ثقافة مجتمع وثقافة نخبة

دراسة سوسيوثقافية للواقع الثقافي العربي
١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠بقلم سماح بلعيد

إن الكتابة في قضية النخب شيء معقد، الكتابة السوسيولوجية في شأن الموضوع صعب في المعنى وصعب في التجربة، جماعة النخب التي تنتج الفكر العرفاني والرمزي في حالة كمون، في حالة انفصام جماعاتي في الخصوصية العربية ، و حتى أن ظهورها متعثر فثمة دائما هامش من واقع لا مصرح به لا مكشوف عنه، منع من صدور بيانها الخاص، يحدد فيه هؤلاء المثقفون مهامهم في البحث عن الحقيقة باستمرار أمام مرحلة التحولات السوسيوثقافية الجارية في الجزائر.
لقد قال ماكسيم روندسون " ما أسواء اللغة التي لا فعل لها سوى فعل التوابل حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فسادا". هكذا فإن حضور خطاب النخبة في حركية المجتمع الجزائري ينقصه الوضوح وعمق الرسالة ، فهوخطاب أوشبه خطاب لم يكن تعبويا ولم ينخرط البتة ضمن حركية مجتمعية كما هوالحال عند الانتلجانسيات الأوروبية التي تضافرت فيها عوامل الالتزام والتجمع والنضالية فأحدثت الثورات الكبرى، حتى قيل إن الأفكار تفتك بالمجتمع أكثر مما تفتك به الدبابة والرشاشة.
تواني النخبة المثقفة على إعداد مشروع عريض أوبيان تسلمه إلى السلطة يؤكد فيه هؤلاء المثقفون شعورهم بمسؤوليتهم كمثقفين ـ حكماء المدينة ـ من واجبهم الإدلاء بموقفهم مع أنه يجب الإشارة إلى أن دائرة التعاطي الثقافي والعرفاني ضيقة جدا بحجم الأساتذة والباحثين والأكاديميين في الجزائر، حتى قيل أن المجتمع الجزائري عاش يتيما ، عاش بدون سند معنوي عاش بدون من يفكر فيه ، بدون فاعلين ينتجون ثقافة وفكرا ولذلك فضل هذا المجتمع منذ تأسيس الحركة الوطنية في سنوات الكولونيالية إلى يومنا هذا أن ينتج ثقافته الخاصة، هي الثقافة الشعبية الخالصة وأصبحنا بذلك أمام ثقافة مجتمع وثقافة نخبة في الخصوصية الجزائرية وهذا حدث عارض يستدعي الوقوف على أبعاده ضمن سياق مصفوفة متشاكلة من أصناف المثقفين الذين يحرمون في البيت الداخلي العربي. عندما يخضع المثقف إلى خيارات في زمن اللاثقافة:
بإمكان المرء أن يلاحظ أن المثقف العربي ـالجزائري ـ نموذجا ساعيا وراء الرغيف والتوظيف كانت تحوم بشأنه خيارات ترصدها على نحوهذه المصفوفة :
المثقف المراوغ:

يغد هذا النموذج أخطر نماذج المثقفين في وطننا العربي فهوذلك المثقف الزئبقي أوالمراوغ الذي يجيد فن مسك العصا من الوسط ، يقول جلال أمين عن هؤلاء: " من أسواء من صادفت من المثقفين الذين يشاركون في الكتابة في الأمور العامة وفي التعليق على ما يجري من أحداث ، نوع يتمتع بدرجة عالية من الذكاء، كما أنهم بالغي الطموح ، يدركون بذكائهم سوء الحال وشيوع السخط ، كما يعترفون في قرارة أنفسهم بإخلاص المعارضين ورغبتهم الحقيقية في الإصلاح، ولكنهم أيضا بطبعهم قليلو الثقة بالناس وشديدوالاحتقار للجمهور وشديدوالعجلة ، بحيث ينالون ما يؤهلهم لهم ذكاؤهم من مناصب ومسؤوليات بتوظيف مناوراتهم الذكية التي تظهر تجلياتها في: البحث عن مشاجب المراهنة على عدم وجود بديل استخدام مصطلحات جديدة مراوغة عدم التسرع في الحكم قبل توفر البيانات الكافية
المثقف الترزي:

وهومثقف كل العصور يجيد حياكة ثياب النظم وتشريعاتها ويزوقها بأحدث الأزياء الراقية المتماشية مع الراهن، المثقف الترزي مثقف عصري بكل المعايير لا يؤرقه ماضيه الايديولوجي فهودائما في خدمة السيد الجديد، القابض على قيادة الأمور وشعاره في الحياة ever ready وفي هذا السياق سئل أحد الفاشيين المنظرين للفاشية، ماهي مقومات الفكر السياسي الفاشي، فتردد المثقف لبرهة ، ثم هداه ذكاؤه بألا يتورط في أي تحديد لمبادئ وأسس قابلة للتغير كل يوم، وخرج بإجابة نموذجية مفادها : إن فكر الفاشية هوما ينطق به الزعيم اليوم.".
المثقف المقاول:

مثقف مقاول الأفكار، أشبه بالمروج للرأسمالية في مجال ترويج الأفكار والمفاهيم، فهومفكر يجيد تجهيز المشاريع البحثية بالشروط المناسبة وبالعبوة الملائمة، وفي أحوال كثيرة قد يكون الوكيل المعتمد لاستيراد أنواع معينة من الحزم الفكرية والبحثية بالمواصفات المناسبة للترويج والتداول في السوق الثقافي العربي ـ المحلي ـ وهومن ناحية أخرى مثله مثل المقاول الذي يتولى تشغيل المشروعات البحثية ـ الأجنبية من ناحية التصميم والمرجعية، مقابل عمولة مالية مباشرة أوعينية (غير مباشرة) تأخذ شكل استغلال فائض القيمة الفكري للباحثين الشبان.
إن المثقفين المقاولين من هذا النوع هم على قدر كبير من الذكاء وحسن الفراسة مما يسمح لهم بترويج مشروعاتهم وبوتيكاتهم الفكرية ، هم الوسطاء والوكلاء المعتمدون بين الداخلي (المحلي) وبين الخارج (الغرب)، وهم يملكون الكثير من مفاتيح الإغراء والترغيب والإفساد ….كما أنهم مطالبون وساعون لتكوين أجيال جديدة من الباحثين ، بمواصفات جديدة تتناسب وجدول أعمال النظام الفكري العالمي الجديد، حتى وإن تناقضت مع الثوابت القومية والوطنية ، إن المنهج المفضل لدى هؤلاء المفكرين المقاولين هوتدريب الباحثين الشبان على منهج الوضعية المنطقية ، في صياغاتها المبتذلة والاستناد إلى المناهج التجريبية القائمة على البحوث والاستقصاءات الميدانية المصممة بمناهج غربية، وهكذا يتم التأسيس لجماعة من المثقفين يمثل فرعا للإستتشراق الغربي بنقوش عربية وتصل حدود إغرائهم للباحثين الشبان مداها عن طريق التلويح لهم بالمال والجاه (المنح ، السفريات، المؤتمرات، النشر….) وتزيين الأمر لهم على أنهم يمثلون التاريخ القادم بينما الآخرون يمثلون الماضي البائد والتاريخ المنصرم.
المثقف الاجتراري:

مثقف يركن إلى الكسل الفكري ويحاول اجترار النصوص والمقولات الجاهزة، تضعف لديه روح الاجتهاد والابتكار، مثقف يعيش أسيرا لصياغات وقوالب جامدة يسترجع انجازات السلف الصالح من دون تجديد أونقد أوتمحيص، إنه مثقف حياة فكرية رجعية ، يبحث عن مادتها في خزانة الفقه القديم، الحلول والمشاكل التي يفرزها الواقع المعاصر قد تحدث عنها السلف، حقا أن مأزق المثقف الاجتراري يكمن في أنه مثقف يسقط الماضي على المستقبل ويتذكر المستقبل، على حد تعبير أحد المثقفين الغربيين:
المثقف الانتحاري:

برز هذا النموذج كرد فعل على تردي الحياة الثقافية والفكرية والسياسية في الوطن العربي خلال الحقبة النفطية، هؤلاء المثقفين اتخذوا موقفا احتجاجيا حادا بالانعزال الكامل عن الحياة اليومية وعن صخب المحافل والمنتديات الفكرية وأضوائها، والانصراف إلى البحث الأصيل في إطار مشروع فكري حدد فيه المثقف لنفسه شروطه المرجعية، وقد وصل الموقف الاحتجاجي الرافض مداه لدى بعضهم بحياة انعزالية قاسية: جمال حمدان (مصر) محمد سلمان حسن(العراق) فقد مات كل منهما (شبه منتحر). وعلى الرغم من النهاية المأساوية لهؤلاء فإن موقفهم كان رد فعل على كل ما هومزيف وطارئ ودعائي ومبتذل في الحياة الثقافية فكانوا رمزا للبعد على الأضواء الباهرة التي تصنع من الأقزام عمالقة وتلف بالصمت خيرة الرجال، وسيظل أمثال هؤلاء ضميرا حيا لأمتنا لا يموت".
المثقف الكوني أوالكوكبي:

مثقف ينفي في نموذج مكلماته العرفانية الصدام مع الغرب ويؤسس مشروعه على مجالات النمووالتقدم والتحديث والعصرنة، من خلال عملية تحرر عملاقة من إشكالية الضدية بين تجربة وطنية وأخرى غربية، وهوكمثقف يدرك أن تحديث مجتمعه قد صار بحد ذاته فعل عالمي وليس مجرد فعل وطني وهوبالتالي يتصور فعاليته في إطار تحالف عالمي ـ نسبيا ـ من أجل السلام والمساواة والتعايش والعالمية، بيد أن المثقف الكوني يصطدم في حقيقة الأمر باستراتيجيات تقوم على العزل والتمييز بين الشعوب ومحاولة تسقيف سبل الارتقاء والتقدم بالتالي وجوب مراعاة الخصوصية واحترام تضاريس الوطنية للنهوض والارتقاء".
يتضح من هذه المصفوفة على اختلاف نماذجها وتنوع أنماطها أن وضعية المثقف العربي ليست خير ولا شر ، كما أنطرق استثمار مكلماته حقيقة فاترة جدا، حتى متشبثة حتى النخاع بمنظومة البؤس المؤسسي الذي يعتبر الإصابة الموضوعية في جسم المجتمع العربي، عند هذه الحقيقة حين نسأل مثقفينا ماذا غيروا؟ وماذا لم يغيروا؟ ماذا قدموا؟ وماذا أخروا؟ فإن الإجابة متعلقة غريزيا بالبيت الداخلي العربي، وفي نهاية المطاف إنها وضعية متأزمة ومأزومة داخليا، تذهب بنا إلى الأعماق النفسية والتراثية والتاريخية والعقائدية والحضارية التي تشكل فسيفساء الذات العربية" ذلك أن المثقف العربي مرغوبا فيه ما ظهر منهوما بطن"، وطالما أن المرغوب باهظ الثمن والتكاليف فإلى أي مدى تبارك نظمنا العربية التي لا زالت أسيرة لأحلامها الرمادية، هذا اللامرغوب الذي أصبح مقلقا ومكلفا جدا في مناسبات بعينها.
غني عن البيان فإن صوغ المشروع التاريخي العربي، يحتاج إلى عقل منظومي يتخطى ملاحظة الوقائع الجزئية (الجغرافيا القطرية للوطن العربي)، إلى بناء التاريخ ككلية في الوعي الثقافي ، ان المثقف الذي يحتاج أليه الزمن العربي الراهن ويتوقف تحول الاجتماع العربي على دوره ،بعد أن انصرفت مفهومات مثقف السلطة،مثقف الأمة، مثقف المجتمع و………..وكل هؤلاء مثقفون رسموا لمشروعهم الفكري طموحا هوتجسير الفجوة بين المثقفين وصانعي القرار". إننا نحتاج بعد أن ينصرف عهد هؤلاء، إلى المثقف التاريخي الذي يرتفع بالممارسة الفكرية إلى مستوى الحاجات التاريخية الكبرى، ولا يكف عن ممارسة وظيفته الشرعية (النقد البناء) لأجل تحرير العقل المنظومي من الجمود إلى التيبس، انه المثقف الذي يحترم الشرائح ـ الطبقات ـ ويحترم الشعب والوطن والأمة والإنسانية دون استعلاء علموي، أوتسيس نخبوي مأدلج…….الخ.
إنني أؤيد مقولة هيغل حين قال:" إن الأمم لا تزال بخير ام دامت هناك نخبة من الممكن أن تقول لا في مناسبات معينة ، فالنخبة صوت، والحضارة تنوبوجود فعالية صوت النخبة (حسب هيغل) وإذا انعدمت ستنتهي " ، ولهذا ترهلت الحضارة المجتمعية العربية وأصيب البيت الداخل العربي بالوهن بسبب غياب النخبة التي تقول لا.. لـ .. أوتوقف عن.. هذا.. ،وذلك لا يعني عدم وجود نخبة عربية على الإطلاق بل ثمة مثقفين كانوا بين الحين والحين يجتهدون في قراءة المجتمع قراءة داخلية.
عموما تظل علاقة المثقف بالمجتمع علاقة سوسيولوجية متشاكلة، يتعذر قيام اتجاه أحادي النظرة مطلق الهدف بشأنها، حيث تدخل سوسيولوجيا هذه العلاقة: مثقف ـ مجتمع في فرضيات واحتمالات متعددة سوف تكشف عنها تجربة المثقف في المجتمع الجزائري لأن ما نبحث عنه هوذلك المثقف الذي ينشغل بالإضافة إلى وظيفته الشرعية لإنتاج الفكر، وظيفة اجتماعية مهنية تختص بتنظيم الشؤون العامة وتقرير سياسة إحكامها، ونحن بذلك نشير الى هؤلاء المثقفون كقوى محركة ودينامية اجتماعية ، إن النخبة إذن فاعل اجتماعي عضوي ـ انتمائي في النسيج المجتمعي العام وليس مجرد منتجة للفكر".
المراجع:

محمود عبد الفضيل " المثقف العربي سعيا وراء الرزق والجاه" أحمد صدقي الدجاني ومحمد عابد الجابري - واخرون، المثقاف العربي همومه وعطاؤه ، بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ، ط 1 ، 1995 ، ص ص 126ـ128
بتصرف كبير ، محمود عبد الفضيل، " المثقف العربي سعيا وراء الرزق والجاه ،مرجع سابق ، ص ص 128ـ129،
مأخوذة بتصرف كبير، محمود عبد الفضيل ، " المثقف العربي سعيا زراء الرزق والجاه، المرجع نفسه، ص 132
انظر سعد الدين ابراهيم، تجسير الفجوة بين المفكرين وصانعي القرارات في الوطن العربي" المستقبل العربي، العدد 64 جون 1984، مرجع سابق، ص 122
ولمزيد من الاطلاع على الدور الاجتماعي والسياسي الجديد للمفكر العربي، يمكن العودة الى مقال عبد الإله بلقيز" عطاء المثقف العربي في التوجيه الاجتماعي والسياسي" أحمد الصدقي الدجاني واخرون مرجع المثقف همومه وعطاؤه " بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية، ص 223
محاورة الروائي الموريطاني، موسى ولد أببو، لسنا بحاجة لسحرية أمريكا اللاتينية وفي عالمنا العربي لا وجود لسلطة النخبة" صحيفة الاحرار، السنة العاشرة، العدد 2872 ، 02أوت 2007 ،ص 14
ماخوذة بتصرف عن برهان غليون " تهميش المثقفين ومسألة النخبة القيادية، أحمد صدقي الدجاني وآخرون، المثقف العربي وهمومه وعطاؤه، مرجع سابق ، ص ص 85ـ86


http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23803