نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
الفصل الأول
أهمية تاريخ الطب

تعود أهمية دراسة تاريخ الطب إلى أسباب كثيرة. فلقد نجم عن إهمال دراسة الطب العربي وعن تركه لليهود وللعرقيين الكارهين للعرب، أن جعل هؤلاء العرب وكأنهم كانوا قوماً همجاً لا علاقة لهم بالحضارة قطعاً. وراحوا يسقطون الوضع المزري للعرب اليوم على تاريخهم كي يبرهنوا على نظرياتهم العرقية القذرة. ونجم عن هذا أن دورهم تضاءل شيئاً فشيئاً.. حتى انعدم. وراح حتى المثقفون الفرنسيون والذين ينتمون إلى الفكر المتحرر، يقللون جداً من أهمية دور العرب حتى انعدم. وهكذا مثلاً فإن ابن المنكلي صاحب كتاب أنس الملا في وحش الفلا، الذي يعد من أمهات الكتب العربية في موضوع الصيد، انسان غير عربي، لأن الباحث الفرنسي فيريه، والأستاذ في السوربون اليوم، برهن (كذا) على أن أباه كان تركمانياً.
ثم يناقض الأستاذ فرنسوا فيريه نفسه بنفسه، إذ يؤكد أن ابن المنكلي ولد وترعرع وتعلم في القاهرة على يد كبار العلماء المسلمين، وأنه لم يكتب إلا بالعربية، وأنه في كتابه ينتقد الأتراك لأنهم قساة القلوب ودمويون!.
وإذا قارنا ابن المنكلي، ليس على ضوء المعطيات العربية الإسلامية، بل على ضوء المعطيات الأخيرة لتعريف الهوية القومية في فرنسا عام 1998، وجدنا أن هذه المعطيات تعتبر فرنسياً كل من ولد فيها، وأمضى فيها ما لايقل عن خمسة أعوام من عمره، بغض النظر عن أصل والديه وجنسيتهما. فما بالك بمن ولد من أب تركماني مسلم في القاهرة وأمضى كل حياته فيها ولم يزر لا تركيا ولا تركستان؟.
أما إذا أردنا تحليل الأمر من الوجهة الإسلامية، فباستطاعتناأن نقول إنه في ذلك الزمان كانت القاعدة، على الأقل نظرياً، هي أن " لافضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، "وأن "الناس سواسية كأسنان المشط"، وأن" المؤمنين إخوة" ... إلخ.
ولنأخذ مثالاً على ذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي رفعه الرسول الكريم(ص)إلى مستوى أحد أفراد عائلته فقال :>سلمان منا أهل البيت<، فرفعه إلى درجة عليا. فهل كان ذلك لأنه غيرّ لون عينيه؟ أو لون شعره؟... بالطبع لا. لقد تغيرت أفكاره، فأصبح مؤمناً مسلماً، وإنساناً من أصلب المسلمين الأوائل.
خذ مثلاً آخر، كان الملك الـظاهر بيبرس مملوكاً تركياً يلقب بالألفي لأن ثمنه على ما يقال كان ألف دينار. وعندما هجم المغول الوثنيون على البلاد الإسلامية في الشرق الأدنى، تصدى هو لهم وكسرهم في موقعة عين جالوت التي أبدى فيها ذكاء نادراً في معرفة فن التكتيك الحربي(1)، وأسر منهم كثيراً من أكابر القوم، كان منهم أمير شاب، فراح يعلمه حتى دخل الدين الإسلامي، وزوجه إحدى بناته وأرسله إلى مقاتلة أبناء جلدته. إذن، الذي تغير في هذا الشاب حتى صار يحارب ويقاتل المغول أبناء جلدته هو الفكر، أي الإيمان بفلسفة مغايرة.
لقد كانت العرقية ولاتزال الأساس في تكوين فكر معظم المستشرقين الغربيين بكل أسف. فهم ينكرون حتى اليوم أي تأثير للحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الغربية.
ويطلقون على الحضارة الأوروبية اليوم الحضارة اليهودية المسيحية. يقول الفيلسوف روجيه غارودي (2): >تدعي الثقافة الغربية منذ عدة قرون،أنها نتيجة إرث مزدوج: يوناني روماني ويهودي مسيحي<.
إن أسطورة المعجزة اليونانية(3) برزت بسبب اجتثاث الجذور الشرقية عن عمد، من هذه الحضارة : إرث آسيا الصغرى التي كانت مقاطعة من بلاد فارس، ومنها جاء كبار المفكرين أمثال طاليس، ووميليت، وكزينوفان، وكولوفان، وفيثاغورس إلى هيرطليس، ومنها مرت روح زرادشت، ومن هناك إلى الهند ذات التعاليم الفلسفية القريبة من تعاليم أفلاطون بشكل مبهم.
من إرث مصر ذات العمر الألفي، ومن جذورها ومن رؤاها، التي لاحقت فيثاغورس وأفلاطون، بالإضافة إلى ذلك التلاقح المتبادل ما بين الحضارات، ولدت الثقافة في الإسكندرية في الوقت الذي ماتت فيه في روما. وفي الإسكندرية كان ملتقى كل التيارات الفكرية والدينية للشرق، فولدت رياضيات أقليدس، وفلك بطليموس، كما ظهرت فيها الرؤى الصوفية لفيلون وبلاتون وأوريجين وكليمانت . إنها أسطورة التفوق التي غذيت بالجهل المتعمد والرفض، ففي قلب الهلال الخصيب، حيث ظهرت حضارة مابين النهرين، ومن حيث جاء إبراهيم الخليل عليه السلام إلى مصر، قاد موسى عليه السلام أسباطه، فكيف يمكن إنكار تأثير ثقافتي بابل والفراعنة؟. ألا تحمل الثقافة اليهودية كالأغريقية، في أحلى رونقها، نسغ الأفكار العميقة لبلاد الكلدانيين، هناك حيث ظهرت ملحمه جلجاميش إلى جانب علوم المجوس، وتنبؤات زرادشت، أو ثقافة مصر حيث ظهرت فكرة التوحيد عند أخناتون الذي نجد في نشيده للشمس، نشيد داوود رقم 104 بكامله؟. إن المسيحية بدورها لم تظهر في أوروبا، القارة الوحيدة التي لم يولد فيها دين عظيم، ولكن في آسيا، ثم نمت في أنطاكية، أي آسيا الصغرى، وفي الإسكندرية أي إفريقيا. أفلا تدين اليهودية والمسيحية بشيء إلى هذه الينابيع الشرقية للثقافة اليونانية التي استوعبها القديس بولص بسرعة؟.
ألا ندين بشيء إلى أولئك المبعوثين البوذيين المرسلين إلى فلسطين، قبل ولادة المسيح بثلاثة قرون من قبل الإمبراطور الهندي آجوكا؟ والذين وجد أحفادهم من بين سكان الرها مع سلوكهم ورؤاهم القريبة من دير قرمان أو من تعاليم إنجيل توما الذي اكتشف في مصر ؟؟..
لقد رفض الغرب، منذ ثلاثة عشر قرناً، الإرث العربي الإسلامي، كما أن ولادة النهضة في الغرب ظهرت في إسبانيا الإسلامية قبل النهضة الإيطالية بأربعة قرون.
وفي نشرة لمعهد العالم العربي(4) في باريس قال كاتبها تحت عنوان : "أجدادنا العرب"(5):
من المعلوم أن استيطان المسلمين في أوروبا بدأ منذ أوائل العصور الوسطى، وعرف امتداداً كبيراً بعد ذلك، ليس في إسبانيا وصقلية وكريت فحسب، وهي معلومات معروفة في التاريخ، بل إن مناطق شاسعة من إيطاليا وفرنسا دخلت تحت النفوذ العربي.
إن ما قدمه المسلمون من عرب وبربر في تكوين شعوب وحضارات أوروبا الوسيطة واضح جداً، لذلك يجب أن نعد العرب من بين أجدادنا كالأتروسكيين، والإغريق، والسلتيين، والرومان، والجرمانيين.
لم يجر تقدم وتراجع المسلمين في أوروبا بحركة واحدة متجانسة، ويمكننا أن نقول : في القرن السابع، كانت الهجمات الأولى في صقلية واحتلال جزيرة بانتيلليرا. وفي القرن الثامن تم فتح صقلية، وجزر الباليار وكريت، واستيطان المسلمين في ساردينيا وكورسيكا وإيطاليا الجنوبية، ونابولي، وكان سكان الأمالفي يدفعون الجزية لأمير صقلية، ثم هجموا على روما.
