متعددة. و دلت معرفة مولود بالجبات الأربع على أن أقرب طريق و أقصره هو الذي يتجه جنوبا بغرب مخترقا بعض مراقي هضبة وعرة، وقال شاكر :
    - أتعلم يا مولود أن هذا الطريق قد أعفانا من أكثر من خمسة آلاف متر ؟ ..
    - - زكيف علمت ؟ ..
    - - أتذكر يوم عدنا بالكوكبة الأخيرة من المنكوبين ؟ .. إذن فاعلم أن منطلقنا اليوم كان نهاية الأوبة غير هذا و أطول . لقد دلني الزمن القصير على ذلك. وقال مولود سائلا :
    - - أعتقد أنك رام ماهر.
    - -هذا ما أعتقده ، فقد كان تدريبي شاقا ، و لكنه أنتج أيما إنتاج و أنت ؟ ..
    - - أما أنا فلا تزال عندي بقية من إجادة الرمي ..

    - و تراجع مولود بذاكرته آخر نشاطه قبل دخول معهد الأحداث ، فلقد كان سرق مسدسا و مقدارا كبيرا من الذخيرة ، و دأب في مكان خال في ظاهر المدينة يتدرب في ثبات و إرادة حتى خيل إليه أن الطاثر المنقض لا يفلت طلقاته .
    - وقال شاكر :
    - - أظنني سمعتك تقول : إذ خلقنا سلاحنا ورائنا وجئنا بلا سلاح كان ذلك آمن.
    - هو ذلك . و لكن إنما أردت المعرفة لأعرف كيف سنتصرف في المستقبل .
    وطالعتهما أرض ذات وعورة ,فلما بلغا ساقية هناك, أبصرا حقلا أدهشتهما نظام الزرع فيه وفجأة وقع بصرهما على بقايا طعام معلبات ,فاجفلا واستقر رأيهما على اتخاذ اتجاه مضاد إلى الجنوب حيث يبدو أن الأرض لم تستصلح بعد, إلا أنهما اجتنبا الوديان, فعاجا خلال الهضاب ,وكان عليهما أن يشقا كل ميل شقا في هذه السباسب ,وأخيرا اجتازاهما جميعا ولكنهما سلخا إحدى عشرة ساعة ليقطعا عشرين كيلو مترا وكادت مؤونتهما من الزاد قد تقلصت ووجب أن يحسبا للعودة ,إلا أن الماء لم ينقص من مطرتهما كثيرا, فلقد ملآها من ماء ساقية أثناء سيرهما, والجو الرطب كان يساعد على السير بدون تعرق, إلا أن الوهج أصبح ساطعا فيما بعد والجبال البعيدة تبدو وكأنها تنأى عنهما وسخر منهما السراب ورأيا نفسيهما مرة بادين في صقال ما يشبه مرآة هائلة, وحدقا في صف جانبي, فإذا هو مؤلف من عشرين صورة لهما تحكي حركاتهما ثم قارب الماء الذي معهما على النفاد وكابد عذاب الظمأ, وبينهما كان النهار قائظا ,كان الليل بالعكس من ذلك مقرورا, مما الزمهما بالالتصاق التماسا للدفء.
    ولاحت لهما بيوت منتظمة عن بعد فتجنبا الاتجاه إليهما وساعدهما على ذلك أن من مروا بهما من مزارعين يرتدون الخاكي ,لم يلقوا بالا لهما, ومع أن مولود وشاكر لم يكونا من أبناء البر في الأصل, إلا أنهما كانا يتمتعان بحس صادق, وقد وفق مولود إلى زيارة الأماكن ,أماكن الخطر بخاصة, ومرا بفتاة شقراء قد شمرت عن ساعديها ,وهي ترتدي بنطلونا مما يلبسه رعاة البقر, وتستاق أمامها بغلا موقرا بالأخشاب المنشورة, واكتشفا فيما بعد أنهما في رحلتهما هذه لم يستريحا إلا مرة واحدة, وكان طعامهما نزرا لأنهما تفاديا من أن يعرفا أحدا في هذه المناطق.
    وأضنت المشقة نفسيهما ,وبدت عليهما مشية المكدود, ولكنهما صابرا حتى وصلا إلى الهدف فخفت البهجة لنجدة هاتين النفسين المكدودتين.

    والان أصبح أمام مولود متسع من الوقت للتفكير, فلقد شاب بهجته حزن غامر ,وسرعان ما غاصت الابتسامة عنده ليحل محلها برم بهذا الوجود ,فإنه قبل سنوات بالطبع كان الناس الذين يراهم غير الناس, نالوا وحل محلهم اناس آخرون بدأت هجرتهم سلسالا ضخضاخا لم يلبث أن أصبح سيلا متبطحا وهو الآن يستريح ويستقر.
    وبينما كان الرفيقان يجوسان خلال دغل صغير, لاحظ مولود أن النبات قد انحسر بشكل اسطوانة من الأعلى إلى الأرض كأن جسما ضخما ألقي من عل فقص النبات قصا منتظما, وتوقف قليلا ,أما شاكر فلم يلتفت إلى ذلك وخطا ,إلا أنه لم يستطع أن يتابع خطوه لأن مولود انقض عليه فجأة وأوقعه على يمين ذلك المكان بعنف ووقف أمامه منتصبا واضعا يديه في خصره.
    جاءت هذه الدفعة على شاكر وصاحبهما كشك ألقي في نفسه جارح تجاه شخص مولود. ص 138
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

  8. #68
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    882
    جارح تجاه شخص مولود . و بقي شاكر على الأرض ينظر مذعورا إلى رفيقه فأشار إليه مولود أن يقوم متراجعا و كان إعازه له بصوت صارخ. و تمالك نفسه قليلا ثم قال بصوت ضعيف خائف :
    -مالك يا مولود.. لماذا هذا التحرك و بهذا الشكل ؟..
    وكان مولود قد تمالك وعيه أيضا فأجابه و وجهه لا يزال ممتقعا :
    - الم تشاهد ما شاهدته أنا..
    - لا لماذا ، ماذا هنالك؟..
    - قنبلة لما تنفجر بعد غارقة في الأرض ، فلو خطوت خطوة أخرى لكنت الآن في عداد الأموات.
    و أطل شاكر على المكان فوجد قاعدة القنبلة.. فتردد بصره بسرعة بينها و بين مولود ، و قد ارتد إليه كامل وعيه و هجم على مولود يقبله ، و هو يقول :
    - أنا مدين لك بحياتي يا مولود ..
    - أنا لا لأهم هذه اللغة .. والآن لنداعب هذه القنبلة.
    و صاح شاكر بأعلى صوته كأنه مجنون :
    - ماذا تقول؟.. هل انت جاد؟..
    - كل الجد ، فإن الصهاينة يأملون من ورائها أن يزهقوا روح جملة أفراد من العرب ، فلنخيب أملهم.
    قالها مولود دون أن ينظر إلى شاكر. ثم أخرج من جيبه أداة حديدية و بدأ يحفر عن القنبلة، و يزيل عنها الحشائش حتى أصبحت عارية تماما. وقام من فوره يدور حولها و هو قائم على أربع يتفرس في كل إصبع من جسمها. و طال تفرسه هذا ثم أخرج من جيبه مكبرة بعدسة و عاود فحصها بها. كل ذلك و شاكر فاغر فمه و عيناه متسعتان و وجهه أصفر من الفزع وقال لمولود :
    - هل أنت جاد بهذا العمل ؟..
    - -ماذا تراني أفعل إذن؟..
    - لا يقوم بهذا العمل سوى مجنون.
    - صدقت ، وهذا هو أنا..
    و توقف شاكر عن الكلام و ابتعد بنظر بزعر ظاهر .. و قال له مولود :
    -تمدد على بطنك على هذه الأرض إذا كنت خائفا.
    و فعل شاكر ما أشار به عليه مولود و جعل من مكمنه بنظر إلى مولود و قال هذا :
    -إن المتطوعين للبحث العلمي في القنابل يعدون هذا البحث ملهاة لذوي الغيرة من طلاب الانتحار. و لكنني أنا أرى خلاف ذلك.. إني أرى أن يقامر فريق من الخبراء بحياتهم في سبيل الكشف عن أفضل الطرق للتخلص من القنابل التي لم تتفجر، و بذلك يسلم الآخرون.
    و تابع مولود عمله يفحص القنبلة من جميع جهاتها و يقرعها و يصفي إلى ما يصدر عنها من رنين ، و يخاطبها بألفاظ تستوقف النظر :
    دليني على مكان الكبسولة يا حبابة. دليني على الأقل على مكان الجهاز الإلكتروني الخاص بك. هيا ..هيا يا قنبلتي اللطيفة.. إنني أحبك و لهذا أريد أن تبقي سالمة و أريد أن أنزع مفجرك.
    و فجأة قال مولود لشاكر :
    - إبتعد يا شاكر إلى مكان مأمون.
    ثم انبطح على بطنه و وضع يده على قطعة معدنية بارزة بعض الشيء يفتلها بكل حذر و ببطء شديد إلى أن برز من جسم القنبلة قسم منها ، و تابع عمله و العرق يتصبب من حواجبه على عينيه إلى أن أمسك بهذا الجسم و ارتفع به العنف عن كيان القنبلة. فلما أصبح في يده أطبق يديه بعنف إلى أن أزاحه عن باقي الجزاء و اندفع واقفا و هو يبتسم ، ثم ضحك ضحكة مدوية كأنه مجنون. و عندها فقط سمع صوت رقاص بسرعة يدور في هذا الجزء من القنبلة و قال مولوج :
    -بإمكانك يا شاكر الآن أن تقترب لقد كسرنا مخلب هذه القنبلة الصغيرة المدللة..
    و ظل شاكر في مكانه، إلا أنه سأل مولودا :
    -كيف تسنى لك أن تعرف ما تعرف عن القنابل؟..
    قل كيف تسنى لك أن تعرف عن الجهاز الإلكتروني ..هذه حصيلة دراستي في الإلكترون .و الآن تم شطر الرحلة فقد بقي أشق الشطرين، ذلك أن البيت الذي طرقوه كان يأوي على ما تبين بعد ترحيب أهله بهما، عائلة فقرة ، وقد خف ربها لنجدة فتى نزلت به نازلة ، فقد قدرتهما على التمييز و تعطلت ملكاته العقلية، فجاء به إلى بيته حيث أضافه إلا أنه عجز عن معالجته ، و عندما نظر إليه مولود أشفق حينئذ أن لا تجدي معه المعالجة فيكون هذا الرجل كشجرة اقتلعت من منبتها ، فإنها متيبسة لا محالة و ساوره من ذلك قلق شديد.
