الاجتهاد والتنظير

هما منطقان متباينان بل متناقضان

الاجتهاد في الاسلام يعني استنباط الحكم في جزئيات بناء على مرجعية الشرع وهي مرجعية كلية شمولية مسلم بها لدى المجتهد، وبديهي أن الحكم استنادا عليها لا يمكن أن يخرج عنها وإن تغير من شخص إلى آخر أو لذات الشخص فإنه لا يكون لتغير تلك المرجعية بل لاختلاف فهمها أو تغير الواقع وملابساته . فالمرجعية ثابتة وهي تقرر الحكم الجزئي.

ولدى استعمال هذه الكلمة في أي باب معرفي أو عملي آخر يتسم بهذا المنطق، لا بد من استحضار مرجعية مسلم بها للمجال الذي يدور في جزئياته الاجتهاد.

التنظير في الأنظمة الوضعية يعني تحديد غاية مسبقة في مجال ما ترمي إلى تصويب أو تخطيء هدف ما لغاية أو أخرى ثم استعمال المعارف المتيسرة استعمالا انتقائيا لإثبات الصواب أو الخطأ المطلوبين لتحقيق تلك الغاية. فالغاية المقررة ابتداء لهدف أو آخر تقرر المرجعية المطلوبة، وبعبارة أخرى فعندما تكون الغايات متغيرة ونريد أن نصفها بأنها ثوابت فإن ذلك يقتضي تغيير المرجعيات.

فواقع الحال أن الغاية هي الثابت والمرجعية الخادمة لتلك الغاية هي المتغير

وصفات كل من المرجعيتين تنبع من طبيعتها ومهمتها. فمرجعية المجتهد واضحة بسيطة مباشرة إلى حد كبير، لاتساق وصفها مع واقعها وعدم وجود ما تخفيه أو تعتم عليه بهذا الصدد، ومرجعية المنظر مغلفة بتعابير والتواءات غرضهما التغمية على تناقض أدعاء أنها متبوعة مع واقع أنها تابعة.

في تمثيل مادي عندما يقتضي أمر ما أن يكون ارتفاع الجسم عن سطح الأرض مترا فإن الحكم على حال ذلك الجسم من الارتفاع يكون بالنسبة لسطح الأرض. فنقول الجسم في حالة ما في وضع جيد إذا كان قريبا من هذا الارتفاع وفي وضع سيء إذا ابتعد عن ذلك الارتفاع.

ولكن عندما يريد شخص أن يضع تعريفا لحالة هذا الجسم بحيث يتحكم هو به وبها فإنه يقول إن ارتفاع ذلك الجسم عن مرجعية السطح هو متر . أي سطح ؟
لمعرفة الجواب نتصور صفيحة من الحديد تمثل المرجعية مرتبطة بخيط موصول بذلك الشيء بحيث إذا ارتفع الجسم ارتفعت معه مرجعيته، وإذا انخفض الجسم انخفضت تلك المرجعية- ولو ملكت تلك المرجعية إحساسا ونطقا لشكت من إعيائها لتعدد نغير ثبوتها - ، ولكن من أسمى الصفيحة التابعة للجسم مرجعية يقول هذا الجسم ثابت بدلالة ثبوت بعده عن المرجعية. وهو يعطي الحرية لأي كان ليقيس المسافة بين الجسم والصفيحة بل ويسعده أن يقال بأن الجسم قد ارتفع أو انخفض عن الصفيحة بضعة ملميترات، ففي هذا النقد الجزئي تثيبيت لدعوى صحة المرجعية.
ولكنه أي صاحب المرجعية التابعة للجسم لا يسمح بالنظرة الشاملة التي تكشف أن المرجعية في الحقيقة متغير وأن الثابت هو الجسم.

أنظر في كل الدعاوى من كافة الأشكال والألوان والتي يتغير حكمها على ذات الشيء من النقيض إلى النقيض مع القول في النقيضين بأن الموقف يستند إلى الثوابت ذاتها. أجل هي ذات الصفيحة المسماة ثابتا.

إن الثبات الحقيقي للمرجعية لا يعني صحتها بل يعني احترام عقل المخاطَب أما صحة المرجعية وعدمه فيلتمس في ذات المرجعية.

وشتان بين تحريك المرجعية وزعم ثبوتها لغرض ما مقرر سلفا. وبين التوقف والقول هذه المرجعية خطأ ولا بد لنا من البحث عن المرجعية الصحيحة ثم الحكم على الأشياء بموجبها.

وأذكر مثال ذلك ما رأيته بنفسي من قيام تربوي فاضل بكتابة مقال لنشره في الجريدة بناء على تعليمات وصلته لتسويق فكرة شهادة الدراسة المتوسطة بتعداد حسناتها، وفي العام التالي رأيت ذلك التربوي الفاضل ذاته يعد مقالا آخر بناء على تعليمات وصلته لتسويق فكرة إلغاء شهادة الدراسة المتوسطة بتعداد مساوئها.

هل لما تقدم علاقة بالعروض ؟

أجل كبيرة ، وليست العلاقة قائمة بالعروض وحده بل بالتوجه العام في كل أمر وهذا جانب من أهمية شمولية النظرة التي نكتسبها بالممارسة في العروض الرقمي.

أنظر إلى كافة المواقف في الأمور كلها فإن رأيت الموقف لا يتغير عبر السنين بل وربما القرون فاعلم أن مرجعية ذلك الموقف ثابتة.

وإن رأيت الموقف لجهة واحدة في الأمر ذاته تنتقل من النقيض إلى النقيض – وغالبا ما يتم ذلك بسرعة - فاعلم أن ذلك راجع إلى أن الغايات تقرر مسبقا ثم تلتمس لها أو توضع لها المرجعيات التي تبررها، ويجري اختيار مرجعية جديدة كلما تغير الهدف والقول بأن التغيير ملتزم مع الثوابت . ( وهذا صحيح فالثوابت متحركة والالتزام متجدد بكل منها ) وفي كلمة ثوابت ذلتها ما يكشف طبيعتها المتغيرة من حيث لم يقصد من يستعملها فله في كل يوم ثابت .


فيما يخص العروض صاحبتني هذه الخواطر أثناء قراءتي لهذا الرابط:


وتداعياته في قول من قال إن عروض الخليل لا يغطي قصيدة النثر فهو قاصر. وما جرى هذا المجرى. ,اتمنى استحضار هذه الخواطر أثناء قراءة هذا الموضوع على الأقل.