وفي نهاية القرن التاسع، جاء المسلمون إلى إسبانيا عن طريق البحر واستقروا قرب خليج سان تروبيه (Saint Tropez) (فرنسا الآن) وفي الجراند ـ فرينيه، ومن هناك وطدوا حكمهم، عندما وصل إلى أوجه وحتى البيمونت شرقاً، وحتى بورغوني والسافوا وسويسرا شمالاً.
وظل الأمر كذلك حتى 675 و 680 هـ، فاستطاع أمير آرل أن يقضي على الإمارات العربية ودمجها في مقاطعة البروفانس... وهكذا توجد في اللغة الفرنسية الدارجة اليوم حوالي 2500 كلمة عربية أو من أصل عربي، منها مثلاً : البرقوق، والكحول، والجبر، وأميرال، ودار الصنعة، السمت، والقهوة، والقالب، والغراف، والقيراط، والصفر، والقطن، والديوان والجبة، واللك، والخزن، والموسلين والراكيت (الراحة)، والطلق، والطاسة، (عن معجم لاروس للغة الفرنسية). إن ظاهرة الأخذ هذه هي مظهر من مظاهر التبادلات الطبيعية بين الحضارات المتجاورة جغرافياً. ونحن غالباً ما نتكلم بلغة عربية ـ فرنسية (فرنكو ـ آراب) فنقول مثلاً : بركة، بدوي قائد، شيخ، كوفيه، كسكس، جبل، أمير حنه، ناعورة، غزوة، صوفي، طبيب، كلب... الخ.
لقد بالغ بعض المستشرقين الغربيين في الأمر بحيث أصبح أكبر طبيب عرفته الحضارة العربية الإسلامية هو الحاخام موسى بن ميمون، الذي كتب بالعربية عشرة كتيبات في الطب، لم يكن لها أي تأثير على تاريخ الطب باعتراف أكبر وأنزه مؤرخ غربي لهذا الطب، وأقصد الطبيب الفرنسي لوسيان لوكلير(6) الذي وصفها بأنها لا تحتوي على أي شيء أصيل أو جديد.
كما أن البعض الآخر بالغ في أهمية كل من ابن سينا والرازي لا لشيء سوى لأنهما فارسيان، والفرس ينتمون (كذا!) إلى العرق الآري (أي المتفوق). وكان ذلك خلال فترة ما بين الحربين العالميتين عندما برزت إلى الوجود النظرية العرقية، وبلغت أوجها عند النازيين الهتلريين. والحقيقة الثابتة علمياً اليوم أنه لاتوجد أعراق ألبتّة.
ويعدُّ القرن الثامن عشر قرن الاستعمار الرهيب. وعندما تعرف الغرب على ضعف الشعوب الأخرى (خاصه في افريقيا) ورأى أن لون الجلد يسمح له بالتفريق بين البشر، وبتأثير من قصة نوح عليه السلام كما هي مروية في العهد القديم، حيث تقول بأن نوحاً غضب على أحد أولاده المدعو حام لأنه نظر إلى عورة أبيه، فلعنه فاسودَّ وجهه وجسمه وانتقل لونه إلى أولاده وأحفاده، فنتج عن ذلك أن اعتبر سواد الجلد نتيجة لعنة إلهية، وليس ناجماً عن إفرازات مادة الميلانين Melanine في الأدمة كي تحمي الأعضاء الداخلية من أشعة الشمس تحت الحمراء ... لذا راح المستعمرون يروّجون للنظرية العرقية التي تقول بأن البشر مؤلفون من أعراق مختلفة، ثم جاء الفيلسوق الألماني نيتشه Neitzche الذي أكد في كتابه: هكذا تكلم زرادشت، أن الإله القديم (أي الله) قد مات، وراح نبيه المزعوم زرادشت ينبيء عن قرب ظهور الإنسان المتفوق أي الآري.
والنظرية العرقية هذه تدعي أنه من المستحيل على الأعراق المنحطة الملونة (كذا!) أن يكون لها ذكاء إبداعي، بل يستحيل عليها ذلك مهما فعلت. فالزنجي يظل متخلفاً مهما فعل، لأن ذلك في دمه، ولكن الواقع أثبت خلاف ذلك. فهاهو البروفيسور عبد السلام الباكستاني قد نال جائزه نوبل في الفيزياء، بعد أن هاجر إلى أمريكا، أي أن البيئة هي التي تحدد وتطور الإنسان، وليس للدم أي علاقة.
ويجب الاعتراف بأن الديانة اليهودية هي التي تسببت في ظهور هذه النظرية. وذلك بتبنيها لفكرة الدم، وأنه يجب على المرء أن يحافظ على دمه نقياً من كل تلوث. لذا فإن زواج اليهودي يجب أن لايكون إلا من يهودية. ولكن العلم اليوم أثبت خطأ هذه النظريه تماماً، فالبشر كلهم من نوع واحدة، لأن لهم كلهم الزمر الدموية نفسها، وعدد العرى الملونة Chromosomes نفسه، وأنهم يتزاوجون مع بعضهم بعضاً فيلدون أولاداً يشبهون ذويهم، وبإمكانهم أن يتزوجوا وينجبوا.
أما الدم النقي فهو مكرس اليوم في بعض الحيوانات كالحصان العربي مثلاً. علماً أن الإنجليز عندما زاوجوا إجبارياً أفراسهم مع الفحول العربية الثلاثة المعروفة (أي دولوفين أرابيان، وبيريرلي تورك، والفحل الحلبي السوري الشهير دارلي أربيان) نتج عن ذلك الحصان الانجليزي الشهير الذي تفوق على العربي في سباق المسافات القصيرة، ثم تبين أنه بسبب الحفاظ على دم الحصان العربي نقياً، في نطاق ضيق، أي بين عدد محدود من الحيوانات كما هي الحال في أمريكا، نتج عن ذلك مرض جديد غير معروف عند البدو، وهو مماثل تماماً لمرض الأيدز إنما ناجم عن عامل وراثي خلقي، وأن لا علاقة له بالفيروس المعروف والذي اكتشف حديثاً.
إذن البشر كلهم ينتمون إلى نوع واحد، وإذا اختلفوا فالخلاف ناجم عن تأثير البيئة فيهم. فإذا كان البدوي طويل القامة فلأنه يشرب حليب النوق. إذ قام العلماء اليابانيون بدراسات لمعرفة السبب في طول الشعب الأمريكي وقصر شعبهم، فتبين لهم أن السبب هو أن الأمريكي يشرب الحليب منذ ولادته حتى مماته وبكثرة. فقاموا بتطبيق ذلك على أولادهم خلال بضعة أجيال فطالوا بحوالي عشرة سنتيمترات.
أما لون الجلد، فما علينا إلا أن نقارن بين قبيلة الماساي Massai الأفريقية التي تعيش في السهول، لنرى أنهم طوال القامة، ناعمو تقاطيع الوجه، وذوو لون أسود فاحم، على عكس القبيلة المسماة البيجمة PYGMEE التي تعيش في الغابات، إذ أن أفرادها ذوو لون كاشف (قهوة بالحليب)، وقصار القامة وذوو تقاطيع خشنة.
والسبب أن الماساي يعيشون تحت أشعة الشمس في السهول، لذا كان لون أجسادهم أسود فاحماً، وهم رعاة، لذا فهم يتغذون بالحليب. بينما أفراد قبائل البجمة يعيشون في الغابات بين أغصان الأشجار وهم صيادون. لذا كانت أجسادهم ذات لون أكشف، بسبب حمايتهم بظلال الشجر، وقاماتهم قصيرة كي يستطيعوا المرور عبر الأغصان والأشجار، وفكهم بارز بسبب أكلهم اللحم دوماً. بينما كان قوس الجاجبين بارزاً أيضاً وذلك لحماية العين من الأشواك والأغصان، كما أن شعورهم أقل نمواً وأكثر فلفلة من الآخرين كي لا تعلق بالشجر.
إذن الإنسان شاء أم أبى هو نتيجة للتلاؤم مع طبيعة بيئته. وهو أحد القوانين التي وضعها العالم الفرنسي الكبير لامارك LAMARCK. وهي :
1 . إذا نقل الكائن الحي من بيئته إلى أخرى، أو أن تغيراً مفاجئاً وقوياً حدث في بيئته نفسها ولم يستطيع التلاؤم معها، يموت شاء أم أبى (كالديناصورات).
2 . أن العضو الذي لايعمل يضمر.