    و نظر الرفيقان شاكر و مولود كلٌ إلى صاحبه / و قد ارتسمت على محيا كل منهما إمارات التساؤل و الحيرة ، فها هنا مشكلة حالة آنية تتطلب حلا سريعا. إن عطلة مولود تنتهي في اليوم التالي ، و ليس لديه متسع يفكر فيه.. كما لا يعرف أشخاصا كثيرين هنا ، ليتفق معهم على حل. أما شاكر فجعل يروح و يغدو في أرض الكوخ عله يستلهم من مرونة عضلاته ما ينهض به و برفيقه من الوهدة التي وقعا فيها .و أخيرا توقف و قال :
    -أرى أن اصطحاب هذا الشاب ضرورة، فإن بقاؤه إلى جوار المكان الذي حصلت فيه النكبة حائل بينه و بين الشفاء. ذلك ما توحيه هيئته ..و لقد سمعت منك يا مولود شيئا من هذا القبيل في مناسبة سابقة.
    -هذا صحيح فإن رأيي متوافق مع رأيك. ولا بد من نقل الشاب إلى أرض مأمونة فيها حرية التحرك.. و لكن كيف لنا بنقله.
    و لم يكن بوسعهما أن يستنجدا بأحد، فإن ذلك خليق بأن ينبه إليهما نواظر السلطة المحتلة. و قال رب البيت :
    -لقد أحضرنا هذا الشاب عندما وجدناه وحيدا في فضاء لا شحر فيه و لا مأوى بعد غارة ألقت فيها طائرات السلطة المحتلة أطنانا من المتفجرات تريد بها تتبع الفدائيين و ضربهم .. و قد حسبناه في بادئ الأمر أخرص، إلا أنه ما عتم حين سمع ضجة أن صاح : طيارة.. طيارة....ثم سكت، و عبثا حاولنا استنطاقه فقد كان جلسته هذه ينظر إلى نقطة ثابتة في الأرض لا يحيد بصره عنها .
    و سأل مولود :
    - هل يعاند اذا أشير عليه بالعسير..؟
    و أجاب صاحب البيت :
    - لم يعاند حين جئنا به إلى بيتنا. إلا أنه بقي كما ترى. إن من يرقبه يرميه بالجنون أو الخبال . صار للرحلة الآن في نظر مولود عالة مجسمة في لحم و دم. و برغم من أن ما حكي عن الشاب قد صدق عليه فإنه كان يسير حيثما يراد له أ يسير ، حيثما يراد له أن يسير ، إلا أن الوضع النفسي لمولود و شاكر كان متعبا .فهما بالدرجة الأولى قد تركا المهمة التي جاءا من أجلها لاستنفاذ هذا الشاب الذي لو ترك و شأنه في مقل هذه الظروف و في منطقة عزلاء.. ليس فيهما سوى يتيمين لعائليتين قرويتين .
    - لقد هورت حالته الصحية و لأودى به ما هو فيه. قم إن الحكمة كانت تقضي بسلوك طريق عودة غير طريق الذئاب.. أو التحرك ليلا. غير ان السرى لم يكن محمودا في أيام كهذه و ظروف كالظروف.
    و قال مولود : و مع كل يمارسه هذا الوضع على اكتافنا من ثقل ، فقد وضح أن علينا توطيد النفس لرحلة شاقة.
    و عندما بدأ مسير هؤلاء الثلاثة كان مولود يشبك ذراعه بذراع الشاب. و كان شاكر يستطلع الطريق سائرا أمامهما بحذر.فلما استعصى على شاكر أن يتبين مالاح أمامهما على مسافة مئة متر من سهل فسيح ، جاء مولود على صيحته ليجرب حظه في تبيان ذلك الشيء البعيد. و عندما عاد لم يجد الشاب في موضعه . و قال مولود :
    -لقد شرد الشاب .
    و أجاب شاكر :
    - هذا طبيعي بالنسبة لإنسان يملك نفسا متلاشية كهذا الشاب. في مرة قادمة لن تفلته من يدك و لو ناديتك.
    و ذهب الفريقان يبحثان بين الزروع الطويلة السوق. و طال البحث و تعرقت الجبهتان و كاد ينفذ الصبر و لعن شاكر الساعة التي صاح فيها برفيقه و فضل لو أنه واجه الموت وحدة ، على ما هما فيها من عنت و نصب.
    كان بين الواحد و الآخر مسافة عشرين مترا حين صاح مولود :
    -وجدته.. وجدته..
    و عندما اقترب شاكر من صاحبة الواقف هناك و هو ينظر إلى الأرض شاهد الشاب مضطجعا على جنبه في وضع مستريح و بصره شاخص إلى الأرض.
    و استأنفا السير حثيثا في هذه المرة، و قال مولود :
    - لن ينفعك ذراعي عن ذراعه مهما حصل.
    و بدا الشاب أليقا يؤمر فيطيع.. و بدا التعب بعد نصف ساعة على مولود ، فأسرع شاكر قول :
    -بدا التعب عليك يا مولود.. هلم فسلمني ذراعه هلم فسلمني ذراعه ..لتناوب..لم يجب مولود بحرف بل فعل ما طلبه شاكر .. الذي ما إن مضى نصف ساعة أخرى على مسيرة حتى صاح :
    -يبدو أن قدمي ارتطمت بصخرة عنيدة خفيت علي أثناء الطريق ..
    و خف مولود فأخذ بذراع الشاب و وقف ينظر إلى شاكر و هو يجلس على العشب فإذا به مصاب بجرح رغيب. كان الجرح يخزه آنا بعد آنا، حسبما أفاد ، وقال مولود :
    - هذا خفض يسير من الأرض لنستروح فيه ،اضطجع انت ، لعلي غفوة تريحك من الألم.
    - و فعل شاكر. إلا أنه لم ينم إلا غرارا.. ثم نهض و سار الجميع .. شاكر يعرج و مولود ذراعه دائما مشتبكة بذراع الشاب.و في اليوم التالي كان شاكر قد أصبح ناقه امن جرحه. و مع كل هذا فلم تند عن صرخة.
    فلما انتهى طريقهم إلى مجاز للعربات مضوا فيه، فلقد أدرك الرفيقان بشيء من توارد الخواطر أنه أقصر طريق. و إذا بهذا المجاز يتأدى إلى فضاء عرفاه للوهلة الأولى، إنه الفضاء الذي ولجا فيه مع رفيقهما أول يوم من مهمتهما. و لئن كان واسعا سعة استغرقت منهما ساعتين ،إلا أنهما ما لبثا أن وجدا نفسيهما وقد لفتهما المنطقة المألوفة.
    و هكذا انتهت مغامرة أصاب فيها مولود- على ما شافع بس شاكر- نصيبا وافرا من التجربة و الثقة بالنفس، و قال مولود معقبا :
    -و قد عدنا أيضا بصيد غالي الثمن.
    وقال شاكر لمولود حين أدركا من ضيفهما المسكين الباص :
    -ما الرأي في المسكين؟..
    و أجاب مولود و عليه إمارات الرجال المستريح :
    - اتركه لي فقد تدبرت أمره. .لي صديق، طبيب نفساني سأعهد أمره إليه.
    و سكتت مولود و قد ارتسم على وجهه الهم و فكر : لقد ك1بت يا مولود فما تعلم من أمر الطب النفساني و لا الأطباء النفسانيين شيئا . و لكن ما فكرت به غير مخصص لأن يعلمه الآخرون، إنه أثير لديك لأنه يكشف جانبا من نشاط لا يجب أن يعرفه حتى شاكر الذي لم يتخرج من معهد الأحداث. فأنت الآن مولود بن مخلص من عائلة النابلي و هي عائلة و أن تكن مجرد لقطة و لكن يبدو أنها توافقك تماما و لا غبار عليها . أنت تعلم دون شك خلق الله جميعا أنك ستلجأ إلى مدير معهد الأحداث ذلك الصديق الذي تكن لد أصرح الود و أعمق الاحترام . هذا الشاب يحتاج علاجه إلى أناة لا تملكها أنت.. و يملكها مدير المعهد.
    و بعد أن ودع شاكر مولودا ، لدى توقف الباص في المدينة. تحرك هذا الأخير مع الشاب ذراعا بذراع. و هناك في معهد الأحداث الجانحين كان المدير غائبا. فهتف له إلى داره، و أبلغه ما هو في سبيله، و سأله عما إذا كان يصح له أن يطمع في عونه، و أجاب المدير بالهاتف :
    -يجب أن تعلم يا مولد بأن لك الحق دائما في عون المعهد ساعة تشاء ، و تستطيع بملء هذا الحق أن تحصل على ما تريد من مساعدة.
    و جلس مولود – و إلى جانبه الشاب- ينتظر وصول المدير من داره ، و هو في مد غامر من الغبطة ، و اذا بالمدير يدخل فيهب مولود واقفا فينحني و يحييه تحية حارة.
    كان الشاب الذي أحضره مولود أسود الشعر جعده. و قد ذبل جفناه و قوف بجانب النافذة ، بصره جامد لا يطرف، يتجه إلى القصي البعيد و يداه مقبوضتان بجانب النافذة ، بصره جامد لا يطرف ، يتجه إلى القصي البعيد و يداه مقبوضتان بشدة ، كأنما قد طواهما على شيء ثمين ، لا يستطيع أن يدعه يفلت منهما. و أسر مولود إلى المدير ببضع كلمات فهز هذا رأسه جزعا و قال :
    - هذه حالة مستعصية و قد مربي مثلها و فيها مشقة.
    و قال مولود :
    - أنا آسف على أنني سأسبب لك المتاعب ، ربما لا تسمح أنظمة المعهد بذلك.
    و قال المدير :
    - سواء سمحت الأنظمة أم لم تسمح ، فأني سآخذ الأمر على تبعتي. ما كنت لأرفض طلبا استجابته لها مثل هذه القيمة عندك. إن الأمر على ما أرى يستحق المشقة و المخالفة. و لكن قل لي يا مولود : بماذا تعمل اليوم .. أتراك تركت الدراسة و الكلية التي بذلت جهدي في عونك على الانتساب إليها .
    - - ما كان لي يا سيادة المدير أن أكفر بمعروفك ، فأنني في الصف المنتهي الآن . و أنا المبرزين في الفصل. و لكن مثل هذه المهمات من الهوايات عندي.
