السلام عليكم


التراث العلمي العربي.. إعادة توظيفه ضرورة

خالد عزب**





هل يمكن لأمة أن يكون لها موطئ قدم بين مختلف الحضارات الإنسانية دون أن يكون لديها وعي كامل بتراثها، إن ما حدث لتراثنا هو تغييب كامل لتراث العلوم التطبيقية، في مواجهة العلوم الإنسانية، منطلقه من عدم إدراك للدور الحقيقي لهذه العلوم في تقدم البشرية، وعدم توفر باحثين عليه ومؤسسات ترعاهم.

لكن يبرز هنا سؤال حول جدوى إحياء التراث العلمي العربي؟

إن الجدوى من إحيائه تتمثل في:

- إثبات الدور العربي في تقدم الحضارة الإنسانية، وأن الدين الإسلامي في صورته الصحيحة لم يكن عائقا أمام التقدم العلمي.

- بث روح حب العلم في نفوس الأطفال من خلال التربية المتحفية ومقاومة الانهزام النفسي أمام التقدم التقني القادم سواء من الغرب أو الشرق.

- إعادة توظيف تقنيات هذا التراث بصورة ملائمة لعصرنا، وأقرب مثال لذلك هو توظيف الأعشاب الطبية التي استخدمها الأطباء العرب بصورة ناجحة في علاج العديد من الأمراض.

أمثلة واقعية

هناك العديد من الوسائل لتحقيق ذلك، منها إقامة مراكز ومعاهد بحثية متخصصة في هذا المجال، ولدينا في هذا السياق مؤسستان:

أولاهما معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب: يعد هذا المعهد أنجح هذه المؤسسات، فهو معهد دراسات عليا يستقبل باحثين من مختلف التخصصات، ليدرسوا -كل في تخصصه سواء الميكانيكا أو الطب أو الهيدرولوجيا أو الزراعة- أصول هذه العلوم وتطورها في التراث العربي، والمعهد لديه مكتبة ومتحف وأنشطة مؤتمرات وندوات دولية. رغم نجاح المعهد النسبي في إثارة الاهتمام بتراث العلم، فإنه مؤسسة مكبلة بقيود تبعيته لجامعة حلب وميزانيتها، لذا فإن أولى الخطوات التي يجب أخذها بعين الاعتبار إن أردنا إطلاق هذا المعهد، هو تحويله إلى مؤسسة تابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واعتباره معهدا عربيا إقليميا للعرب، خاصة أن المعهد بتجربته الممتدة من العام 1976 إلى الآن قد كفلت له كوادر في كافة التخصصات. واكتسب احتراما دوليا سواء من اليونسكو أو من الجمعية الدولية لتاريخ العلوم.

أما المؤسسة الأخرى فهي مركز إحياء التراث العلمي في جامعة بغداد: تأسس عام 1977، وعلى الرغم من امتداد نشاطات المركز حتى عام 1990 وما تميزت به من الحيوية والتدفق، فإنه أصيب بنكسة وتحول إلى مجرد مركز محلي منذ هذا العام.

وللمركز مطبوعات نخشى أن يكون جلها فقد خلال الحرب الأخيرة، والتي صاحبها تدمير العديد من المؤسسات العراقية، ونظرة على مؤتمرات وأنشطة المركز توحي لنا بمدى جدية القائمين عليه، ومنها ندوة تصنيف العلوم عند العرب، وسلسلة من الندوات عن الأعشاب والنباتات الطبية، وندوة عن الصناعة في التراث. وللمعهد اهتمام خاص بدورات التعليم المستمر، منها دورة أقيمت للمعالجات البيئية لتصميم المباني عند العرب، وأخرى عن الفيزياء عند العرب.

إثارة الاهتمام بالتراث

بالرغم من النشاط السوري العراقي في هذا المجال فإن التراث العلمي في مصر لم يلق اهتماما كافيا، على الرغم من أن أولى محاولات الاهتمام بهذا التراث بدأت في مصر على يد العديد من أساتذة جامعة القاهرة، خاصة في كليات الهندسة والطب والعلوم، كلنا يذكر رواد مصريين في هذا المجال منهم دكتور عبد الحليم منتصر، وأبو شادي الروبي، وشوقي جلال، وأحمد فؤاد باشا، وعند تأسيس مركز إحياء التراث العلمي في جامعة القاهرة جاء نشاطه محدودا نادرا، لأسباب ما زالت غير معلومة.

أما الوسيلة الأخرى لإثارة الاهتمام، فهي إقرار مادة تاريخ العلوم كجزء من دراسة التاريخ في صورته المتكاملة في المدارس العربية، فما زلنا إلى الآن نعتبر أن تاريخنا هو التاريخ السياسي فنختزل به حضارتنا وما بها من تقدم في صور الصراع السياسي العربي أو في فترات الحروب، ويتحول التحدي التاريخي في نفوس أطفالنا؛ وبالتالي في نفوسنا نحن أيضا إلى تحد سياسي فقط في وقت نجابه فيه تحديات تقنية رهيبة متسارعة الخطوات، علينا أن نؤهل أطفالنا لها، مؤكدين لهم أننا جزء من تاريخ هذا التطور.

ولعل الشق المهم في هذا المجال هو الشق التربوي الذي يتم من خلال ممارسة الأطفال للتجارب العلمية التي أجراها القدماء ليتوصلوا إلى مختلف المعارف، وأحدث تجربة عربية في هذا المجال هي تجربة مكتبة الإسكندرية، التي أقامت مركزا علميا متكاملا، يضم قبة سماوية تعرض أفلاما علمية تشرح علم الفلك والأجرام السماوية وتكوين الأرض وجسم الإنسان... إلخ، ومتحفا لتاريخ العلوم يحكي قصتها وتطورها منذ العصر الفرعوني مرورا بمرحلة ازدهار العلم في مكتبة الإسكندرية إلى العصر الإسلامي ومبتكرات المسلمين إلى عصر النهضة الأوروبية، لكن أهم وحدات هذا المركز هي قاعة الاستكشاف، وهي قاعة بها تجارب علمية يمارسها الأطفال بأنفسهم خاصة في مجالات الفيزياء والفلك، فيستطيع الطفل إجراء تجارب على الجاذبية، وقياسات الألوان والمغناطيسية والميكانيكا. يوجد بالقاعة نماذج من الأدوات الفلكية الإسلامية من إسطرلابات وكرات سماوية ومزاول... إلخ، وقد ألحق بالقاعة ورش عملية للأطفال.

هذه المنظومة المتكاملة أتاحت لأطفال الإسكندرية ترددا مستمرا عليها، ورغبة في المزيد من المعرفة؛ لأنه لأول مرة نرى تطبيق تعليم العلوم والرياضيات بطريقة ممتعة تجمع بين التراث والمعاصرة في وقت واحد.

إن هذا يقودنا إلى أهمية إنشاء سلسلة من متاحف تاريخ العلوم التي لا تأخذ حيزا مناسبا في وطننا العربي، فهي قليلة جدا، ولا يوجد منها نماذج إلا في الشارقة ودمشق والإسكندرية، هذه المتاحف يجب كما أوضحنا سابقا أن تحمل طابعا تربويا لتنشيط اهتمام الأطفال بالعلوم. كما أنه من المفيد إقامة اتحاد لها لتبادل الخبرات.

في ضوء كل ما سبق عرضه، فإن العرض النظري لمشكلة أو قضية لا يمكن أن يتكامل دون البحث عن تمويل لحلول هذه المشكلة. والاعتماد على مصادر التمويل الحكومي غير ذي جدوى، في زمن ترهق به الحكومات بأزمات اقتصادية وأولويات ليس من بينها تشكيل جيل يحمل في داخله عمق التراث كجزء من مكونات الشخصية العربية الأصيلة، والطموح نحو المستقبل كجزء من قبول التحدي المعاصر لوجودنا كعرب في المنظومة الدولية المعاصرة؛ لذا يجب إنشاء صندوق لرعاية التراث العلمي العربي يتبع إحدى منظمتين (الإلسكو أو الإيسيسكو). ومصادر تمويل هذا الصندوق قد تكون متعددة لعل منها الهبات والتبرعات، وطباعة الـPost Card لتمويل الصندوق، ولا بد من إنتاج أفلام تسجيلية عن هذا التراث وتسويقها لمحطات التلفاز... إلخ.