3 . أن الصفات الجسدية المكتسبة تنقل بالوراثة.
هذا القانون الأخير أثار نقاشاً حاداً، لأنه بذلك يرفض ويدحض كل تلك النظريات التي تعتمد على الدم. ولكن العلم الحديث برهن أنه في الكائن الحي، وبعد حوالي المئة جيل، تتحول المكتسبات الجسدية الناجمة عن تلاؤمه مع البيئة إلى جينات تدخل في تكوين ثروته الجينية :(7)Génôme .
وهكذا فإذا نقلنا الحصان العربي الصحراوي من بيئته القاسية الجافة إلى إنجلترا أو روسيا أو بولونيا، فإنه سوف يضطر إلى التلاؤم معها، وإذا بشعر جسمه يطول ولايعود ذلك المنجرد الذي وصفه أميرنا امرؤ القيس، وإذا بذكائه يخبو لأنه يعيش في الإصطبلات وحيداً. بالإضافة إلى ذلك أصابته بعرات مختلفة. بينما مع البدوي في الصحراء كان ولا يزال يعيش برفقة الإنسان كما يعيش الكلب مع الأوروبي اليوم.
لهذا فإن الكثيرين من العلماء لا يعتبرون الحصان الأمريكي أو الأوروبي عربياً بل حصان غربي من أصل عربي.
وبعد خمسين عاماً من لامارك جاء العالم الأنجليزي داروين Sir Charles Darwin فوضع قانون الانتقاء الطبيعي. وبالنسبة لهذا القانون، وخاصة إذا طبقناه على الحصان العربي مثلاً، وجدنا أن الحصان العربي الصحراوي المشرقي هو نتيجة انتقاء خلال ألوف بل ملايين السنين، وأن الحصان الغربي من أصل عربي، والذي يعتبر سلعة باهظة الثمن، والذي يعتنى به بشكل لانظير له، قد فقد الكثير من صفاته، إذ أن البيطرة الحديثة تحتفظ حتى بالحصان غير الجيد.
أما طب البدو فلا يعرقل قانون الانتقاء الطبيعي، وكان داروين نفسه، قبل اكتشاف الجينات وعلم الوراثة الحديث، قد ادّعى معتمداً على الفحص بالنظر والعين المجردة، أن الكلب هو نتيجة سفاد الذئب مع ابن آوى، وراجت فكرة الكلب ـ الذئب Chien- Loup(أي كلب الراعي الألماني) تغزو العقول.
ولكن العلم الحديث برهن على أن الكلب والذئب لهما عدد الجينات نفسه.
لذا نقول اليوم : إن الكلب كان ذئباً متوحشاً، استطاع الإنسان القديم أن يستأنسه فأصبح الكلب المعروف. وثمة دليل آخر: فقد تركت كلاب كثيرة في مناطق حاول الأستراليون العيش فيها فلم يستطيعوا، ومع الزمن تحولت الكلاب الأليفة إلى ذئاب مخيفة. هذا ومن آن إلى آخر يتحول الكلب فجأة، بسبب قانون الزمرة ( أي اجتماع عدد كبير من الكلاب) إلى نوع من الوحوش، فتهاجم بعض الناس فتقتلهم.. وثمة حوادث كثيرة من هذا النوع وقعت في العالم.
إذن لا أعراق ولا عرقية، بل نوع واحد.
طبعاً من السهل أن يقول الألماني:أنا ألماني إذن فأنا متفوق ويجب عليكم جميعاً أن تخضعوا لي، وهو المبدأ الذي اعتمدت عليه الفاشية، ولكن من الصعب جداً أن يثبت كفاءته للناس بعمله. كما هي الحال بالنسبه لليهود، ولكل من يؤمن بأن الدم هو العامل الوحيد والأساس في النجاح والتفوق.
لذا استسهل الكثيرون من أشباه العلماء في الغرب إطلاق الأحكام فقالوا : لم يبدع العرب شيئاً، وإذا حدث فالفضل يعود إلى أن هذا العالم من أصل (دم) إيراني أو تركماني أو كردي... وقس على ذلك ماشئت من الترهات والأكاذيب. وهكذا يقول إدوارد براون E/G/BROWN في كتابه الطب العربي(8) : >ترجع معظم التعاليم الطبية المودعة في بطون الكتب المؤلفة باللغة العربية إلى أصل يوناني مضافاً إليه زيادات هندية وفارسية وسريانية، وقدر ضئيل من إنتاج العقل العربي...ومعظم هذه المؤلفات كتبها فرس وسريان ويهود، والقليل منها كتبه يونانيون، أما العرب الخُلّص فلم يكتبوا منها إلا أقل من القليل<.
ويقول سانجورجو داريلانو(9): >ليس الطب الإسلامي إلا مجموعة ترجمات كتبت باللغة العربية من قبل فرس ويهود ومسيحيين<.
ويقول دارنبرغ(10):>ليس الطب العربي جملةً إلا ترجمة، أو بالأحرى تزييف وتزوير للطب الإغريقي<.
ويدعي باربيون(11): >إننا لا نجد لهم (للعرب) اكتشافاً في التشريح (كذا)، أو أي تقدم ما في الفيزيولوجيا. وكل ما نجده هو بعض الكتب في جس النبض، ودراسة الحرارة (كذا) واستعمال بعض الأدوية الجديدة، أما باقي كتبهم فليست سوى كلام ومناقشات لامعنى ولا مضمون لها<.
والواقع أن الخطأ الكبير الذي وقع فيه عن قصد هؤلاء المستشرقون هو إسقاط آرائهم العرقية أو القومية على العرب المسلمين. فلم تكن القوميات تتمتع بهذه الأهمية في البلاد الإسلامية، بل حتى في أيامنا هذه.
لقد حظي العلم العربي (أي المكتوب باللغة العربية) باحترام وتقدير عندما كان الغرب في حاجة إليه في بداية نهضته، فأقبل أبناؤه على دراسته والترجمة عنه، بل كانت لديهم مدرسة تدعى مدرسة اللغات الثلاث : اليونانية، واللاتينية، والعبرية!.
ذلك أن محاكم التفتيش كانت قد أجبرت العرب على الهرب إما إلى المغرب أو مصر أو غيرهما من البلاد، فكانوا كلهم يعرفون اللغة العربية. وكان للعلماء الغربيين على الأقل إلمام باللغة العربية. من هؤلاء العلماء أندريه فيزال ووارنو فيلانوفا، وجاك ديسبارس (عميد كلية الطب في باريس) وكلهم ترجموا مباشرة عن العربية، وتأثروا، إن لم نقل سرقوا منها، وقد أشرت في كتابي الصادر بالفرنسية سنة 1989، ضمن منشورات الإيسيسكو، عن كيفية انتقال أفكار إبن النفيس العلمية إلى علماء الغرب، وهو بعنوان: تاريخ اكتشاف الدورة الدموية الصغرى.
وعندما اكتشف الغرب المخطوطات اليونانية، وعرفوا أن العرب قد ترجموا منها، وأنهم أخذوا عنها، وكان ذلك إبان عصر الاستعمار، راحوا يدسون الدس المعروف.
وهكذا وكما قال روجيه غارودي، فإنهم يعتقدون أن المعلومات التي جاءتهم من اليهود الذين تركوا إسبانيا بعد محاكمات التفتيش، ولجؤوا إلى فرنسا مثلاً، هي كتب طبية عبرية (كذا)؟. والواقع أننا إذا تركنا جانباً أعمال المترجمين أمثال أندريا الباغو، وقسطنطين الإفريقي، وجيرارد الكريموني، فلقد كان الأطباء الكبار الأساتذة في الغرب يعرفون العربية. وأخص بالذكر منهم ثلاثة : الأول هو أرنولد دو فيلانوفا الذي درس الطب في مونبيليه، إذ كان أستاذاً فيها، ويـــذكـر لوكلير ذلك في كتابه(12) تاريخ الطب العربي. وهو الذي أدخل الكحول إلى أوروبا.
والثاني هو غي دو شولياك( Guy De Chaulaic) الذي استقر في مدينة ليون الفرنسية، وأصبح أستاذاً فيها، ونشر كتابه الشهير الجراحة الكبرى، وفيه ذكر ابن سينا 661 مرة، والزهراوي 175 مرة، والرازي 161 مرة، وعلي بن العباس المجوسي 149 مرة، وابن رشد 29 مرة، وابن زهر 21... إلخ(13).