    - ما شككت لحظة واحدة بمعدنك الطيب يا مولود ، إنما أردت أن أستعلم، و ها أنا أجد نفسي قد كوفئت على جهودي.
    و قام المدير من مقعده و اتجه نحو الشاب و لمس كتفه برف و قال له :
    - كيف حالك أيها الشاب؟ ..
    و كطائر بلغ كف الصياد عش انتفض الشاب و نظر في ذعر في وجه المدير ثم لاح عليه أنه اطمأن قليلا لأجاب :
    - عم مساء يا سيدي.
    و كان صوت الشاب على خلاف ما كان قبل ذلك. ود بيعا مهذبا.. و ظل ينظر إلى المدير لحظة ثم خفض بصره و أدراه إلى النافذة.
    -ما قولك في عشاء لذيذ؟..
    -كلا يا سيدي ، و شكرا.
    - أتحب التدخين؟..
    -كلا يا سيدي و شكرا.
    -و ما رأيك في قليل من القهوة و بعض الشطائر؟.
    -كلا يا سيدي و شكرا.
    و عاد المدير و هو يتكلف الابتسام :
    -أتفضل من ي أن أسكت ؟..
    -كلا يا سيدي و شكرا.
    و هكذا كان جواب الشاب على أي سؤال يوجه إليه. و قال المدير لمولود :
    - أنت ترى وضع هذا الشاب. إنه لا يسعني أن أنصرف و أدعه – وحيدا مكتئبا و يداه مقبوضتان. إن رجلا مثلي عانى الكثير ، ليس من السهل أن يقنط . اطمئن يا مولود لن أتركه. الآن سأنفذ إليه من يهيئ له سبل الراحة و سنلتقي غدا . اذهب أنت إلى دراستك ، و لك أن تعود إلي كل يوم أو يومين بعد الظهر.
    - و المعهد ؟..
    - ستحصل ولا شك على إجازات خروج لمدة ساعة في كل يومين و إذا صعب عليك الأمر ، فأنا أستطيع أن أعينك عليها من أولي الأمر في معهدك. إن وجودك عنصر هام في شفاء هذا الشاب. ستكون جلسات المعالجة بحضورك. و لن نحتاج فيما أرى لأكثر من يومين. سأهيئ كل شيء قبل البدء.
    - حسنا. لا أعلم كيف أستطيع ، و بأية وسيلة أشكرك على صنيعك هذا؟..
    - دعك من هذا يا مولود ، فإنك لتعلم جيدا أنني لا أفهم بهذه اللغة.
    و انصرف مولود و قد شعر بأن الله أتاح له سببا من رحمته , فلقد داء بإنسان.. بكيان و عبر به الحدود. إنسان من لحم و دم ، إذا هو أخفق في علاجه فم الذي سيصنع به. ليس هو علبة دخان حتى يخفيها في جيبه و لا بقلم يعلقه في حاشية جيبة. إنه أنشان يحتاج إلى مأوى و غذاء و علاج . ثم إنه أنسان لا كالأناس معتل الصحة النفسية مسكين يجر معك علة قد لا تجد لها علاجا . ماذا ، إذا عرفت السلطة بأمره؟.. سيكون للأمر ذيول غير مستحبة .
    و مع أن هذه المغامرة قد شغلته عن التفكير موقتا بمغامرته النفسية في دار رفيقه مصباح ، إلا أنه عندما صحا و تذكر ، شبه نفسه بتلميذ بطرف عينه إلى الوراء ، حيث هناك طفل يلعب بسلحفاة صغيرة..
    بأنه كالمقرور دخل جوا دافئا ، فبينما كان مرفوع الأكتاف مشدود الأعصاب ، شعر بالغبطة تغمره حين شاهد مصباح متمددا على فراشه ، فانفرطت سلسلة أفكاره جميعا و أدرك أن لا سبيل إلى نظمها من جديد.
    و قال مولود لمصباح :
    - ألا تزال مستيقظا ؟..
    - كنت على وشك أن أنام ، فأيقظني دخولك.
    - ألا تود أن أقض عليك مغامرتنا اللذيذة في العطلة.
    - أرجو يا عزيزي مولود أنر ترجئ هذا إلى الغد . إن النعاس يقتلني.
    و رأي مصباح مولود يخلع ملابسه و يرتدي منامته على عجل ثم يستلقي على سريره و هو يزفر زفرة طويلة. و انفجرت الساعة الحادية عشرة ...
    كان يتقلب في فراشة طويلا قبل ان يدركه النوم. و ندم على ما فاه به . كيف تأتي له أن يفضح ما يحرص على ستره. و لكن الغبطة على ما يبدو استخفته. و مع أنه نام متأخرا ، فأنه استيقظ مبكرا عن رفاقه فمصباح ما يزال راقدا فاقترب من سريره و مرر رأس إصبعه و برفق شديد عند طاقتي أنفه ، حيث الزغب ، فارتجف مصباح قليلا و مر بيده على أنفه كم يفعل حين يشك بوجود ذبابة. و ارتد مولود ، و حين سكن مصباح ، أعاد الكرة ففتح مصباح عينيه هذه المرة و أدرك أنها كانت فعله مولود فانطلق فمه ببعض الكلمات المناسبة ، ثم انفجر ضاحكا و استمر ضحك الاثنين . و قال مولود :
    - لم يكن بد من إيقاظك و قد دق الجرس.
    و خلال خمس دقائق كان الشابات قد أتما ارتداء ملابسهما ، و خرجا من المهجع مسرعين يلتمسان السبيل إلى قاعة الطعام ، فإذا هي حافلة بطلاب المعهد ، و أخذا مكانهما والتهما طعامهما . ثم التحقا بالفصل .
    و عاوده ضيقه في قاعة الدرس ، إذ انتبه لنفسه فإذا هو جاف اللهجة مع جاره الذي وجه إليه سؤالا خافتا مسترتقا انشغال الأستاذ بالكتابة على اللوح الأسود . و تساؤل عن سبب ذلك ، و لم يدرك كنه هذا الضيق . إلا أنه بدا و كأنه عجز عن منح عقله لثلاثة موضوعات في آن واحد : الدرس و الذكريات الجميلة و الشاب الفلسطيني.
    أما الدرس ، فإنه لم يستوعبه ، فلديه الكتاب و رفاقه يقرأ فيه ، و يستوضحهم عما غمض منه عليه. و أما ذكرياته الجميلة ، فهي لم تصبح حتى الآن ملكا خالصا له ، و ما زالت عزلاء من كل ما يغلفها . و أما الشاب الفلسطيني فإنه يجب أن يشفى ، إذا شفي أمكن إعادته إلى وسطه الأول سليما معافى .. و لسوف يستطيع أن يكسه للقضية فيحمله كتبا و كراسات تطلع أهل الأرض المحتلة على ما يبذل للقضية ليظلوا على الخط صامدين.
    رحب مولود بالشطر الثاني من النهار ، فلقد حصل على إجازة غياب ساعتين ، كان ذلك توفيقا، فإن للمعهد حياة داخلية إجبارية لكل طالب صعب خرقها لأي سبب . و اهتدى إلى أن مدير معهد الأحداث حصل على وعد من الإدارة بأن تمنحه هاتين الساعتين.
    و عندما وصل إلى معهد الأحداث دخل على المدير فبادره هذا بقوله :
    - صاحبك اليوم في حال حسن ، و أقصد أن تشنجه العصي بدأ بنحل و ذلك بنتيجة مواد مهدئة رزقناها تحت جلده ، و اتسعنا على ذلك بأربعة من الحدم الأشداء جمدوا حركته لمدة حقيقة. و كان مفعول الزرقة حسنا ، فقد هدأ دوءا نسبيا. و لكن هذا لا يعني أننا سنصل إلى مكامن ص 152
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

  9. #69
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    882
    شعوره الباطني بسهولة، فما زالت أمامنا مشقة . بالأمس كان هنا أما الآن فسنذهب إليه.هلم بنا..
    عندما وصلا كان الشاب ما زال جالسا ساهما. قال المدير :
    - ست ساعات مضت عليه و هو بهذه الجلسة.
    و اصطنع المدير حديثا مع مولود ،قال له :
    - لقد نشأت أنا في نابلس و لا أزال أذكر بالفخر جبل النار.
    و لاحظ الرجلان أن الشاب أعطى سمعه لهما.. و أن عينيه تتحركان و جسمه ينتزى حركة ، يريد أن يقول شيئا . فسأله المدير:
    -من أي مدينة أنت في فلسطين ؟
    - أنا من نابلس.
    - آه ما أجمل مغاني نابلس و ما أشد نكبة أهلها؟..
    - هذا صحيح يا سيدي..
    قال الشاب هذه الجملة ثم عاد إلى وضعه السابق دون أن يدفع بالحديث إلى أبعد مدى. و عاد المدير فأخذ بيد مولود و انتحى به جانبا و أسر له ببضع كلمات.ثم عاد فاعتذر للشاب عن مقاطعته لحديثه. بينما أن الشاب لم يكن يتحدث حقيقة. و قال المدير للشاب :
    - اسمع يا بني..إنك تطوي ضلوعك على هم عميق ، و أي إنسان يستطيع أن يرى ذلك، و لست فضوليا و لاأريد أن أنقب عن أمرك ، و لكن تبدو لي و كأن النوم لا يؤاتيك فهل هذا صحيح؟..
    - - نعم يا سيدي.
    - هذا بطبيعة الحال لأنك لا تجد راحة العقل . و كثيرا ما يحدث أن تخف وطأة الهم إذا أطرحه صاحبه عن صدره .و نحن وحدنا الآن فلماذا لا تدلي إلي بشجونك؟..
    و ظل الشاب على حاله و بدا أن التوتر لم يخف،و كانت نظرته إلى المدير واشية باليأس الذي يعتمل في نفسه و لكنه أفاد:
    - حسنا سأخبرك.
