حول قضية:
"الشعر العربي ظاهرة عروضية"
حمادي الموقت
لاجرم أن الشعر العربي المعاصر، شعر ينزاح في معناه ومبناه عن معنى ومبنى الشعر العربي التراثي القديم، كزخم معرفي واجتماعي توارثته الأجيال القارئة والمتتبعة لحركات التطور الشعري.
إلا أن الذي ينبغي التنبيه إليه، هو أن الشعر الحديث شعر تنازعته رؤى شعرية؛ تََشَخْصَنت في أساسها ومنطلقاتها من مفهوم الحرية ومواكبة متطلبات العصر.
ومن هذا المنطلق، فإن القول بأن "الشعر العربي ظاهرة عروضية" الذي تبنته نازك الملائكة ، لم يسلم من ردود أفعال متباينة بين التأييد والرفض والتصويب. لكن؟؟ من قال بأن الشعر التقليدي ليس عروضيا، أو ليس من أولوياته نظام العروض؟
في الحقيقة أن حرص الفحول على العروض والانقياد لنظام البحر والقافية والروي الموحد أبلغ من انقيادهم للأطلال والديار والخمرة. فلو كانت الأخيرات ضرورةٌ، بها يُخلق الشعر ويكون، لمَا تبناها القلائل منهم وميزت أبعاض شعرهم. وآيتي في ذلك قول امرئ القيس في صدر معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل == بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إذ بتتبعك لمعنى البيت ستلفيه ينتهي بانتهاء دفقته الشعورية عند قوله:"بسقط اللوى"، وأن عبارة " بين الدخول فحومل" ما هي إلا إطناب وتطويل وحشو غايته إتمام الوزن الذي فرضته عليه سلطة البحر، إذ لا تضيف شيئا إلى تحديد المكان .
ومن ثمّ؛ فالعروض إن كان هو الماء الذي يلين عجين الشعر، فهذا لايعني أنه الشعرُ نفسُه. أو أن انتفاءه من بعض القصائد و تصرف الشعراء في قواعده وتفعيلات بحوره يشكل أمرا جللا. فبقدر أهمية العروض، تطفو على السطح فضلته، خاصة إذا وُضع مع المشاعر وهموم الإنسان في كفة واحدة. إذ لا أعتقد أن أحدا سيقدم الشكل على المضمون، أو الكم على الكيف.
وإن كان المعيار هو الإيقاع والموسيقى فقصيدة النثر بدورها لاتخلو من إيقاعها الخاص، وتتحراه في ذلك الأذن الموسيقية، بل والدفقة الشعورية التي يكتب بها الشاعر وصاحب القصيدة. "فضلا عن أن الأذن العربية ترتاح لأن الموسيقى هي قوام كل شعر" حسب نازك الملائكة . وقولها هذا من شأنه أن يطرح عدة إشكالات تكرس نظرية الثورة العروضية بما أن الشاعرة كانت تعتمد على حسها الشعري وذوقها في تمييز جودة الشعر وتصنيفه...
ماذا لوكان الشعر الحر شعر يجمع بين كل التشكيلات الإيقاعية للشعر العمودي كالتام والمجزوء ، والمشطور والمنهوك ... في الآن ذاته وفي القصيدة الواحدة، بينما النظام العمودي يميز ويفصل ويشدد على الاتباع وعدم الابتداع . فما وجه التحرر إن كان الشعر الحر شعرا يقوم على ما قام عليه الشعر التراثي القديم من قواعد عروضية ؟؟؟ مع علمي بأن التحرر هو العدول والانزياح التام عما هو قائم أو كان قائما؟؟؟ وبالمعنى هذا، وجب القول إن الشعر الحر شعر ثوري مجدد لا حر... فنازك إن منحت لنفسها حق التغير في عروض الشعر العربي بدافع الحرية وسياط التحرر، أفتمنعه –ولو بشكل يسير- على غيرها ، فقط لأن أذنها الموسيقية لاتأذن لها بذلك ، ولاتستسيغ هذا الإيقاع الموسيقي أو ذاك؟؟؟ ألا تنتهي الحرية عند بداية حرية الآخرين؟؟؟فإن كانت أذنها لاتستسيغ نموذجا من مثل:
لكنهم متيقنون بأنهم صرعى حميّا ==== متفاعلاتن
وعزاؤهم أن الحياة تقول للأبطال هيّا ==== متفاعلاتن
منا الصدى مني ==== فعلن
من مقلتي وفمي ==== فعلن
فأحسه نارا ووعدا وارتقابا للغد ==== متفاعلن
لجورج غانم من البحر الكامل، بدعوى أنه منظوم على أربع تشكيلات، فأذني وأذن الآخر تستسيغه وتقبله؟؟؟
إن افتخار وتباهي نازك الملائكة بأن لها أذن موسيقية مدربة ، لايخول لها إقصاء كل ذوق يخالف ما تتذوقه أذنها.
تقول نازك :"إن الفارق الأول بين الشعر الحر والشعر العمودي هو القافية" وحين نتأمل في معنى القول يتبين لنا أنها تؤكد على أن أشطر الشعر الحر وسطوره تتمسك بالقافية لأنه شعر ذو شطر واحد، وهذا يبدو أنه تبرير غير موضوعي وغير معتبر، إذا ما علمنا أن الشعر الحر عند نازك نفسها يقوم على تكسير نظام القافية ويؤمن بتعددها؟؟؟؟
وإذا كانت نازك تعترف وتصرح بأن الشعر الحر ظاهرة عروضية وأنه شعر تفعيلة ، فأين موقع البند والموشح من حرية نازك وثورة شعرها؟؟؟ علما بأن الأخيرين يعتبران البدايات الأولى للشعر الحر حسب منطق نازك نفسها. كونهما كسرا نظام الشطرين (البند مثلا) ومن ثَم اعتماده التفعيلة بل تفعيلات بحرين اثنين في قصيدة واحدة، وإن كان الموشح شعرا شطريا فإنه زاوج بين الأشطر الطويلة والأشطر القصيرة بحسب ما أملته عليه ظروف عصره وتحولاته، وبالتالي غير من عدد التفعيلات فيها، إن لم أقل من تفعيلات البحور.
فكيف لنازك أن تشترط شروطا لنظم الشعر وتدعو لاتباعها، وهي التي تدعي أنها ثارت وكسرت قواعد الشطرين؟؟؟ كيف يحق لها ذلك ولايحق لي؟؟ ما المانع أن أكتب شعر حرا بتفعيلات متنوعة ومتعدد من بحور الخليل الستة عشر؟؟؟




موقع المجمع العربي الدولي لاصدقاء اللغة العربية