أما الثالث فهو جيل دو كوربي الذي استقر في باريس ودرس فيها أيضاً(14) ، إلى جانب عميد كليتها الطبية جاك ديسبارس الذي شرح جزءاً من القانون ونسخه بخط يده، وتركه في مكتبة الكلية. وسنعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد.
وللحقيقة يجب أن نعترف أن الحال لم تتغير كثيراً في أوروبا حتى الآن... . فعندما يريد أحد الأجانب أن يكتب كتاباً عن تاريخ الطب، يجد نفسه مضطراً إلى الاستعانة بمن له علم باللغة العربية. لذا فهو لا يجد سوى اليهود الذين يتقدمون طواعية لخدمة العلم والعلماء (كذا!). وإذا بك تجد في كتبهم وفي الفصل المكرس للطب العربي ما ذكرته من أمثلة.
ولقد انتبه إلى هذا عميد كلية الطب الراحل ليون بينيه Léon Binet، فرفض مساعدة اليهود. وأراد أن يساعده في دراسة كتاب ابن النفيس طالب سوري مسلم. وحدث أن كان في باريس طالب يدعى عبد الكريم شحادة، كان قد درس الطب في دمشق حتى السنة الرابعة، ومن ثم ذهب إلى باريس ليتم دراسته فيها، وعندما أراد أن يقدم أطروحة، طلب منه بينيه أن يساعده في العمل فاستجاب (عام 1950). لنأخذ الفصل الذي نشره باريتي الأستاذ في تاريخ الطب في باريس كمثال ومساعده كوري Bariety et Coury، إذ أنهما كتبا فصلاً غير مشرف قطعاً. وعندما ذهبتُ إلى باريس علمت أن أحد اليهود هو الذي كتب ذلك الفصل. ولقد قرأت في أطروحة لأحد اليهود يقول فيها : >كان صلاح الدين كذاباً، فلقد وعد ابن ميمون بمنحه القدس بعد فتحها كي يجعل منها عاصمةً لإسرائيل، ولكنه بعد فتحها لم يف بوعده !؟ ...< . وكان قد قدمها (أطروحته) بإشراف محاسب الجمعية الدولية لتاريخ الطب المدعو سيمون وهو يهودي.
والحقيقة أن ابن ميمون كان قد هرب من محاكم التفتيش في الأندلس (أي عمليّاً من القتل). وذهب إلى المغرب حيث اضطر إلى التخلي ظاهريّاً عن دينه، وأعلن إسلامه. وعندما سمع بصلاح الدين وما كان يتمتع به من تسامح، ذهب إلى مصر. فأدخله السلطان في زمرة أطبائه الذين كان ثلثاهم من المسيحيين واليهود. وذات يوم تعرف أحد الأمراء على الرابان ابن ميمون وقال له : ألست اليهودي الذي أعلن عن إسلامه ثم ارتد ؟.
وحسب الشريعة الإسلامية، فإن هذا العمل يستحق القتل. وهنا تدخل أخو السلطان صلاح الدين قائلاً : أنت مخطيء وتمزج بينه وبين شخص آخر.
ولكن هذه الحادثة لا يذكرها اليهود قطعاً. الوحيد الذي ذكرها هو الفرنسي (الملقب بالعربي) المستشرق الكبير لوسيان لوكلير.
ويقول الأستاذ جان شارل سورنيا(15)، عن حق : >ثمة سبب آخر للأخطاء التاريخية يجب أخذه بعين الاعتبار. قلائل هم الذين يتقنون اللغة العربية القديمة، ويعرفون المصطلحات الطبية، لذلك فإن كل من يكتب عن الطب العربي ينقل عن الآخرين، وكل واحد ينقل عن الآخر بشكل منتظم تلك الأخطاء الجسيمة عن التواريخ، ونسب المؤلفات إلى أصحابها. وعندما يحاول أحدهم تصحيح أخطاء من سبقه يحتفظ ببعض منها، بل ربما أضاف إليها أخطاء جديدة<.
الحقيقة أنه للكتابة في الطب العربي يجب أن تتوفر في الكاتب عدة شروط :
ـ الأول : معرفة اللغة العربية.
ـ والثاني : أن يكون طبيباً.
ـ والثالث : أن يحب العرب ويحترمهم.
ولذلك فإن أفضل من كتب في هذا الموضوع هو الطبيب الفرنسي لوسيان لوكلير، والألماني اليهودي ماكس مايرهوف، والألماني هيرشبرغ. وكانوا كلهم أطباء يتقنون العربية.
بل حتى هؤلاء وقعوا في أخطاء، إما عفوياً كما حدث لهيرشبرغ عندما التبست عليه كلمة "تشنج"، أو عندما حرّف مايرهوف لقب ابن النفيس(16) من ابن الحزم إلى ابن الحَرَم، لأن هذا الأخير اسم يهودي. وكشف الأمر أستاذنا الجليل ألبير زكي إسكندر(17) عندما وجد اسمه مكتوباً بخط ابن النفيس نفسه على كتابه الشامل في الطب. فكان أن كتبه ابن الخزم (خاء وزاء وميم). وثمة عدد كبير من المستشرقين الذي يسمحون لأنفسهم بالكتابة والنشر في الطب مع أنهم لغويون (أمثال مانفريد أولمان) الذي نشر كتاب الطب الإسلامي، وفيه ضاع في متاهات لغوية مليئة بالدس والسخرية، أو مافعله المستشرق الفرنسي دو ساسي De Sassy الذي أعطى صورةً غير حقيقية عن الطب العربي في كتابه عن البغدادي الذي نشره عام 1810م، وغيره.
ولكن يجب الاعتراف بأن الذنب يقع على عاتق العرب أنفسهم. وكم كان عمل الدكتور أحمد يوسف الحسن، رئيس جامعة حلب الأسبق، رائداً عندما أنشأ معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب.
أقول عن خبرة ومعرفة وعلم : إن المهمة الأساس في العمل في التراث الطبي العربي تقع على عاتق العرب أنفسهم. لذا جندت نفسي للقيام بهذه المهمة الشاقة، رغم الصعوبات الهائلة التي لاقيتها من الأجانب العِرْقيين.
وباستطاعتي القول بأن ما نشره العرب من الكتب الطبية العربية حتى اليوم هو أقل من القليل، وحتى أغلب ما نشر أو حقق غير موثوق، لأنه قد أعدَّ بشكل سريع، من أجل الشهرة أو الربح المادي فحسب. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم.
ولا يمكننا بأي شكل من الأشكال، أن نعتبر الكتب التي طبعتها مطبعة دار المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن بالهند كتباً ذات صبغة علمية، أو حتى تلك التي تصدر عن بعض الجامعات العربية، والسبب هو عدم الاستقرار وقلة الاحترام للعلماء الحقيقيين.
ضمن هذه الشروط، فإنه من المتعذر جداً أن يكون ثمة علم من دون بذل الجهد مضاعفاً. وعندما يضطر العالِم العربي إلى الهجرة، تراه يتحمل من سوء العذاب، ومن المضايقات بل من الشتائم العرقية ما لا يطاق.
ورغم هذه الصعوبات، فإن البحوث القليلة والدراسات قد كشفت عن دور العرب الكبير في تقدم الإنسانية، وأن العرب قد حققوا الكثير من الاكتشافات العلمية.
منها مثلاً : كان الرازي أول من اكتشف وفرق بين الحصبة والجُذَري، في كتابه الشهير في الجذري والحصبة(18) الذي طبع أول مرة في لندن، بينما كان جالينوس لا يفرق بين العد (حب الشباب) والجذري.
ولقد كشفت الباحثة الألمانية فريدون هاو عن رسالة الرازي حول المرض الذي كان يعتري أبا زيد البلخي في الربيع عند تفتح الورود(19)، فعرف العلماء أنه أول من وصف الرشح التحسسي الأرجي الربيعي.
وعندما ترجم دوساسي كتاب البغدادي(20)، ظهر للعيان أنه أول من انتقد جالينوس وبرهن على أن عظم الفك السفلي عند الإنسان من قطعة واحدة وليس من قطعتين كما ذكره العالم اليوناني، وكما هو عند الحيوانات. والغريب أن أندريا فيزال قد ذكر ذلك في كتابه الآلة الإنسانية(21) دون أن يذكر المصدر.
كذلك فإن لوكلير عندما ترجم كتاب ابن البيطار "المفردات"، وجد أنه لوحده وصف، ولأول مرة، حوالي مائتي صنف من النباتات الطبية غير المعروفة قبلاً.