    ثم زفر زفرة وقعد على كرسي آخر من الطراز الذي يطوى و ينشر و وضع قبضيته على ركبته، وصوب نظره إلى بقعة صغيرة على الأرض،و كان صوته ذو طبقة واحدة كطالب صغير يسمع الدرس لأستاذه. وقال :
    - نشأت في نابلس ، و كان لنا جيران لهم فتاة جميلة اسمها لينا كان بين أهلي و أهلها ود و بيني و بينها حب ، فلما بدأ العنف يخيم على تلك الربوع ، و كنت أنا قد أتممت دراستي الثانوية بقي علي أن أجتاز فحص نهاية الدراسة الثانوية، فانتقلت إلى مدرسة ثانية في القدس. و في يوم من الأيام ، بعد أن أدركت أنني ناجح لا محالة ، كتبت إلى أهلي أبلغهم و أطلب منهم أن يخطبوا لي لينا ، و علمت فيما بعد أن أهلي رتبو الأمر على هذا . و أخيرا عدت إلى مدينتي بعد أن كنت التحقت بوظيفة في بلدية القدس ، و قضيت خمسة أيام في إجازة. و كان الاحتفال بزواجنا بديعا، و كان الترتيب أن نأكل الخروص المحشي و نشرب اللبن الحليب بعد الاحتفال. ثم نذهب أنا ولينا وحدنا بقية الإجازة. و لكن كان عليي أن اؤدي مهمة و ذلك بأن أخابر رئيس البلدية راجيا منه تجديد إجازتي يومين آخرين لأن الأيام الخمسة قد استهلكت جميعا. و كانت تلك هي أول فرصة أتيحت لي بعد أن تم الاحتفال . و عندما عدت من مكتب البريد و الهاتف ارتددت إلى دار لينا . و لكن البيد لم يعد قائما هنالك ..
    و لاحظ مولود عندما وصل الشاب إلى هذا الحد من قصته أنه يسمع دقات ساعة يدع على رسغه ، في فترة الصمت التالية. و بلع الشاب ريقه و مضى في كلامه بنفس الصوت الرتيب النغمة :
    - لم أصدق عيني في بداية الأمر. و لم يكن ثمة سوى حفرة في الأرض. و سمعت أزيز الطائرات و هي تبتعد و كان الدخان لا يزال يتصاعد في الموقع و بعض شعلات من النار هنا و هناك ..و أدركن عندها ما تصنعه الطائرات بحجة ملاحقة رجال المقاومة .. فلقد ذهل بيت لينا و ذهبت لينا و ذهب أهلي و أهلها .. و لم يبق منهم شيء يستحق الدفن.
    عندما وصل الشاب إلى نهاية حديثه ، نازعت مولود نفسه إلى أن يطوقه بذراعه . و لكنه كان يعلم أن هذا ما لا يحسن صنعه ، فإنه خير أن لا يلمس المرء جرحا قاتلا. و تساءل في سره : ماذا كان يستطيع أن يقول؟.
    يجب قبل كل شيء أن يكون هناك ما يمكن قوله في مثل هذه البلية. و لكن أرتج عليه فلم تتحرك شفتاه بكلمة ، فظل مولود و المدير قاعدين في البهو أما الشباب تحت شوء ساطع من النور في أظلم ساعات المساء و كلاهما ينظر إلى الأرض.
    و أخيرا خرج المدير عن صمته و قال مقترحا :
    - أتحب أن ترافقني إلى بيتي؟.. يمكنك أن ترقد في غرفة ابني فإنه غائب عن الدار لأنه مجند ، و لن يزعجك أحد و سيكون ذلك من دواعي سرورنا.
    - كلا يا سيدي ، و شكرا .
    - إذا شئت فإني مستعد أن أنزع هذه الملابس فنذهب معا إلى أحد الملاهي تحيي الليل بالسهر ، فقد يسليك هذا.
    - كلا يا سيدي ، و شكرا.
    و انتحى مولود بالمدير ناحية و قال همسا و هو ينظر في ساعة يده :
    - لا أدري إذا كان يحق لي أن يدركني اليأس. فإني أرى أن مجهودنا غير مثمر . و أنا امرؤ أخشى أن أخسر ثقة مدير الكلية ، فقد اعتم
    - الرجل على مرؤتي فمنحني ساعتين من الغياب و أنا حريض على هذه الثقة فإن مشواري طويل و قد استنجد بهذه الثقة في مشروع آخر. و ها أنذا أرى طأني أكملت الوقت أكلا لما.
    - لا يحق لك أن يدركك اليأس.. فإني لأبصر انفراحا مؤكد و نحن نتقدم مافي ذلك ريب ، و إن كان تقدمنا بطيئا. امض إلى مدرستك و سنتابع جهدنا في جلسة ثالثة.
    و هكذا كان و افترق الرجلان فعاد مولود إلى فصله.
    في تلك الليلة آوى مولود إلى سريره في المهجع. كان مصباح غائبا حضر بعد دقيقتين ، و إذ تطلع فوجد مولودا متممدا على فراشه و يداه مشتبكتان تحت رأسه ، و عيناه تتفرسان في السقف. فقال مازحا و هو يخلع ملابسه :
    - أرى أن عادة السهاد قد تمكنت منك يا عزيزي مولود.. فهل تتفضل بأن تدلني على الطريقة التي اهتديت بها إلى هذه العادة؟..
    - و لكن قل لي ألست "شيطانا" الليلة ، على غير عادة حتى تظن بي الظنون.
    - و هل هو ظن سيء الاعتقاد بأنك عاشق؟..
    - بالنسبة لتلاميذ مساكين أمثالنا نعم..
    - سيت غنى ولا صيت فقر يا رجل.
    و انفجر مولود ضاحكا ، و لكنه مالبث أن لملم شفتيه ، فقد عاد إليه قلقه و كأن مصباحا لاحظ فقال :
    - أنت يا بني ....إلى آخره.
    - إبق على اعنقادك هذا بأني...."لى آخره".
    و جاء دور مصباح فانفجر ضاحكا ، ثم لم يلبث حين تمدد في سريره أن استغرق في نوم عميق. و نظر مولود إليه في سكينة ، و قال في سره :
    - يا للطفل الغيرير ، ينام ملء جفنيه : ذهن خال من كل تبعة. لو كان لي مثل هذا الذهن لكان من المرجح إما أن أعيش طويلا سعيدا أو أن يذهب عقلي..
    في اليوم الثالث استطاع مولود أن يظفر بإجازة غياب ليلة. و حين حضر إلى معهد الأحداث الجانحين كان المدير إلى جانب الشاب الفلسطيني يحاول معاجلته. و قال المدير يخاطب الشاب :
    - كيف تجد نفسك لايوم يا بني؟..
    - ...
    ظل الشاب صامتا و نظره معلق في نقطة ثابتة في الأرض لا يبرحها.. و نظر المدير إلى مولود و قد بدت آثار التعب عليه . و قال له :
    - لم أجد في حياتي شابا أصعب مراسا ولا أقوى طبعا..
    - و كيف ؟..
    - لقد رصدت له من يراقبه : إنه لم ينم حتى الآن لحظة واحدة منذ يومين. قليل من الناس من تتحمل أجسامهم هذا التعب.
    - و ماذا يجري إذا استم على ذلك..
    - يستطيع أن يستمر يومين آخرين و لكنه سينهار بعد ذلك لا محالة.. و عندها يكون علينا أن ننفض أيدينا من شفائه نهائيا. و من الآن حتى انتهاء هذه المهلة لن أقنط و سأوالي المحاولات . مزاجه العليل قفل له مفتاح بالتأكيد و يبدو أننا لم نضع يدنا على هذا المفتاح . إن ثقافة الشاب من النوع الرفيع ، حصل على معظمها بجهده الشخصي. و أنا زعيم بأن طريقنا يجب أن يمر عبر هذه الحقيقة.
    و عاد المدير فأقبل على الشاب الفلسطيني و ربت على كتفه في حنو و قال له :
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

  10. #70
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    882
    ان صوتك يا بني ينبئ عن أنك مولع بالموسيقى
    هنا رفع الشاب رأسه و قد ومضت عيناه بنور جديد ، و ظل يحدق في المدير ، ثم أجاب :
    نعم ، لقد كنت عضوا بارزا في الفرقة الموسيقية التي ألفها أستاذنا في المدرسة.
    هل تعرف العزف على البيانو..؟
    نعم..
    هلم بنا ،
    و دخل الثلاثة يتقد مهم المدير إلى قاعة جثم في إحدى زواياها بيانة ضخم بلون بني و جلس أمامه و بدأ يعزف لحنا لبيتهوفن :
    رب لم أشقيتني وحدي و لم أشق أحدا غيري من عبادك .. و قال المدير لمولود هامسا : لقد وصلنا. ثم التفت إلى الشاب و قال له :
    كن معي وردد..
    و تصاعد صوت الشاب شجيا رائعا ، فما كان أعذا هذين : صوت المدير المضطرب المتعثر من الكبر و صوت الفتى الثابت و قد ارتفعا معا في انسجام يرددان نغمات الموصيقي العظيم.
    و قوي صوت الشاب و ازداد عمقا ، و اكتسب قوة جديدة و إجساسا لم يكن للعبارة عنه من سبيل إلا بالموسيقى . و اتسعت عيناه ، ثم ضاقت فتحتهما كمن يفعل من يحلم . و بدا كأنه يرى من خلال الجدران المدهونة للقاعة ، و يجتلي فيما وراء الزمان و المكان مدرج الغناء و الموسيقى في المدينة التي تعلم فيها.
    و انتهى النشيد ، فالتفت الشاب إلى المدير و سأله : هل تعرف يمفونية شوبرت غير الكاملة.. إني أعزف نشيدها المرافق للموسيقى.
    نعم بالتأكيد ، كن معي مرة ثانية..
    و مرت ساعتين و الثلاثة في غفلة من مرها ينتقلون من نشيد حزين إلى آخر حزين حتى إذا رغب الشاب في بعض الألحان الكنيسة أخلى المدير المقعد له لأنه لا يعرف من هذه الألحان شيئا و قد استبان أن الشاب كان مسيحيا. و اخيرا بدأ الليلل يتحسس طريقه في الشارع بأصابع من أبنوص فنظر المدير إلى الشاب فألفى عينيه تومضان ، فخاطبه قائلا :
    تظن أنك تستطيع الرقاد الآن ؟..
    نعم يا سيدي ، و شكرا..
    و ودع مولود المدير شاكرا و قد انتشى بعد هذا الانتصار ..و هو علىيقين بأن الشاب سيغط عما قليل في سبات عميق.
    كان الطريق الذي سلكه مولود، موليا وجهه نحو معهده ،يعرج على سوق تميزت بحوانيت مبيع " النوفوتيه". و رغم أنه كان ما زال مأخوذا بالنتيجة التي آل إليها مسعاخ في سبيل إعادة تأهيل الشاب الفلسطيني ، إلا أن زجاج هذه الحوانيت في استوقفه مرات عديدة .. و طفق ينظر المعروضات خلال الزجاج و يطيل النظر.
    الحقيقة أن مولود لم يكن يرى شيئا مما أتقن أصحاب المحلات عرضه و إن كان ينظر و ينقل البصر. و هو مفتون بما حققه و ما زاد ثقته بنفسه أضعافا مضاعفة. الآن يصح له أن يلهو ، أن ينظر إلى محتويات الشارع ، فهو قد أعظى عطاء محمود الأثر . و مدير الأحداث ، هذا الرجل النبيل، ذو الشيبة الكريمة المحترمة ، هل هناك من يدانيه طيبا و نبلا ؟.. من المؤكد أنه ضحى بمركزه أو عرض هذا المركز لمضاعفات في سبيل إرضائي..
    و استوقفته الفكرة الأخيرة طويلا ، فتساءل : هل هذا الحرص على إرضائي جزء من العلاج الذي مارسه علي المدير حين كنت جانحا؟.. ولماذا يفعل ؟ أنا الآن ناقه مافي ذلك ريب.
    لماا تبدي أنت من كل شيء جانبه المتشائم؟.. لم تعد متشائما فما يليق بك أن تذهب بتكفيرك ها الذهاب .كثير من الأسباب تنتقص بحق من هذا النظر إلى الأمور. فالرجل لم يبد من أثناء اعوجاجك ما سيؤك حتى يقصج الآن الإساءة إليك ، و قد غدوت امرءا سويا..لقد بان ، بما لا يدع مجالا للريب ، أن هذا المدير أخذك كصديق ، أو ما تراه يتباسط في حديثه معك أنسب الحلول لعلاج ذلك الشاب الفلسطيني..؟
    و راقت لمولود الفكرة الأخيرة ، و انبلج بين أعطافه صيح أشهب.. أنا الآن رجل له كيانه و قيمته . أصدقائي طلاب المعهد الصناعي العالي ، و صديقي مدير معهد الأحداث . فلأنعم بهذه البحبوحة .. بنتظرني مستقبل مشرق يجب أن أسعى إليه.
    بالتأكيد لم ير مولود من هذه المعروضات شيئا ، أضواء و ألوان فحسب. لا تعنيه هذه المعروضات أصلا ، إنها للمتزوجين و النساء ، ليس له فيها سوى صابون الحلاقة و كريم الأسنان . و هو الآن ليس بحاجة إلى أي قد منها . و نظر في ساعة معصمه : لا يزال أمامه متسع من الوقت ، لماذا يهدره ؟.. لن يؤوب إلى المدرسة قبل استنفاد آخر ثانية من الوقت .. هي حقه الذي لا مراء فيه. كانت الأيام أواخر أيام رمضان ، الباعة و المحلات تسهر حتى منبلج الفجر لتصريف البضائع . و على كل حال فالوقت الآن أصبح في أولى ساعات الصباح.
    و فجأة نقرت من أحد المحلات ظبية رعبوبة ساجية الظرف. أفي هذه الساعة المكبرة؟ ..آه؟..الم تعرفها؟.. لقد أعشى النور و الألوان ناظريك ..إنها فائزة. وقف و إياها وجها لوجه . و طال الوقوف.. هو موقف صياد و غزال. تسمر في مكانه لا يتحرك، استقطبت في كل تفكيره فجأة. و ليس له هو أن يتحرك و إلا أصبح تفسير حركته الفرار ، و هو لا يريدأن يهرب/ أما هي ، فتحيرت، تعرفه ، جلس إليها مجلسا ما ، إذا نفرتو ذهبت على مجهها فلسوف يمتعض ، إنه صديق أخيها مصباح.
    و ابتسمت فابتسم.. جاء دوره :
    صباح الخير يا آنسة.
    أهذا أنت أيضا؟..
    لماذا أيضا هذه ؟..لعلها ظنت أني أتبعها ..يعلم الله والثقلان أنها لم تكن في بالي. فأجابها بسؤال سريع :
    أتكون مفاجأة غير سارة .
    فترددت لحظة قبل أن تقول :
    لم أقل ذلك .. أعني لم أقصد إلى هذا القول ، و إنما..
    و تعلق نظره بشفتيها ، ينتظرها أن تتما ما بدأتا به..و لكن هذا لم يتم ، و احمر وجهها ، إنها محرجة غاية الإحراج.. ما أحيلى الغادة المحرجة. يتلخص في وجهها المتورد و عينيها المستنفرتين حرصها على أن لا تغصبه ، و أن تبقى مرغوبة منه ، هي و ترددها و رفضها و قبولها و انتظارها و خجلها دفعة واحدة..
    و شعر بدوره بأنه قد أرتج عليه ، فهو يتجه بكل كيانه لإخراجها من الدائرة التي حوصرت فيها ، إلا أن ذهنه خانه في تلك اللحظة ، ماذا يقول ؟.. و ما الذي يناسب الموقف ؟.. هل يعرض عليها خدماته؟. إذن تكون خاتمة الحديث الذي لم يكد يبدأ بينهما بعد.. و فجأة ، وجد نفسه بنطق بهذه الكلمات ..يبجة أن السوق منتعش اليوم
    و ازدهرت عيناها ، فقد شعرت بأنها خرجت من حصارخا ، فردت قائلة :
    فعلا ، فها هو العيد قد اقترب..
    جعل الله كل أيامك أعيادا
    و القائل أيضا
    و شعر مولود بأن عينيه تدوران حولها كما تنجذب قطعة معدنية صغيرة لمغناطيس كبير.. و نظراته متمركزة على ما تتأبطه و هو علبة حسنة التغليق. و صاحت :
    آه .. هذه العلبة فيها ، فيما عدا شيء لي ، بعض الأشياء لمصباح إنه مهمل ، فلقد اكتشف أمس صبحا أن معجون أسنانه قد نفد و أنا أعرف الماركة التي يفضلها . فتداركت له واحدة ، كما راقت لي آلة حلاقة حديثة ، أريد أن أفاجئه بها في العيد ، لأنه من بعد انتسابه إلى المعهد العالي صار عليه أن يتخلى عن الحلاق..
    يجب أن يكون ذا حظ ألبج حتى أرسل الله له أختا مثلك..
    لا أدري .. و لكن يجب أن يتكل علي و يهمل نفسه.
    يا آنسة ، يجب أن تعذريه، فإنه لا يكاد يجد متسعا من وقتهليهتم بنفسه. لا تنسي أن ما قتله عنه أنت يمسني أنا أيضا .. كلنا بالهوى سوا ..
    فارتفع حاجباها و غضت طرفها خجلا ، و جاءت الكلمة الأخيرة تفتح جوا بهيجا ينخفض فيه مستوى أكثر فأكثر ، و ابتسم بدوره بمعدل مناسب و أكثر بقليل .. و سمعها تقول :
    عفوا ، ما قصدت أن أمسك بشيء ، إنما أردت أن أبين أنكم أنتم..
    و أعجب بنفسه ، فلقد اكتشف أن لديه قدرا من الروح الاحجتماعية يكفي ليجول في المجالس و رأسه في وضع طبيعي لا خجل منكس و لا مرفوع بغرور ، و كأنه لمس أن هذه الروح ما يروق للنساء ، فانتشى و أرادها أن ترقى بنظراتها إلى مستوى ضحكة أو مشروع على اٌل . فقاطعها قائلا :
    قوليها و لا تخجلي : " أنتم معشر الشباب الله يعيننا عليكم"..
    و استضحكت ضحكة بريئة و لكن بقدر يسير ، و أدرك هو أن في هذا الكفاية اليوم . فإن التعارف بينهما حديث و لا يسوغ له أن يوغل في اسثتمار استجابة فتاة خجولة بشكل يؤذيها ، إذا تحلقت حولها عيون تعرفها ، و أن قد حان الوقت ليقول :
    هل من خدمة أؤديها لك يا آنسة؟.. و هل تتعبك هذه العلبة؟..
    أشكرك شكرا جزيلا ، فليس لدي بعد أي مشروع ، و أنا متجهة إلى الدار.
    و وقف لا يتكلم ، ينظر إليها لعله يجد في عينيها ما يشجعه على أن يعرض عليها مرافقته لها إلى الدار ، و لكنه لاح أن الحذر يطل من عينيها حين لمحها تدير ناظريها يمينا و يسارا ، فأدرك أن وقفتها الحرة هذه بدأ يشوبها الارتباك ، و أسرع حين استأذنت و صافحها و انصرف.
    عندما أصبح مولود منفردا خيل له أن قد سمعها تتكلم بصوت ضعيف قائلة : خلينا نشوفك.. إلا أنه عاد فقال في سره : و لماذا هذا الغرور؟ ..الفتاة لم تنفرج شفتاها عن كلم من هذا النوع عندما صافحتك و ربما كانت عيناها قد تلفظت بذلك.
    و نظر إلى معصمه فإذا الساعة تشير إلى أن الزمن مر بسرعة هائلة .. و هو الذي كان يعتقد بأن لديه الوقت ليضيعه في استطلاع زجاج المحلات. فخطى خطوات واسعة و سريعة يريد إدراك المدرسة ، فإن زملاءه الآن في قاعة المطالعة. كان صباحا رطبا و الشمس تغمر الدنيا بحنان ذهبي سائل و قد سرى نسيم بليل رفت له أغصان الأشجار في الشارع رفة جفن يتذوق السعادة و الرضى.
    و عندما لحق برفاقه هناك في القاعة ، اندس بجانب مصباح ، فقال له هذا هامسا :
    اتصلت بك عدوى الغياب عن المعهد مني.
    فأجابه مولود من روح مزاحه هامسا ، و كأنه يتلذذ بشعور انتصارا ما :
    يا له من عدوى لذيذة..
    أخفى مصباح رأسه بين دفتي كنابه و هو يضحك ضحكات صامتات أما مولود فقد أكب على كتابه و هو يشعر بأنه ينبغي له أن يتفوق ليستحق ها الوجود الذي يحياه . و عاد يلتهم الكتاب التهاما ، و يبدو أن مصباحا أراد أن يداعبه فنظر إليه و لكن مولود عبس و عيناه مستمرتان بالكتاب . و اكتفى مصباح بهذا و انصرف هو الآخر إلى كتابه . ثم دخلا الفصل.
    و عندما التقيا في المهجع صفر مصباح صفرة قوية بفمه و هو يخلع ملابسه ليدخل في منامته ، ثم قال :
    أنت لك عقدة حواجب يا لطيف . قطعتني هذه العقدة نصفين.