أما الحدث الذي لم يعد موضوع مناقشة، فهو اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، ولم يعد أحد ينازع ابن النفيس الطبيب العربي السوري المسلم فيه إطلاقاً.
فإن اسمه وارد في المعجمين الفرنسيَيْن لاروس وروبير للأعلام، على أنه أول من وصف الدورة الدموية الصغرى.
ولدى تحقيقي لكتابه "شرح التشريح" تبين لي أنه أيضاً قد صحح الكثير من أخطاء جالينوس، ليس بالنسبة للدورة الدموية فحسب، بل بالنسبة لتشريح القلب أيضاً، وبالنسبة لتشريح المريء والمرارة.
وهذه ليست إلا أمثلة، ولو أن المسؤولين في البلاد العربية كرّسوا للعلم والعلماء ما يجب، لاستطاعوا القيام بهذه المهام خير قيام، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وفي سياق كتابي المتواضع هذا، سيجد القارئ الكريم معلومات عن اكتشافات عربية ـ إسلامية تنزع عن الأطباء العرب صفة الترجمة والنقل، كما فعل الزهراوي مثلاً، في الجراحة، وفي فن المداواة وفي الجراحة العينية أيضاً وغيرها.
ثمة نقطة مهمة لا بد من مناقشتها، وهي فكرة المعجزة اليونانية التي جاءت في قول غارودي. تدعي هذه الفكرة أن اليونان هم الذين أوجدوا الحضارة من العدم، ومن السديم، وأن العرب نقلوا عنهم وترجموا، ولم يفعلوا شيئاً غير ذلك.
لقد اعتدت أن أكرس كلمة "الخلق" للّه سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي خلق الكون من لا شيء من السديم، من العدم. أما الإنسان فلقد اعتدتُ أن أكرس له كلمة الإبداع. فلقد كذب من قال إنه أبدع من لا شيء. فلا يمكن لأي إنسان، مهما بلغ من العبقرية، أن يبدع من لا شيء. فالإنسان يتأثر وينقل عن الطبيعة أو عن البشر الآخرين، أي مما خلقه اللّه تعالى، ويطور ما وجده، وما رآه، إنه يأخذ ثم يضيف.
وأعتقد جازماً أن مشعل الحضارة ينتقل من يد أمة إلى أخرى. وكل أمة تضيف إليه قليلاً مما استطاعت، أقول كل الأمم دون استثناء. ولقد قام العرب بدور هام، كما فعل الآخرون أيضاً حتى الهنود الأمريكييون، فلقد أعطونا الذرة، والبندورة (كلمة طماطم هندية-أمريكية) والفاصولياء، والكاكاو (ومنه الشوكولاته) والتبغ والكينا والدوش ... إلخ.
أما العرب فلقد قدموا الكثير كالسكر والقهوة والأرقام العربية والكثير من النباتات الطبية، وخبز الأبازير Pain dصépices، والجبر وعلم الفلك ... وغيرها. إن في اللغة الإسبانية اليوم أكثر من ستة آلاف كلمة عربية أو من أصل عربي. وفي الفرنسية أكثر من ألفين وخمسمائة كلمة، رغم محاولات طمس معالم تأثير هذه اللغة في اللغة الفرنسية.
لقد عرف الصينيون النظرية المنسوبة إلى أبقراط، وهي نظرية العناصر الأربعة. ويبدو أنها بدأت في وادي نهر السند حيث كان السكان، ولا يزالون، يؤمنون بنظرية الأركان الخمسة التي تقوم عليها نظرية الأيورفيدا.
وكان في بلاط ملوك الفرس أطباء يونانيون وهنود. كما كان في بلاط الخلفاء العرب أطباء هنود أمثال ابن بهلة ومنكه وشاناق وغيرهم(22).
لقد كانت ولا تزال الصلة بين الشرق الأقصى والأدنى عبر الشرق الأوسط دائمةً لا تنقطع أبداً منذ أقدم العصور حتى الآن. وكان الآشوريون من أكثر الشعوب اهتماماً بالعلاقة بين الفلك والصحة.
أما الحضارة الفرعونية فلقد كانت أكبر الحضارات في الشرق القديم. ولقد أثرت تأثيراً كبيراً دون شك في كل الحضارات المتوسطية، وأولها اليونانية. إذ كان اليونانيون يعبدون أوزيريس الإلهة الفرعونية. وكانت الديانة الفرعونية هي الوحيدة التي تسمح بفتح الجثث بعد الموت، بغية تحنيطها. ولذا كان من البديهي أن تكون معرفتهم بالتشريح تفوق كل الأمم المجاورة التي كانت ديانتها تحرم ذلك.
ولقد استطاع غرابوف ولوفيفر أن يجدا حوالي مائتي مصطلح تشريحي عند الفراعنة القدامى(23). ويعترف الطبيب اليوناني روفوس الأفسسي (الذي عاش في القرن الأول الميلادي، أي قبل جالينوس) بذلك حيث قال : >إن أسماء الدروز (دروز القحف) ليست قديمةً، لقد سماها في هذه الأيام أطباء مصريون لا يتقنون اليونانية. وهي على الشكل التالي : أكليلي، الدرز القريب من اليافوخ، واللامي والدرز قرب النقرة<.
أما في ميدان الطب ، فلقد جاء في ورق بردي أجفين سميث قول أحد الأطباء : >إذا فحصت رجلاً مصاباً في خلع في فكه الأسفل، فضع إبهاميك على نهاية الفرعين لكل طرف من الفك، ضمن الفم، وتظل بقية أصابع اليدين تحت الذقن، وتدفع إلى خلف : وهكذا تعود النهايتان إلى موضعهما<(24).
وإذا تأملنا هذا النص الذي يصف تقنية رد انخلاع الفك الأسفل لوجدناه أصدق وأدق ما يمكن. وهو ما نفعله اليوم دون زيادة ولا نقصان، بل إنها هي التي يصفها أبقراط والهندي سوسرتا سامهيتا وعلي بن العباس في كتبهم.
من فوائد دراسة تاريخ الطب ملاحظة طريقة انتقال الأفكار الطبية من شعب لآخر. كما أن دراسة الطب القديم تنفعنا أحياناً في إغناء الطب الحديث ببعض فنون المعالجة. وهكذا فإن الطريقة الصينية في المعالجة بالوخز بالإبر Acupuncture، مستعملة حالياً في أوروبا بشكل جيد ومنتشرة كثيراً.
وكان غاندي قد نشر كتيباً أسماه دليل الصحة ذكر فيه طريقة المعالجة بالطين، وإذا بها اليوم طريقة منتشرة ومستعملة في أوروبا. أما الحمام العربي أو المسمى بالتركي، فلقد تحول إلى ما يسمى بالسونا، وغني عن الذكر أنها طريقة واسعة الانتشار اليوم.
أما المعالجة بالأعشاب فهي أشهر من أن تعَّرف، يكفي أن أذكر بأن 35 في المئة من الأدوية في الصيدليات اليوم هي نباتية أو من أصل نباتي.
إن الدواء الأوسع انتشاراً، والأكثر استعمالاً في العالم هو "الأسبرين". وهو حمض الأستيل ساليسيليك Acétyl-Salicylique، مستخرج من شجرة الصفصاف الباكي. وإن أقوى دواء قلبي هو "الديجيتالين"، وهو مستخرج من نبات الديجيتال، بالإضافة إلى الكولشيسين والأتروبين ... إلخ.
ولقد لاحظ بعض العلماء البريطانيين أن الشعب المصري يستعمل بذور الخلة في معالجة القولنج الكلوي، فدرسوها واستخلصوا منها مادة "الخلين" Khellin، وهي اليوم تباع في الصيدليات، ولقد لوحظ أن الهنود يستعملون نباتاً خاصّْاً لمكافحة فرط التوتر الشرياني. واسم هذا النبات هو "راولفينا سربنتينا" Rawolfina Serpentina التي تباع حالياً في الصيدليات لمكافحة هذا الداء .
ولا بد لي من أن أتعرض إلى الفكرة التي تريد أن تبرهن على ضعف اللغة العربية وعجزها عن التعبير عن العلوم الحديثة. إذ راحت كبريات الجامعات في البلاد العربية تدرس العلوم باللغة الإنجليزية.
وهكذا وعندما أسست كلية الطب في حلب عام 1967، أصر مؤسسوها على أن تكون اللغة العلمية التي تدرس فيها هي الإنجليزية. ولكن تصدي الكثيرين، وأنا منهم لذلك، جعل المسؤولين يعودون إلى صوابهم فيدرسون الطب باللغة العربية، أي لغة القرآن.