    و ضحك مولود ، فما كان يسعه إلا أن يضحك . و أجاب مستهزء :
    إي نعم . أنت ما شاء الله من النوع الرقيق الذي يؤثر فيه حاجبان عاقدان.
    و أنت شو بعرفك. طيب والله العظيم لو كنت تراني و أنا بين يدى المزين و بيده موسى الحلاقة يحلق لحيتي؟..
    في هذا المجال أنا أصدقك تمام ، فإنك ما أن يصل الموسى إلى ما تحت ذقنك .. إلى "الجوزة" حتى تتجمد كالتمثال أمامه و تستسلم فضحك مصباح و قال :
    و ماذا تريديني عندئذ أن أفعل؟..حبيبي ، ها موسى ما معه لعب..خصوصا إذا وصل إلى "جوزة الحلق"..
    و حين انصرف كل واحد إلى سريره تمدد. أم مصباح فقد غط في نوم عميق من اللحظ الأولى و أما مولود فقد بقي مفتوح العينين ، يداه متشابكتان وراء رأسه. و قال في سره :
    هل حان الوقت لأطلع مصباحا على مشروعاتي. و هل ترجى منه المساععدة فيها؟..
    و جاء جوابه سريعا :
    و لكن هناك سؤال يسبق ها السؤال : هل مصباح من النوع الذي يؤتمن على مثل هه المشروعات ؟.. نعم إنه في غاية الظرف :
    شاب وسيم أنيق يسيطر بسهولة على الصالة و لا تمل صحبته ، و هو إلى ذلك مخلص لأصدقائه و يحبهم و نفسه خالية من التعقيد ، و لكن ها كله شيء و المشروعات شيء آخر. هنا يكمن خطأؤنا نحن في ها الشرق ..
    هل أنت جاد حين تقول إن مصباح لا يؤتمن على مثل هذه المشروعات ؟.. و أنت تعلم علم اليقين أنه بما يتميز به من حب التضحية لرفاقه أجدر الناس بأن يسلم مهمة؟.. لماذا تمهد الأرض وراءك لتمحو خطواتك ..قل انك تخاف على مصباح و كفى هذا هي الحقيقة..قلها بصراحة ، إذا كنت لا تريد أن تعترف بالمحرك الكامن وراء هذا الخوف ، لماذا توارب و تدور ثم تدور لتصل إلى النقطة التي كان يمكن أن تصل إليها بدون هذا اللف و الدوران ؟..
    عندما وصل مولود إلى ها الحد من تفكيره كان قد ولج الباب الواسع لتداعي الأفكار. ماذا ؟.. فائزة..كيف تسنى له أن يراها في غير دار أخيها..أليس هذا كسبا؟.. و لكنه لم يستغل هذا الكسب كما يجب..
    كيف أستطيع أن أستغله على هاي ، ألا يخشى أن أخسرها إذا تماديت أكثر من ذلك ؟.. الدنيا فيها أناة و فيها صبر. ثم إن فائزة ليست من الأوانس الطائشات..و..و مصباح؟..إنه صديق .. لقد فتح الوم لي صدورهم و كنت أنا حسن التصرف .. فائزة حقا فتاة بديعة و هي ناعمة بما فيه الكفاية.
    و ظل يتناغم مع تصوراته و أحلامه المورد حتى غلبه النعاس فنام..
    و في اليوم التالي عاوده التفكير بمعهد الأحداث ، و تشوق إلى الحديث عنه مع رفاقه.. هكذا بدون سبب، كان يكره أن يتحدث واحد منهم عن معهد الأحداث ، فإذا جهلوا وجود مثل هذا المعهد كان ذلك خير. و عندما سمح له القائم على البرنامج بساعة الغياب ،أدرك أن توصيته مدير معهد الأحداث ما زالت تعطي ثمارها. و لقد سره كثيرا أن أي واحد من القائمين على الكلية التي ينتسب إليها لم يفاتحه بأي موضوع يتصل من قريب أو من بعيد بمعهد الأحداث و قال لنفسه :
    يا الله ..ما أشد ذكاء هذا المدير ، لا بد أن حرص أن لا يذكر شيئا من الماضي.
    و تذكر عند ذلك قول المدير :
    إن إحدى الدعامات التي يقوم عليها كيان هذا المعهد، هو كتمان كل شيء عن نزلائه ، حتى من بعد أن يكونوا قد تخرجوا .. هنا يموت سرهم . إذن كيق برر المدير وساطته هذه ؟ لقد انتحل وجود قرابة بينه و بيني.
    عندما وصل إلى المعهد اتجه مباشرة إلى غرفة المدير ، كانت الغرفة تفضي إلى غرفة داخلية، حرص المدير منذ القدير على أن ينصب فيها خزائن "الأرشيف" الخاص بالمعهد. فوجد غرفة المدير حاوية ، و التفت فوجد الشاب الفلسطيني في غرفة الأرشيف ، و هو منهمك في ترتيب مقدار عظيم من البطاقات في مواضعها من الخزائن . و لاحظ أن الشاب لم يلتفت لدخوله ، لهذا عاد من حيث أتى بسرعة ، ثم خرج من الغرفة و جعل يتمشى في الردهة ذهابا و إيابا ، و إذا بالميرد مقبل من ناحية الباحة العمومية..و منذ شاهد مولودا رفع يده كأنما يريد عناقه و ابتسم له فلما وصل ليه صافحه مولود بحرارة. و قال المدير و ملء أعطافه اليحوية التي لا تفارقه :
    كنت في غرفتي؟
    نعم ، و شاهدته.
    فابتسم المدير ابتسامة ظافرة..و أضاف :
    جاء الدهان فطلى جدران الغرفة بالدهان ، و الجأ الآذنين إلى إزاحة الأرشيف من أمكنتها فوقعت محتوياتها في فوضى ، فعهدت إلى عاصي بإعادة ترتيبها ..لن يخيب أملك إذا ما أدخلته في مشروعاتك .. سيكون أقوى عنصر من عناصرها .
    و قال مولود فرحا :
    صحيح؟..
    و نظر المدير نظرة طويلة إلى مولود ثم قال :
    هذه هي النتيجة الرائعة لجهدك يا مولود.
    هي جهودك يا سيدي المدير ، لو لم ألجأ إليك كيف كانت تكون حال هذا الشاب.
    سأستخدمه عندي في أعمال كثيرة .. لقد هيأت له برنامجا حافلا :
    هذا يؤخر عودته إلى الأرض المحتلة .
    ما آن الأوان بعد لعودته . إن تأهيله لم يتم بعد ، و لا بد إن عاد الآن أن يعرج على مكان دار أهله و أهل خطيبته و عندها يعود سيرته الأولى و نخسر كل الجهود التي بذلناها. يجب أن يبقى هنا مدة أطول و كلما كان برنامج العمل الذي نكله إليه مكثفا ضمن المعقول طبعا كان ذلك أحسن.
    حاولت أن لا يراني ، اعتقدت أن ذلك سيساعده أكثر.
    بالعكس تمام ، تعال نطلب ثلاثة كؤوس من الشراب ، يجب أن تزورنا من وقت لآخر ، و يجب أن يراك و أن تتحدث معه أطول مدة ممكنة.
    و دخل مولود الغرفة مع المدير ، و سمع الشاب صوتهما فجاء يحييهما .. وقال لم مولود و هو يجلس :
    ماذا تعمل الآن ؟
    أنظم أرشيف هذه الدار..إنه عمل دقيق للغاية.
    هل سبق لك أن مارست هذا العمل؟..
    و ، و لكنني أشعر بأني قادر على إنجازه.
    و قال المدير ، مخاطبا مولود ، و هو ينظر إلى عاصي :
    اقترحت على عاصي برنامج عمل شغل وقته ، و ربما فاض عن وقته هنا في المعهد و اضطر إلى حمل الفائض معه إلى داري حيث يرافقني كل يوم. نحن كما تعلم بحاجة منذ زمن لمن ينجز لنا هذا البرنامج ، و قد عرضنا في السابق تعويضا مغريا لمن يتقدك .. و الآن أرى أن هذا البرنامج أصبح من نصيب عاصي .. لقد وقعنا على خير عنصر يمكنه أن يسعفنا..أعتقد أن الهدوء متوفر هناك في غرفة ابني في الدار..أليس الأمر كذلك يا عاصي؟..
    و أجاب عاصي باسما مغتبطا :
    بالتأكيد سيادة المدير.
    أنت الآن في غجاز من عملك في بلدية القدس ، فهمل يمكنك البقاء هنا بلا حركة حتى لا ..
    و فتح عاصي فمه يتكلم ، فسبقه المدير و قال :
    على فكرة ، أنا آيب الآن من عند أحد إخواني الأطباء الجسمانيين..حصلت لك يا عاصي على تقيرير طبي ، سترسله إلى رئيس البلدية لمنحك إجازة صحية.و بهذا نكون قد سوينا كل المشكلات التي تعترضنا.ما رأيك؟..
    و قال عاصي :
    سترسله هكذا من هنا إلى الأرض المحتلة؟..
    و تصدى مولود ، فاستبق الإثنين و قال :
    بالطبع لا ..بل سنرسله من الأرض المحتلة إلى القدس. أتعتقد أننا نعدم الوسيلة؟..
    و قال المدير :
    فكرة مدهشة لم تخطر على بالي . من ذا الذي تتذلل له الصعاب ليقضي فترة إجازة و استجمام ، ثم يرفض؟..
    و بدا عاضي كمن خوثر فلا يدري كيف يتخلص. كا بدا عليه أنه غير راض تاما عن بقائه. و لكنه سكت سكوتا مشوبا بالقلق.. و جاءت كؤوس الشاي ، فقد وجب أن يصاحبها حديث من نوع جديد. و تحدث الثلاثة عن الخريق الذي جاء مبكرا هذا العام.
    و حين بدا لمولود أن كل شيء يجري على ما يرام ودع و خرج.
    و كالطيار الذي النتهى من مهمته في الجو ، لم يعد له سوى أن يحط في قاعدته حيث يجد الأمن و الراحة و الذة ، سارت قدماه بشكل عفوي في الطريق نفسه الذي سارت فيه بالأمس. ثم تمشى قليل أمام المحلات ذاتها و نظرت عيناه الزجاج نفسه و حملقت بالبضائع ذاتها ثم وقفت في المكان ذاته الذب كان وقف فيه و انتظر..
    ما أشبه اليوم بالأمس لولا فارق واحد و هو أن فائزة لم تظهر..
    -5-
    كيف وددت السهر عندنا في ذلك اليوم يا مولود؟..
    أها سؤال يسأل يا مصباح ، و هل يمكن للمرء إلا أن يكون مغتبطا في داركم؟..
    وود لو لم يتلفظ بالكلمتين الأخيرتين..خاف أن يكون قد باح بمكنونات صدره..فعض على صفته.. و لكن ارتاح حين جاء رد مصباح :
    إذن تعال الليلة لا سيما و أن غذا يوم عطلة ، فاسهر عندنا صدقني أننا نسر بودوك.
    أأنت واثق تمام الثقة أن ليس لكم خصوصيات يمكن أن يعتبر وجودي هجوما عليها ..كل امرئ له خصوصيات أثيرة لديه.
    لو كان لما دعوتك ، كن واثقا .. أنا صريح ، لقد آن لك أن تعرفني.
    حسنا ، و في أية ساعة تريدني أن أحضر؟..
    الدار مفتوحة لك في أي وقت .. و سأكون أنا بانتظارك ليس لي شأن لأخرج له .. أنا في الدار على طول .. تى، و لو لم أكن ، فإن أخي موجود.
    حسنا سأحاول جهدي للحضور حوالي الساعة التاسعة مساء.
    أهلا و مرحبا.
    صار ما فكر فيه حقيقة..و لم يكن بين رفاق مولود من هو منفتح البيت على العلاقات الاجتماعية سوى مصباح. لهذا لم يلتق دعوة لسمر إلا منه. و في هذا المردة كان في شوق إلى دعوة من هذا النوع . كان بنتظرها بصبر و تكتم. الواقع أن أحب هذا المجلس ، إنه يرتاح إلى وجوده فيه ، فهو لم يشعر بكلفة ، كان بتصرف على سجيته و قد جعله ودوده أما أناس ذوي مزاج طبيعي نجم الملس بهذا التحرك المستملح . لقد حرص دائما على أن لا يستهدف أحدا منهم بمزاحه حتى و لوو أثاره لئلا يعتبر ذلك تعريضا به ، كما حرص على طرح المزاج كلما فترت حرارة المجلس ، و بذلك فإنه ضمن أن تتجه النظار كلها إليه في شغف.
    بدأ مولود مشروعه في الساعة الثامنة ، فقد أطل على محل المزين الذي غسل له رأسه و قص شعره و طيبه ثم مر على صالون مسح الأحذية فصبغ حذاؤه .. و أدرك أن ياقته لا تصلح لمثل هذا المجلس فأسرع في وقت حرج..نعم إنه لوقت حرج ، لماذا لم يذكر ذلك من قبل؟ إن بائعي "النوفوته" يغلقون محلاتهم في مثل هذه الساعة . طاف بسرعة حتى وجد بائعا يعرض ياقات مستحسنة فابتاع واحد و لم ينتظر و اصطنع السبب على الففور ، قال له : ليس لدي الوقت الكافي لنزعها ، خلها..فغلف له البائع الياقية القديمة.فدسها في جيبه.
    قال في سره : إن النساء يبحثن في الرجل أول ما يبحثن عن الياق و الحذاء..فإذا جاز الامتحان فيهما فاز فوزا عظيما.
    بالطبع ، ليس هذا القول قولك في الأصل هو قول مصباح ذاته أول ما تعرفته في الكلية حين كان الجميع في المقصف يشربون. قالها لرفيق قديم له و سمعتها أنت..لقد رسخت هذه الكلم في ذهنك منذ تلك الساعة..
    و طرب مولود لهذه الفكرة و حمد ذاكرته التي احتفظت بهذا القول الحكيم لحين الحاجة..
    الآن يسير راضيا عن نفسه إلى غايته..
    لقد رأيت ، ولا تزال ، أنك ستبقى الجليس المفضل لهم ، أو ما رأيت جيويتك التي بهرتهم و أن عيونهم متطلعة إليك؟.. إحرص على أن تكون أبدا يقظان لمأتى الخواطر الجيدة التي تطري المجلس. فإذا أبصرت بأحدها يحوم على منافذ صدرك ، فافتح له أبوابها و أكرمه. إن كثيرا من الناس تنزع بهم مواهبهم إلى التأمل فحسب و التفلسف أكثر مما تنزع بهم إلى إطاعة أول حافز ، إذ من المجرب أن أول حافزهو أجود الحوافز ، و هذا ينأى بهم عن حسن الترتيب و ضبط إيقاع الكلام و المزاج.. و لهذا يخفقون.
    و أقنعه هذا المنطق و سره و تطلع إلى فائزة.
    كانت فائزة في تلك الليلة ، و هي رزقاء العينين ساجي الطرف ، كأنها ملكة في سمتها و شمائلها ، و بانت شديدة الاعتزاز بهذه الشمائل بغير أن تكون ملدة بها . ظهر من تلفتها الذكي . و كانت فيها تلك المسحة الخالدة التي يخيل لرائيها أنها مسحة لا تبليها الأيام و التي يمتاز بها جمال فاتنات الغيد.
    أما هو ، فكان مرهف الإحساس أكثر من أي وقت مضى ، فياض الصبابة ، معتزا بأناقته . ولاحظ أن المرأة التي إلى جانبها امرأة رابية الثديين ثقيلة الأرداف. و هذه عناصر من الجمال الذي كان مستهدفا في الزمن القديم ، كان صقال وجهها مقدار زائد عن الحد المقبول من مواد التطرية . أما زوجها فكان على النقيض من ذلك تماما : ضامرا صغير الجسم لا يبدو فيه شيء مبالغ فيه غير شاربيه.
    و تقارب الجميع يتطلعون إلى لوحة زيتية كان ابتاعها مصباح من أحد المعارض و هي تمثل رجالا رافعي الرؤوس فارعي الطول ، أقوياء العضلات ينصبون جسرا حديديا ضخما في شروط جوي سيئة ن و وقف أحدهم يواجه هذه الشروط و قت اتسعت فتحة فمه دلالة على التحدي و الجلد ، و الصمود..
    و سأل مولود :
    أين وجدت هذه اللوحة يا مصباح ؟..
    و أجاب مصباح ببساطة :
    في معرض أذربيجان السوفياتية. أنت تعلم أن هذه الجمهورية تقيم معرضا الآن في جناح المعارض في المتحف. و لقد أعجبت بإنتاج فناني هذا المعرض أيما إعجاب. لا تظنن أنني استطعت الحصول عليها بسهولة ، فلقد بذلت جهدي مع صانعها ، و هو وحده مرافق المعرض ، حتى اشتريتها منه و بثمن مرتفع : ما يعادل ثلاثمئة ليرة سورية . و اسمها له معنى خاص. إن معناها " اقتراب العاصفة".
    و من هو الفنان الذي صنعها؟
    إنه لطيف فيولاييف.
    آه ..لقد تذكرت ، لإنني شاهدت هذا المعرض فهو قد أقيم قبل شهرين تقريبا.
    هذا صحيح..
    معك حق ، فإن هذا المعرض من أجود المعارض التي شاهدتها
    إذن فأنت مثلي من مدمني مشاهدة المعارض.
    و ماذا في ذلك؟.. لماذا يجب الانتقاص من شأن هواية رفيعة الشأن مثل هذه؟..
    و بينما كان الحديث يسير بهذا الاتجاه جخل ضيف إلى القاعة و لم يكن قد انتبه إليه أحد و سمع يقول :
    الـ سـ سـ سـ لا م م م م.... عليـ..عليـ ..كم..
    و اشرأب مولود برأسه إلى هذا الوافد بعد أن سمع ما سمع ، بينما بدا الآخرون بوضع طبيعي جدا ، حتى المرأة ذات الأرداف الثقيلة لم ترفع بصرها عن اللوحة ، و رد الجميع السلام..و ظلت تشير بإصبعها إلى بعض الأشخاص الموجودين في اللوحة ، و تتكلم عنها مع فائزة..و صافح الرجل الجميع و قال مصباح مخاطبا مولود :
    أعرفك على صادق ابن خالتي ، و هو ابن شديد آغا صاحب شركة الـ..المعروفة ، و قال مولود :
    فرصة سعيدة.
    ثم قال مصباح مخاطبا صاجق :
    أعرفم بمولود رفيق الدراسة و نعم الصديق.
    و قال صادق :
    تشـ شـ شـ ـرففنا
    و نظر صادق إلى اللوحة و قال :
    يا مصصباح .. الا تز تزال عـ عـ عـلى هوايتك .. المفضـ المفضلة؟.. تذ تذ تذهب بدر ر راهمك كل مذاهب؟..
    و تدخلت فائزة تقول :
    لماذا تعتقد بذلك؟.. إنه بالعكس يجمع ثروة هي لوحات لها قيمتها..
    أم م م م..ما أنا فلا أجـ..جد لزوما للـ للـ للوحات از..ازيتية و أفضل عليها لو لو لوحات فوتوغرافي..ما الفارق؟..
    و أدرك مولود أن لهذا الفتى الفأفاء التمتام الملوي اللسان منزلة ما في هذا البيت ، و عجب لنفسه كيف اتصل عقله هو مع لسانة هذا الاتصال الرسيع إذ أن لم يبد عليه سوى إمارات الجد و هو يستمع إليه ، و لم تبدر منه بادرة هزء. كان يستمع استماعا متعبا مثيرا للأعصاب، كأنه ذو نطق سوي . و زاد ذلك فوجه إليه بعض الأسئلة التي يوجهها لأي واحد من الموجودين .لقد كان يضغط على مزاجه ضغطا متواصلا ، و لاحظ عند ذلك ، أن فائزة أخذت توجه إليه نظرات الارتياح و الإعجاب..
    و غادرت فائزة القاعة و أغلقت وراءها الباب بهدوء ، و خيل إليه بأن المكان أصبح عندئذ فضفاضا..فقد نقص منه وجود هام..
    و عاد يسأل كيف تأتي له أن يحتمل .. و هو الذي يصير ضجره سؤال غير ذي جدوى يطلع به عليه أحد زملائه.لقد مال لحظة إلى اتهام نفسه بأنه يمالئ..ثم عاد فبرر سلوكه تبريرا أعجب به..قال لنفسه، إن آداب المجتمع تقضي بذلك..و ماذا فيه؟.. إنه لا يخسر من ذات نفسه مثقالا.