إن تخلف لغة ناجمٌ عن تخلف شعوبها، وليس عن تخلفها هي، لأن اللغة هي الوعاء الذي تصبُّ فيه الأفكار، ليس أكثر ولا أقل.
لقد عمدت إسرائيل إلى إحياء اللغة العبرية وراحت تدرس كل العلوم بها. وكان علماؤها إذا ما اضطروا إلى البحث عن كلمة أو مصطلح يلجؤون إلى اللغة العربية، وذلك استناداً إلى قول ابن ميمون نفسه في هذا الصدد : >إن من يتكلم العربية بإمكانه بسهولة أن يتكلم العبرية، كذلك فإن اللغة السريانية أخت لهما<.
لقد أصبح اليوم من نافل القول بأن اللغة العربية هي حضارية، وباستطاعتها أن تعبر عن كل ما نريده. وعندما عزم المأمون على تأسيس دار الحكمة، جاء بالمترجمين لكي يترجموا الكتب اليونانية إلى العربية ولم يترك طلابه العرب يدرسون اليونانية(25).
وها هي إحدى كبريات الدول المتقدمة صناعياً في العالم (وأقصد اليابان) لم تغير شيئاً من لغتها أو من كتابتها، ولم يمنعها هذا من أن تكون دوماً وأبداً في المقدمة.
ومن التجارب الرائدة في هذا الموضوع، خلال القرن التاسع عشر ما قام به الفرنسي أنطوان كلوت بك Antoine Clot Bey إذ أسس أول مدرسة طبية حديثة في الشرق العربي في أبي زعبل إحدى ضواحي القاهرة. فلم يفرض اللغة الفرنسية على طلابه بل راح يترجم العلوم إلى العربية، وقد حدث الشيء نفسه في بيروت، حينما أسست الجامعة الأمريكية التي بدأت بتدريس الطب باللغة العربية. وكذلك فعلت الجامعة اليسوعية. ولكن ما إن أصبحت مصر ولبنان مستعمرتين حتى اختفت اللغة العربية وحلت مكانها اللغة الإنجليزية.
ويروي الطبيب أنطوان كلوت بك (1868-1797) في مذكراته التي نشرت عام 1949 في القاهرة، قصة التعليم في تلك المدرسة فيقول(26) : >كان الطب والجراحة يدرسان بشكل ممتاز تحت حكم الخلفاء العرب، ولكنهما فقدا عظمتهما، فالثورات المختلفة التي كان وطن الفراعنة مسرحاً لها، وتعاقب الفاتحين عليها، ثم هجوم الأتراك وتأسيس الامبراطورية التركية قضت على القومية المصرية. وعلى اعتبار أن العلوم والفنون تهرب من البرابرة، فقد تركت بلادها، وذهبت تحتمي في بلاد أخرى، وتشهر شعوباً جديدةً ... كان أجداد المصريين يعلمون الشعوب وكان الغرباء يسألونهم النصيحة، كما يفعل الشرقيون اليوم بالنسبة لأوروبا<.
وبعد أن يشرح كيف كوّن المدرسة وجَمَع الأساتذة يقول : >كان من السخف حتماً، أن نعلم الطب بلغة أوروبية، إن إدخال التعليم العلمي عن طريق لغة البلاد هي الطريقة التي يفرضها العقل والتجربة. وهذه هي الطريق التي اتبعتها كل الأمم التي دخلت الحضارة تدريجياً<.
ثم يضيف : >إن التعليم بلغة أجنبية يقلل من نجاحه، ولا يمكن تدجين العلوم ونشر فوائدها، ولكن من الضروري تعليم إحدى هذه اللغات للطلاب<.
وهكذا كان، إذ جمع عدداً من المترجمين فقاموا بأعمال مجيدة لا تزال باقيةً. وكان أول كتاب ترجم هو "القول الصريح في علم التشريح" للمعلم الفرنسي بايل، وكان أستاذ التشريح في جامعة باريس. أما المترجم فهو يوحنا عنحوري، وهو مسيحي سوري. وعنحور قرية صغيرة قرب بلودان.
طبع الكتاب في مطبعة بولاق عام 1832م، وهو كتاب جيد سلس العبارة، دقيق الترجمة، قلما توجد فيه كلمات أجنبية كتبت بأحرف عربية.
وكما سبق وأن قلت، فإن المدرسة أو الجامعة الفرنسية المسماة اليوم بالجامعة اليسوعية، كانت تدرس بالعربية أيضاً، كما كانت حال الجامعة أو المدرسة السورية الإنجيلية الأمريكية. ومازالت بعض الكتب موجودةً، مثل كتاب فان ديك عن الكيمياء.
إلا أن الاستعمار أدرك ما للغة من قيمة في تدعيم الشعور القومي، لذا فقد استبدل المستعمرون بالعربية الفرنسيةَ والإنجليزيةَ في الجامعات المذكورة، عندما احتلوا تلك البلاد.
يقول الفيلسوف الفرنسي غارودي في هذا الصدد : >لم تعد ثمة حاجة إلى جيوش دولية فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية لتفرض على الصين تجارة الأفيون، كما حدث في الفترة الواقعة بين 1842-1840، الآن يوجد على رأس الحكومات أولئك الذين هضموا الحضارات والقيم الأجنبية. هذه النخبة المعزولة عن بقية الشعب بسبب نمط حياتها، ولغتها، وعاداتها الهندامية، وسكنها وحاجاتها<.
وكانت النتيجة أن أسست أول مدرسة طبية عربية اللغة والأساتذة في دمشق، وكان ذلك عام 1911. وعندما دخل الجيش الفرنسي دمشق عام 1920 وفرض الفرنسيون لغتهم على البلاد، قامت الثورة السورية الكبرى، وكان من نتائجها أن اللغة العربية أخذت مكانها الذي تستحقه مكان اللغة الفرنسية. لقد ظلت المدرسة العربية الدمشقية في سوريا القلعة الوحيدة التي تقاوم كل محاولة لفرض لغة أخرى. وكما سبق وأن ذكرت، فلقد فرضت اللغة الإنجليزية على كلية الطب بحلب من قبل نخبة من الأطباء درست في إنجلترا، ولكن محاولتها فشلت.
وإذا كنا اليوم نجد توسعاً في تعليم العلوم الحديثة في البلاد العربية، فالفضل ولا شك يعود إلى أولئك الرواد الأوائل الذين قاموا بتضحيات كثيرة في سبيل توطيد أسس جدية وعلمية لتعليم العلوم الحديثة كلها بلغة القرآن.
وهكذا أثبتت التجربة السورية الرائدة أن تدريس الطب باللغة العربية أمر ناجح وليس بالصعب، وهاهم طلابنا في كل البلاد الأجنبية يتخصصون ويدرسون ويعودون مزودين بالعلوم الحديثة دون أن تكون اللغة العربية عائقاً أو حاجزاً أمامهم.
ولقد كان لي الشرف في أن أكون المترجم الوحيد ل"مجلة الطبيب"
سLa Revue du Praticienست الفرنسية منذ ظهورها عام 1980 حتى توقفها عن الصدور عام 1987 بسبب شرائها من قبل مؤسسة يهودية !؟ وكم كان الأفضل أن تشترى من قبل مؤسسة عربية ! ...
لقد كانت الترجمات تخضع أيضاً للعرقية وللكذب الاستعماري. وهاكم مثالاً وهو ليس إلا غيض من فيض.
إن كلمة "نيلوفر" هو اسم تلك الزهرة المائية الجميلة، كان يكتب بالفرنسية، على اعتبار أنها من أصل عربي بحرف الفاء F ولكن المستعمر حتى يموّه الحقيقة، ويوهم المواطن الفرنسي أن هذه الكلمة من أصل لاتيني راح يكتبها بالحرفين: ph، حدث ذلك في الثلاثينيات إبان الاستعمار الرهيب للجزائر. ودليلي أنه إذا قرأتم كتب بروست لوجدتم الكلمة هذه مكتوبة بحرف الفاء.
لقد ظلت اللغة العربية لغة العلم حتى في بدايات عصر النهضة الأوروبية. فلقد كان معظم كبار الأساتذة يعرفونها، إذ أنها كانت إحدى اللغات الكلاسيكية العلمية.
وعندما بدأت الترجمة في عصر النهضة الأوروبية، من العربية إلى اللاتينية، بقيت كلمات عربية كثيرة كما هي في اللغات الأجنبية.
وهاكم مثلاً كلمة : العرق الأسيلم Veine Salvatelle، فلقد كانت الترجمة الحرفية للكلمة العربية، ولكن خلال القرن السابع عشر راح الفرنسيون يبدلون الكلمات العربية بكلمات لاتينية أو يونانية. ومن الأخطاء المقصودة، أو الناتجة عن سوء النية، هو ما ذكره المستشرق الكبير لوسيان لوكلير : >إن مصدر الإشاعة الكاذبة المنتشرة عند المسيحيين بأن محمداً كان مصاباً بالصرع، إذ يكتب حرف الدال والضاد في بعض المخطوطات اللاتينية بشكل متشابه لدرجة أنه من الصعب تمييزها حتى على المتمرسين. ومن المعقول أن بعض المغرضين قد وقع على مقطع مشبوه، أو حتى غير مشبوه، فبدل أن يقرأ كلمة الصداع (وجع الرأس) قرأ صراع (أي الصرعة) ... والمستشرق كانيه لا يؤمن بهذا المرض أيضاً<.
ولذا نجد حتى في يومنا هذا وفي كل الكتب الفرنسية أن الرسول الكريم كان يشكو من الصرع، وأنه كان يقع على الأرض وهو يتلوى ، وعندما يصحو ينشد (كذا) القرآن ؟!..
وإذا كنا نجد في المجتمعات الإسلامية نوعاً من أنواع العرقية، فلا علاقة لها إطلاقاً بلون الجلد. فلقد كان عنترة أسود اللون، وكلنا يعلم مدى المحبة التي يتمتع بها في قلوب الناس عامة، رغم أنه كان وثنياً، لكنها ذات علاقة بالمعتقدات الأخرى.
وروي أن الرسول#قد أُنْشِدَ بيت الشعر هذا لعنترة :
وقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكـل
فتأثر الرسول#حتى دمعت عيناه فقال : >واللّه ما اشتهيت أن أرى أعرابياً قبلي إلا عنترة<.
وربما كان هذا هو السبب في قوله#: >جئت لأتمم مكارم الأخلاق<. ولم يقل جئت لأبدأ مكارم الأخلاق، لأنها كانت موجودةً، ولكنه أكملها بالإيمان ... .
ولا أعرف نبياً أو زعيماً، لا في الشرق ولا في الغرب، أكد على أهمية العلم والعلماء مثلما فعل الرسول الكريم.
ومن أحاديثه الشريفة المتعلقة بهذا الموضوع أو كما قال عليه الصلاة والسلام:>الناس عالم ومتعلم والباقي همج<، > طلب العلم فريضة على كل مسلم <، >اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد<، >فُضِّلَ مداد العلماء على دماء الشهداء<.
بل إنه عليه الصلاة والسلام، بعد انتصاره على المشركين في معركة بدر، ورغم حاجة المسلمين للمال والذخيرة والسلاح، طلب من كل مشرك متعلم أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وذلك كفدية له بدلاً من المال.
لهذا لم يتردد المسلمون في أخذ العلم عن الصينيين وعن اليونان، بل كانوا يسمون ويلقبون أبقراط وجالينوس بالفاضلين.
وكان الخلفاء يطلبون كفدية للأسرى من النصارى، المخطوطات العلمية بدل الذهب.
وعندما أسس المأمون دار الحكمة في بغداد، لم يتردد في توكيل أمرها إلى حنين بن إسحق.
ولا بد لي هنا من وقفة أشرح فيها أمراً هاماً، فلقد اعتاد بعض المغرضين الترويج عنه بأنه كان يكبّر الكلمات ويسمّك الورق وذلك طمعاً في الحصول على كمية أكبر من الذهب الذي كان الخليفة المأمون يزن به ترجماته، لا أعتقد شخصياً بهذا. فلقد ترك لنا حنين أجمل ذكرى وأفضل صورة عن العالم الشريف المثالي. ولم يكن غبياً حتى يترك للحاسدين وللحاقدين عليه، وهو الذميّ الذي تبوأ مكانةً رفيعةً، بحيث يستطيعون بهذه السهولة أن يطعنوه في ظهره(27).
ألم يستدعه المتوكل ويطلب منه أن يكتب له سمّاً لأعدائه، فرفض ودخل السجن وظل فيه فترةً من الزمن دون أن يقبل أو يرضخ ؟ حتى اقتنع الخليفة نفسه فأطلق سراحه ؟ ... .
إن الذين يقرّون هذه التفاهات لا يقلّلون سوى من قيمتهم هم أولاً، إذ أنهم يبرهنون على حقدهم على كل عربي غير مسلم، ويقللون، في الوقت نفسه، من قيمة العلم والعلماء العرب.
ولكن الحقد الأعمى، أقولها بكل أسف وأسى، يلاحق هذا الإنسان العظيم الذي تدين له الإنسانية بالكثير حتى يومنا هذا. ولا بد لي من ذكر كلمة الكندي وهو الفيلسوف العربي القح : >ينبغي لنا أن لا نستحي من إحسان الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق. وليس ينبغي بخس الحق، ولا تصغير قائله، ولا بالآتي به<. لذا فإن هذه الترهات والأكاذيب التي يروجها من يتظاهر بالأخلاق الإسلامية (وأساسها التسامح والحلم، سيد الأخلاق)، إنما، بفعله هو عدو للإسلام وللمسلمين.
وردي على الاتهام بأن عدد العرب الأقحاح كان قليلاً بالنسبة للعلماء من البلاد الإسلامية الأخرى، هو أن الامبراطورية العربية الإسلامية اتسعت بسرعة شديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى لها مثيلاً. لذلك فإن عدد العرب الأقحاح كان أقل بكثير من غير العرب. وليس من المستغرب أو المستنكر أن يتكل العرب على من ليس عربياً قحاً في العمل والإنجاز.
ويجب أن لا ننسى أن الإسلام، وإن كان هو الأساس والقاعدة، لكن ذلك لم يمنع أن يكون لغير المسلم الحق، إن أثبت كفاءة، في استلام المهام والمناصب.
ولقد لاحظت نوعاً من التزمت الفكري، والتعصب القومي، خاصةً عند الإيرانيين أيام الشاه، وعند بعض الأتراك اليوم. الشيء الذي دفع البعض إلى الاستعاضة عن الطب العربي، بالطب الإسلامي(28) فهكذا فعل مسعود بنا إذ ترجم كتاب براون (الطب العربي) بالطب الإسلامي! (طب إسلامي ـ أثر إدوارد براون ـ تهران ـ 1958). وترجم نجم الدين الأبادي كتباً تحت اسم الطب الإيراني بينما يسمي عبد الحميد العلوجي الطب الذي ظهر في العراق بالطب العراقي.
وكان الأدق والأصح، في رأيي، القول الطب في العراق، والطب في إيران. أي تحديد الطب والأطباء في منطقة جغرافية معينة، وليس إعطاؤه صبغةً قوميةً محليةً.
فإذا قبلنا هذه الفكرة، واعترفنا بهذا المبدأ، فلماذا ننكر وجود طب يهودي؟ وطب مسيحي ؟ ... إلخ.
وإذا قبلنا بأن ثمة في الصين مسلمين، وفي طاجكستان مسلمين، وفي تركستان ومنغوليا كذلك... إلخ، فهل كل ما كتبوه في لغاتهم يمكن أن يوصف على أنه جزء من الطب الإسلامي ؟.
ولقد ادعى البعض أنها مسألة ثقافة لا أكثر ولا أقل، وأنه على اعتبار أن الثقافة كانت إسلاميةً، إذن فهو طب إسلامي، كما ادعى أولمان في كتابه.
ولكن المستشرق الألماني يناقض نفسه بنفسه، إذ نجده يعود من آن إلى آخر إلى استعمال المصطلح المعروف أي الطب العربي.
يقول ماكس مايرهوف المستشرق اليهودي الألماني(29) : إن موسى بن ميمون لم يكتب ولا كلمة واحدة بالعبرية في الطب، بل إن كتاباته الدينية المكتوبة بالعبرية كان يغلب عليها الروح و الأسلوب العربيين.
حتى ولو سلّمنا أن ابن سينا كان فارسياً محضاً، إلا أن القانون كان ولا يزال مكتوباً باللغة العربية، لذا فهو جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية. فليأخذ الفرس جثة ابن سينا وليتركوا للعرب قانونه.
أعتقد أن ما نسميه اليوم بالحضارة العربية الإسلامية هو حصيلة جهود وعمل كل العرب والمسلمين في تلك الحقبة التاريخية. لذا قلنا إنه طب عربي، وذلك للشمول، وليس بسبب الشعور الشوفيني أو القومي الذي يحلو للبعض التحدث والتشدق به.
إن غالبية مؤرخي الطب يؤمنون بأنه عربي للأسباب التي ذكرناها، أمثال الدكتور بول غليونجي والناجي الماحي، وأبو شادي الروبي، وأسعد أمين خير اللّه، وألبير زكي إسكندر، وفؤاد حداد وأبوه سامي وغيرهم كثيرون.
ومن الغربيين : لوكلير، وكامبل، وبراون، وسرنيا، وتروبو، وليشتانتيلر، ونابيليك ... .
يقسم المؤرخون الغربيون تاريخ الطب العربي إلى مراحل ثلاث :
الأولى : عصر الترجمة : ويبدأ مع حنين ابن إسحق (875-809م).
الثانية : عصر الإبداع : وينتهي مع بداية المرحلة الأولى.
الثالثة : عصر الانحطاط : بعد سقوط بغداد في أيدي التتار (656هـ).
وأعتقد أن في هذا التقسيم إجحافاً، ومن وجهة نظري يمكن تقسيم تاريخ الطب العربي إلى مرحلتين :
الأولى : تاريخية، لأن أول من بدأ الترجمة هو الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (المتوفى عام 683م). وكان من أكثر رجالات قريش سخاءً وعارضةً وفصاحةً، تبرم من حياة القصور ودسائسها، وسئم الخلافة فتركها، ونذر نفسه للعلم والدراسة. كان يقول : >كنت معنياً بالكتب وما أنا من العلماء، ولا من الجهال<. وكان أول من أمر بترجمة الكتب العلمية من اليونانية والقبطية إلى العربية. وكانت مدرسة الإسكندرية لا تزال تحفل ببعض العلماء، فأمر، فجيء له بعالم مسيحي منها يسمى مارينوس، فترجم له كتباً في الكيمياء وفي الطب.
الثانية :علمية، فعندما سقطت بغداد، هرب علماؤها إلى دمشق، وبعضهم إلى القاهرة، وثمة منهم من ترك دمشق إلى القاهرة، فاستمروا في العمل والإنتاج. بل إن الذين ظلوا لم يتوقفوا كما هي حال داود بن عمر الأنطاكي (توفي 1597 أو 1569م) الذي كان أول من وصف البن وأول من استعمل الزئبق في معالجة السفلس.
ولا ننس أنه كان في الأندلس علماء كبار، وأن غرناطة لم تسقط إلا عام 1492م.
من أجل هذا كله، فإننا نعتقد أنه من الأفضل، والأقرب إلى الحقيقة والإنصاف اعتبار بداية الترجمة مع خالد بن يزيد، وانتهاء الطب العربي مع داود الأنطاكي.
وعندما بدأ صالح بن السلوم الحلبي المسيحي الذي راح يترجم عن الألمانية إلى العربية من جديد، كانت نهاية الإبداع بالنسبة للطب العربي، وبداية النهضة. وكما يقال التاريخ يعيد نفسه، ولا جديد تحت الشمس؛ أي أن الطب العربي ظل يعمل في خدمة الإنسانية حوالي عشرة قرون، وهي فترة كبيرة وطويلة. إن كل أولئك الذين يطلقون حكماً نهائياً على الطب العربي، يظلمونه، لأنه من المستحيل عملياً أن نقرر ذلك الآن، بسبب قلة الكتب المنشورة، وندرة الباحثين الجديين المختصين، وانعدام المعاهد الجديرة بالاحترام.
هذا ولا تزال رفوف المكتبات العربية والعالمية تنوء بثقل الكتب العربية المخطوطة التي لم تمسها الأيدي حتى الآن للصعوبات التي ذكرتها آنفاً.
(1) يقال إنه راقب كيفية هجوم المغول، فلاحظ أنهم يطلقون فرسانهم بالألوف على المشاة من جيش العدو، فتكون النتيجة سحق مشاة العدو سحقاً، ثم يلتفون على الفرسان الذين يكونون قد هلعوا من الخوف فيقضون عليهم بدورهم، لذلك اختار منطقة وَحْلِيةً جداً، فيها عيون ماء كثيرة >عين جالوت< فخبأ مهرة الرماة في قمم الأشجار، كما أخفى فرسانه في التلال المحيطة، وترك المشاة في مؤخرة الأرض الوحلية السميكة، وعندما أقبل فرسان المغول بخيولهم السريعة بالآلاف سقطوا في الوحل، إذ تسمرت حوافر خيولهم فيه، وصاروا يسقطون فوق بعضهم، وراح الرماة يرمونهم فقتلوا منهم العدد الكثير، ثم التفت عليهم جحافل الفرسان فكسرتهم شَرَّ كسرة.
(2) Garaudy Roger - Les promesses de lصIslam - Editions du Seuil, Paris, 1981.
(3) يعني ابتكار اليونان القدامى (الإغريق) للحضارة من لاشيء دون الأخذ من غيرهم من الشعوب.
(4) Expolangues-Brochures de LصIMA, Paris,1983.
(5) تقليداً وسخرية من القول المعروف : > أجدادنا الغاليون !<.
(6) Leclerc, Lucien, Histoire de la Médecine arabe, Tome II, pp. 57-58
(7) أنظر كتاب ويسلون في هارفارد، الجينات وتأثيرها، الصادر بالفرنسية عام 1993 عن دارأوديل جاكوب، باريس.
(8) براون ، ا.ج. ـ تاريخ الطب العربي ـ ترجمة : د. أحمد شوقي حسن ـ مراجعة : محمد عبد العظيم العقبي، وزارة التعليم العالي، مصر 1966، ص 180.
(9) داريلانو، س ـ تاريخ الطب والصيدلة وعلم الإنسان (باللغة الفرنسية)، المجلد الأول، باريس 1936، ص 511.
(10) دارنبرغ، و ـ تاريخ الطب والصيدلة عند العرب، بالفرنسية، مجلد 2 ، ص 47.
(11) باربيون، ل ـ تاريخ الطب، باريس، 1886، ص 35.
(12) Leclerc : Tome II, p. 346.
(13) Dulieu : L. :" LصArabisme Médievale à Montpellier du Xiiè au Xivè siècleس -
Cahiers de Tunisie. Premier trimestre 1955, p. 92.
(14) Walker : K. - Histoire de la Médecine.
(15) Sournia : J.C- Histoire de la Médecine et de lصArt Dentaire, Paris, 1981.
(16) Meyerhof : M - The Theologus Autodidactus of Ibn An-Nafis, Oxford , 1968.
(17). إسكندر، ألبير زكي : "كتاب الشامل في الطب" ـ بحث مقدم إلى المؤتمر الثاني للطب الإسلامي ،الكويت، 1982.
(18) فان ديك : كتاب في الجذري والحصبة للرازي ـ نشر المدرسة الإنجيلية السورية في بيروت، 1873.
(19) Fridrun Hau and Dr. Catahier - The Revue of the History of Arabic Sciences.
(20) Ullman : M. - Islamic Medecine, Edenburg, 1975, p. 40.
(21) Vesalius Andrea - Di Humani Corporis Fabrica, p. 10.
(22) Tatawi : al - Der Lungenkreislauf nach El-Korashi, Feiburg im Breimen, 1924.
(23) Ghalioungi : : Paul - La Médecine des Pharaons, Paris, Editions Laffont, 1983. p. 64.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,(24) p. 57.
(25) Daremberg : et Raoul - Livre des Noms des Organes - Paris,1875, pp. 150-151.
(26) Clot Bey, Antoine, Mémoires, le Caire, 1949.
(27) أذكر أمثلة عديدة تبرهن على أن بعض أهل الذمة أفضل من كثير من مدعي الإسلام. يكفي أن أذكر ما قام به الأساتذة بول غليونجي، وألبيرزكي إسكندر، وجورج شحادة، والدكتور سامي حمارنه، وكلهم من العلماء الكبار الذين نفخر بهم وبأخلاقهم الرفيعة وبخدماتهم الجلَّى للطب وتاريخه.
(28) Ullman : M. - Islamic Medicine, Edimburg, 1968.
(29) Meyerhpoff - Glossaire de Matière Médicale Composée par Mémonide - Le Caire, 1940, p. LIII.
http://www.isesco.org.ma/arabe/publi...0attibi/P1.php