    و غياب فائزة هذا الغياب المفاجئ؟..أنت معجب بها ، هذا ظاهر على سلوكك و قد تحبها يوما فما في ذلك عجب.
    أنا لا يعنيني أن تكون ثرية أو أن تكون عالية الكعب في المجتمع ، إنها إنسانة..هذه لقاآت ثلاث معها تكفي للحكم عليها.
    طال غياب فائزة و أوحى له غيابها بأنه ربما كانت العائلة قد عرض لها شغل شاغل ، فما ينبغي له أن يطيل زيارته أكثر من هذا ، و لو أن مصباح بقي على وتيرة واحدة ، في حديثه معه ، منذ دخوله حتى الآن. لا بل لقد حميت حرارة الحديث و البسمات حتى ليخال أنهما أخوان .. و لكن ..
    و تأدى إلى سمع مولود صوت كأنه صادر من العماق، عرف أنه صوت زوج السيدة الذي أقحم نفسه في الحديث المتبادل شجبا جارحا لذوي النشاط الذي سماه متطرفا .. و وجد مولود نفسه مهيأ تماما للانقضاض على هذا الشجب لو أنه طمح إلى كشف هويته. إلا أن زوج السيدة ظل محجوبا عن مولود وراء لفظة المتطرفين المجردة.
    ولاحظ مولود ان جميع الموجودين كانوا يشايعون الرجل في ما رمى إليه واحد يهز رأسه و الصاني بابستامة و آخر.. إلا أن الأمر وقف عند هذا الحد فلم تسعفهم الفرصة في الوقوف وراء ها اللحن لأن جرسه لم يبلغ من الحدة مبلغا يتنادى الجميع للوقوف في صف واحد وراء الكورس..
    و تساءل : أي مجلس هذا الذي يجلس فيه هؤلاء القوم؟ وأحس بالضياع . و ألفى جلسته هذا قد اقتصرت على ابتسامة مرسومة بقلم و ضحكة تنطلق من الحنجرة فحسب..و أن أي لوحة في القاعة تحركت فيها الصورة لتغادر إطارها بحيث أن اللوحة أصبحت هي الإطار وحده.أما الرجل الفأفاء التمتام فلا حاجة للحكم له أو عليه، فإنه خارج المحاكمات جميعا.. لقد اختار و انتهى، فالحياة كلها عنده تنحصر في حكمة جمع فيها كل منطقه حين قال : إن اللوحات الزيتية لا قيمة لها و لا حاجة إليها ، مادام لا معنى لها أمام الصور الفوتوغرافية . أليس ها نموذجا للتفكير السائد عند أمثال هؤلاء القوم؟..
    في تلك الأثناء عادت فائزة فدخلت القاعة.
    و قال مصباح يخاطب الجميع :
    لو رأيتم مولودا اليوم و قد استنجدت به إدارة الكلية عندما جاء المزارعون المحيطون بالمبنى بعد انتهاء الغارة العدوة على قرية هناك.
    و سألته فائزة التي دخلت في تلك الأصناء :
    ما هو الموضوع؟.. خبرنا يا مصباح.
    ورد مصباح :
    ذلك أن هؤلاء المزارعون جاؤوا و قد ملئت قلوبهم رعبا من قنبلة ألقيت من طائرة و لم تنفجر. كان المزارعون يعتقدون بأنه لا بد أن يكون من اختصاص الكلية و هي مخصصة للتعليم الصانعي إبطال مفعول القنابل. لقج كان الجميع يرون أن الحرص على الاتصال بالمختصين ينذر إذا ما طال الزمن بانفجار هذه القنبلة. و ذهب مولود بحماسه إلى الموقع ، حيث وفق إلى إبطال مفعول القنبلة.
    و تصدى الرجال الضامر و كان كأنه يتكلم من بئر عميق.
    و هل هناك إرغام على مثل هذا العمل ؟
    و ضحك مولود ، و نظر الجميع إليه و هو يضحك . و قال المرأة البدينة :
    يا لطيف ..كيف تقدم على عمل من هذا النوع؟..إذا انفجرت ، يا لطيف..
    و قال مولود و هو ما زال يضحك :
    أسمع يا مصباح ..قد يجئ فيطرق بابك في مساء يو مما "إصبع صغير" أو " أذن" ليسمر عندك، فكن كريما معه ، لإنه سيكون الشيء الوحيد الذي سيبقى من مولود.
    و زعقت المرأة البدية و خبأت وجععا بيديها..
    و حانت التفاتة من مولود إلى فائزة ، فوجدها شاحبة اللون تنظر إليه و قد تملكها القل. و لكن نظراتها لم تكن تخلو من حنو. و إذ بمولود ينظر إلى السقف و يغيب و كأنه في حلم ، و قال ، و هو ما زال على هذا الحال :
    إذا غشيتك غاشية يا مصباح تركتك تتساءل "ما الفائدة" فارجع إلى صحائف التراجم ، التي أراقت عليها السني قصص غير المبالين بالحياة الذين آلوا لتكونن للروح الكلمة العليا و ليكونن الجسم أداة طيعة ، و اذكر قول ابكتيتوس :" تذكر أن في كل وليمة ضيفين كريمين الجسم و الروح ، و ان ما يعطاه الجسم لا يلبث أن يفقده، أما ما تعطاه الروح فيبقى على الزمن".
    و انتهى مولود من كلماته فساد صمت طويل و عميق . و حين أطال الصمت أكثر عد مولود في سره إلى العشرة ثم قال ينبغي النجاة ، فقام مصباح مشدوها و هو يقول :
    مغادرتك منذ الآن غير معقولة.. أنا دعوتك لنبقى السهرة كلها، إن سهرنا يستطيل عادة حتى الساعة الثانية عشرة، انظر ساعتك إنها لم تتجاوز بعد العاشرة.
    و عندما أصر مولود ، بدا على مصباح أن عتبه شديد ، فقد أمسك بأكتاف مولود و هو يقول :
    ما معك حق تعاملنا هكذا يا مولود ، نحن إخوان و إنك لترى ..أفبعد أن زالت الكلفة بيننا تريد أن تغادر؟.. و الله لن تغادر..أننا و إياك نتسلى..إجلس يا رجل، لن تذهب والله لن تذهب..ما هذه الواجبات الملحة التي تركب أكتافك؟.. انت رجل فرد الآن.ما من واجبات تنتظرك.
    و بينما كانا في أخذ و رد، وقفت و قال بضع كلمات أسرتها في أذن أخيها الذي صاح :
    لئلا يثقل الطعام على المعدة إذا تأخرنا به ، هانحن بكرنا فلنتجه جميع إلى المائدة.
    و بينما كان مصباح يعلن ذلك ، كانت نظرات فائزة الناعسة تغوص في عيني مولود الذي لم يخف عنه أن الطريق أغلق دونه ، فما كان له أن يرفض الضيافة ، كما أدرك أن الصلة بينه و بين مصباح و فائزة خرجت عن نطاق الصداقة المجردة لتدخل في طور جديد يلعب فيه الاستلطاف خير أدواره.
    و بينما كان الجميع حول المائدة ، كانت فائزة مقابلة لمولود من الناحية الثانية بوجهها الفتان فعاوده القلق يا يعرف مأتاه، إنه يعرف وضعه حق المعرفة و لكن هؤلاء لا يعرفونه.. و تأدى إليه من ظلام الماضي خيال معهد الأحداث و تساءل : ألم يكن من الخطأ إخفاء الماضي عن زملائه أو بالأحرى عن هؤلاء يجالسهم و الذين يفتحون له صدورهم. لقد عطل لهم اختيارهم، لعله لو كانوا على علم أن يحدد موقفه أو يحددوا موقفهم ..ألم يظلمهم بذلك؟..لئن علم هؤلاء بماضيه الآن خير من أن يتراخى الزمن حتى يبلغ نقطة اللارجوع، و عندها تقع المأساة و لكن الوقت الآن قد فات.
    هل هذا مصدر القلق عندك؟؟..يا مولود أم أنه أمر آخر تأمل و انظر وجوه المتحلقين على المائدة ، ألا ترى هذا الفأفاء التمتام..الجالس إلى جانب فائزة إنه ابن خالتها ، إنه ينظر إليك نظرات ليست ودية..هل فهمت؟..إنه يرى فيك منافسا لعله يطمع بها..و لعله يرى أن أحق بها منك..لا يخفى عليه ما يتردد بين طرفك و طرف فائزة من تيارات سحرية و كهربائة..لئن كان ناقص التكوين إلا أنه من "عظم الرقبة"..من الطينة ذاتها ، لا تنس أن والدة فائزة تدللـه ، و لا تنس أنه ما زال عزبا..و لا تنس و لاتنس..
    و إنه ليحاكم الأمر بهذا المنطق .. و إذا بهذا الشاب ابن خالة فائزة ينفجر ضاحكا بصورة مفاجئة حين عن له أن يعود إلى سيرة المغامرة في فك القنبلة..هنا تكهرب الجو..جمد مولود في مكانه و تجمدت على فمه كل بسمة و في عينيه كل نظرة..و انفجرت كل عواطفه انفجارا صامتا، و إذا بمحاكمته العقلية تتجه بينه و بين نفسه هذا الاتجاه :
    إن أشخاص هذا المجتمع ليسوا إلا علامات مزروعة على طريق يخفي قناة تحت الأرض ، تجري فيها معتقدات و تراكيب عضوية ، تشكل تيارا يهدر هديرا كريها ، و يجرف بكل عفوية كل شيئ أمامه متى كان مضادا لاتجاهه. و يفترض بكل كائن أن يظهر ماضيا و حاضرا لا مستقبلا ، فإذا ما اكتشفت ماضيه عن تكتمه على هذا الماضي إهانة منه فاقتص منه.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

صفحة 7 من 8 الأولىالأولى ... 5678 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. تحميل رواية ياسين قلب الخلافة - عبد الإله بن عرفة pdf
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-03-2015, 06:10 AM
  2. وفاة المحكم الدولي/عبد الإله الخاني
    بواسطة فراس الحكيم في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 85
    آخر مشاركة: 11-14-2010, 05:30 PM
  3. وفاة المحكم الدولي/عبد الإله الخاني
    بواسطة عقاب اسماعيل بحمد في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-13-2010, 08:41 AM
  4. حصريا/مسرحية الملك نقمد/عبد الإله الخاني
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 38
    آخر مشاركة: 04-07-2010, 06:41 PM
  5. المحكم الدولي /عبد الإله الخاني
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-25-2009, 07:55 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •