رحيل الكاتب والأديب والصحفي المبدع عبد الوهاب ألنعيمي 1944-2009



أ.د إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل

علمت قبل قليل (مساء اليوم العاشر من أيار 2009 ) بخبر رحيل الكاتب والأديب والصحفي المبدع الأستاذ عبد الوهاب ألنعيمي، وعبد الوهاب ألنعيمي من الصحفيين العراقيين القلائل الذين تربوا في رحاب صاحبة الجلالة واستطاعوا أن يعطوا الحرف قيمته والكلمة قدسيتها والمهنة شرفها.. وعبد الوهاب عبد الله محمد خضر ألنعيمي واحدا من هؤلاء الذين أدركوا حقيقة الحرفة المقدسة فأتقنوا صنعتها وعرفوا إسرارها . وكان يعجبني في ألنعيمي انه ، كصحفي لايلزم نفسه بكتابة سطر واحد الآ إذا شعر بقيمة مايريد أن يكتبه ..فهدفه ليس تسويد صفحات وحسب بل نقل رسالة ، وتبليغ دعوة.
والنعيمي على هذا الصعيد لم يكن صحفيا هاوياً ، بل صحفيا محترفاً ،درس الصحافة في المعهد القومي لاتحاد الصحفيين العرب في القاهرة سنة 1973 ، وحصل على الدبلوم في الصحافة وقد تيسرت له هذه الفرصة من خلال زمالة خصصها له الاتحاد العام للصحفيين والعرب في القاهرة بالتعاون مع نقابة الصحفيين العراقيين ، كما تواصل في مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة والإعلام في جامعة عين شمس قسم الدراسات المفتوحة .
ولد النعيمي في محلة الجامع الكبير بالموصل سنة 1944 ، وقد دخل الصحافة من باب الإبداع القصصي..ففي مرحلة مبكرة من سن الشباب بدأ عبد الوهاب ألنعيمي رحلته في عالم الصحافة ، حيث امتهن الصحافة واتخذها حرفة أساسية لمسيرته العملية في العشرين من كانون الأول عام 1964 وهو اليوم الذي انتمى فيه إلى نقابة الصحفيين العراقيين وحمل هويتها،وكان قبل ذاك قد ابتدأ المشوار كاتباً في الصحافة الموصلية ،حيث نشرت له جريدة فتى العراق أولى مقالاته بعددها الصادر في 15 شباط 1962 ، ثم تتابعت كتاباته في الجريدة نفسها وفي بقيه الصحف الأسبوعية الموصلية ، حتى كلف بالعمل في (جريدة الأديب) الأسبوعية الموصلية التي كان يصدرها المحامي الكاتب المرحوم محي الدين أبو الخطاب، فشغل موقع مدير تحرير الجريدة في عام 1964 واستمر في عمله فيها حتى صدور قانون المؤسسة العامة للصحافة في أواخر عام 1967 حيث التحق محرراً في جريدة (الثورة) إحدى صحف المؤسسة العامة الأربع ((المواطن والشعب والجمهورية والثورة)) نسب في نيسان عام 1968 إلى ديوان المؤسسة مع نخبة من الصحفيين العاملين في صحف المؤسسة لتأسيس مجلة (ألف باء) التي رأس تحريرها المحامي المعروف الكاتب غربي الحاج احمد وكان بذلك احد الأشخاص السبعة المؤسسين لمجلة العراق الأولى (ألف باء) عاد بعد تثبيت مسيرتها وثبات إصدارها إلى الجريدة اليومية التي يعمل فيها ليتواصل في مسيرته المهنية متنقلاً مابين الصحافة اليومية والأسبوعية ومابين أروقة الإذاعة حيث كان يكتب التعليقات القصيرة على الأحداث ضمن برامج إذاعة صوت الجماهير السياسية ويعد برنامجه الثقافي ((منتدى الفكر)) لإذاعة بغداد والذي يقدم على مدى ساعة كاملة قبيل منتصف الليل أسبوعيا لاستضافة احد أعلام الفكر الثقافي او الاقتصادي او التجاري أو السياسي . وقد حقق البرنامج شهرة واسعة خلال حقبة النصف الأول من عقد السبعينات
خلال عمله في الصحافة مارس مهنة التعليم على مدى أكثر من ثلاث سنوات حيث عين معلما لمادة التربية الوطنية في إحدى المدارس المسائية في العاصمة بغداد ، وبعد انتقاله إلى مدينته ( الموصل ) عمل معلما في مراكز محو الأمية المسائية إلى جانب مسؤوليته الصحفية كمدير لتحرير مجلة التجارة التي أصدرتها غرفة تجارة الموصل ، والتي أسهمت بدور فاعل في تنشيط الحركة الثقافية في مدينة الموصل من خلال صفحاتها التي افردها ( ألنعيمي ) لكتاب أكاديميين من أساتذة جامعة الموصل وأدباء وفنانين من أبناء المدينة .
عاد بعدها إلى مجلة (ألف باء) التي شارك بوضع لبنات تأسيسها في عقد الستينات ليعمل محرراً فيها في منتصف عقد التسعينات حتى التاسع من نيسان عام 2003، وخلال فترة عمله في " ألف باء " لم ينقطع تواصله مع الصحافة اليومية حيث أسهم مع نخبة من الكتاب العراقيين بالمناوبة بكتابة العمود اليومي على الصفحة الأخيرة من جريدة الجمهورية اليومية في بغداد بعنوان "مدارات " ، الى جانب قيامه بكتابة الدراسات السياسية على الصفحة الثالثة في الجريدة نفسها وكتابة المقالات الادبية والنقدية للصفحة الثقافية في جريدة الجمهورية وعدد من اليوميات العراقية والعربية ، و قد حظيت كتاباته وتوجهاته الفكرية بقبول واسع من لدن الاوساط الادبية والصحفية على مدى عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم .وكما هو معروف فأن النعيمي قبل وفاته بقليل كان يعمل في صحيفة الصباح الجديد الغدادية الغراء وكانت ةدراساته ومقالاته وتحقيقاته محط انظار القراء لما كانت تتمتع به من مصداقية وقيمة صحفية كبيرة .

كتب عنه سعدالدين خضر في مجلة عمان الثقاقية بعددها ((81)) الصادر في اذار 2002 :" لقد تمرس النعيمي في ثكنة الثقافة وتحصن بقلاعها الراسخة والمشيدة أبراجها من صحف وبرامج ومنافذ من اثير وقنوات من فضاء مرئي مسموع..وتدبر مفاتيح العمل الصحفي تدبيرا ساحرا وامتلك مقدرة فذة في تحريك الخزين المطبعي الذي تعامل به ومعه عدد من مبدعي المدينة في أطوار مبكرة، اقتنصها النعيمي بذكاء وحدة وقسوة بينما افلتت من كثيرين غيره!!.. يهندس كتاباته كما يهندس علاقاته بحذر وصراحة، لم يركب الموجات التي اجتاحت عالم الثقافة بمختلف اجناسها وان كان قد واكبها، واذ نقلب صفحات اعماله، قصة ورواية ومقالا وتحقيقاً، لانلمح فيها سمات الكاتب القاموسي الحذر حد التعقيد، انه على العكس سهل سلس، متدفق افكاراً وعبارات، راقبته مرة في مكتبه يكتب عموداً ليومية بغدادية، أعاد صياغته وكرر اختيار عباراته حتى جاءت معبرة عما أراد، لم يقبل من الاخرين – مداخلة او تدخلآ في انتقاء مفرداته، انه حتى في هذا الطقس الكتابي يعكس صرامة وقسوة في حصر الافصاح عن افكاره بنفسه.. وفي هذا السياق أرى ان أشير الى ان رئيس تحرير أي مطبوع كتب فيه النعيمي لم يحذف او يضيف او يغير فقرة على كتاباته ، وهذا ماتأكد لي من اطلاعي على كتاباته في مجلة (عمان الثقافية _ ومجلة الف باء البغدادية ) ولاتختلف إسهاماته في الصحف الأخرى عن ذلك.
وكتب عنه الباحث الاكاديمي الدكتور عبد الستار عبد الله البدراني أستاذ النقد الأدبي في كلية التربية جامعة الموصل مقالا نقديا مطولا في مجلة عمان بعددها 156 الصادر في شهر حزيران عام 2008 بعنوان : " جمالية الفاتحة النصية- مقاربة في خطاب عبدالوهاب النعيمي الحكائي" قال فيه:" عبد الوهاب ألنعيمي ثقافة مركبة تخفي بالمتعدد، فقد كتب في "الموروث الشعبي ونقب في العمارة الإسلامية، اجتاز بوابات مغلقة ليقف في مدن التاريخ القديم منقبا عن حضارة الأشوريين في آثار نينوى والنمرود، ويكشف عن جوهر الحضارة الاسلامية في رحاب مدينته القديمة ((الموصل)) باحثا ومورخاً وكاتباً لامس ضفاف العصر بكتاباته الصحفية وبرز في اعمال ابداعية متعددة في مجال القصة والرواية.. وكان النعيمي كيانا تجريبيا يتخلق في خفايا الوجع اينما وجدت في أعماق الذاكرة، وفي متاهات الحياة يصورها قصة قصيرة او رواية او يجسدها عموداً صحفياً..".
انعكس حسه الادبي المرهف ، على مقالاته التي اتسمت كتابتها بلغة أدبية رشيقة ، لعل من ابرز مظاهرها: ( الإيجاز ) و ( الدقة ) والابتعاد عن ( النبرة الإنشائية ) والحرص على تزويد القارئ بما هو متوفر لدى الكاتب من معرفة علمية وحقائق انسانية .
لم يحصر النعيمي نفسه في (ازقة الموصل الأدبية الضيقة ) بل انطلق نحو روافد واسعة تصب في نهر الثقافة العربية، فله كتابات في صحف ومجلات علمية وأدبية ذائعة الصيت منها مجلتي (الآداب والأديب) البيروتيتان كما كتب في مجلة عمان والمجلة الثقافية الأردنيتان، وتدل المعلومات التي تيسرت لنا من خلال متابعة كتاباته انه قد كتب في اكثر من 20 مجلة موصلية وعراقية وعربية، وقد توزعت كتاباته في محاور عديدة يتصل معظمها بمجال الثقافة العربية والإبداع العراقي عامة والموصلي خاصة.
شغل ألنعيمي عبر سني حياته الحافلة مواقع مهمة في المؤسسات الصحفية العراقية اذا عمل محررا ومحررا اول ورئيس محررين ورئيس قسم وسكرتير تحرير ومدير تحرير، وعضو هيئة تحرير ومستشار تحرير في العديد من الصحف والمجلات، ومن المؤسسات التي عمل فيها ( جريدة الثورة، جريدة الجمهورية، جريدة الراصد، جريدة الأديب، جريدة التعاون، ومجلات وعي العمال وتجارة الموصل ومجلة الشعب والإذاعة والتلفزيون والعمل الشعبي وفنون وغيرها من المطبوعات اليومية والأسبوعية،
ومع انه كان لايميل الى الجوائز والمسابقات ويحرص على الابتعاد عنها إلا انه نال أبرزها ( شهادة الصحفيين الرواد التي منحته إياها نقابة الصحفيين العراقيين لبلوغ خدمته الصحفية اكثر من 30 سنة في شهر حزيران 1998، كما حصل على درع الإبداع من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في نينوى، وحصل على شهادة تكريم " الإعلام والعلماء " من الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب لتميزه في الكتابات الإبداعية وحصل على عدة شهادات تقديرية من لدن عدد من المحافظين في نينوى وعدد من رؤساء جامعة الموصل، كما حصل على شهادات تقديرية وشهادات مشاركة من مركز الدراسات الإقليمية ومركز دراسات الموصل وكلية الآداب في جامعة الموصل وحصل على شهادة تقدير وتميز لمشاركته الفاعلة في أعمال المنتدى الفكري العربي الأول حول المواصفات العالمية للجامعات الذي أقيم بإشراف من لدن المنظمة العربية للتنمية الإدارية في جامعة الدول العربية، وحصل على شهادة تقديرية لمشاركته المتميزة في أعمال المؤتمر العلمي الثالث الذي إقامته كلية الحدباء الجامعة بالتعاون مع اتحاد مجالس البحث العلمي العربية ومعهد الدراسات العليا للحاسوب والمعلومات المركز القومي بغداد.
كان النعيمي يؤمن بالمجتمع المدني ويعمل من اجل ترسيخ قواعده ويعشق العمل الفكري ذو الطابع الجماهيري ، ويحرص عل حضور الندوات والمؤتمرات العلمية والثقافية سواء التي تعقدها جامعة الموصل او المؤسسات العلمية أو الثقافية الأخرى ويسهم في إعمالها إسهاما فاعلا .
كانت توجهات ألنعيمي الصحفية (وطنية عراقية ) ويتضح هذا ليس في أعماله الصحفية بل حتى في محاولاته وتجاربه القصصية والروائية والمسرحية ،إذ أن معظمها يدور حول قضايا عربية ساخنة لعل القضية المركزية الأولى للعرب ، قضية فلسطين في مقدمتها ، كما ناصر ثورة الجزائر وثورة عمان وهاجم الاستعمار والامبريالية والصهيونية ودعا الى استقلال العرب ووحدتهم وتقدمهم ، ويحتل العراق وسياسته وسيادته المكانة البارزة في كتابات النعيمي ، وللموصل ، مدينته الحبيبة نصيبها من اهتماماته الصحفية والإبداعية .
كان ألنعيمي ملتزما بقضايا شعبه وأمته ، كيف لا والنعيمي يعرف الشوق لأنه كابده ( ولا يعرف الشوق إلا من كابده )
في الستينات حينما بدأ مسيرته الصحفية والإبداعية كانت الموصل تموج بالتيارات الفكرية ، الوجودية ، الماركسية ، فضلا عن التيارات القومية الاشتراكية ، وقد اختار ألنعيمي أن يكون مع التحرر والوحدة والتقدم والإيمان .
في شارع ألنجفي ، وداخل مكتباته : " الأهالي ، العربية ، الأمل ، العصرية ، ألامين ، كان له حضوره ، وكذا الأمر في المكتبة العامة وفي المقاهي الأدبية ، اذ كثيرا ما وجد ألنعيمي ضالته وصقل موهبته وراح يحفر له طريقا ومنهجا في الكتابة ، يكاد يكون متميزا عن مناهج مجا يليه .. منهجه يقوم على بضعة ركائز أولها حسن اختياره للموضوع الذي يكتب فيه ، وثانيها حسن صياغته للمقدمات والمداخل ، وثالثها حسن عرضه لبضاعته وانتقائه المتميز لمفرداته ، ورابعها وضوح الغاية والهدف من وراء كتابته والوصول بقارئه إلى نتائج وخواتيم تسهم في إثراء معرفة المتلقي وتعمق من إدراكه ، وتلك بحق هي أصول الكتابة ، وقد أتقنها ألنعيمي وامتلك أدواتها ودخل في دهاليز أسرارها وطلاسمها .رحم الله عبد الوهاب (أبا زياد وعدي ) واسكنه فسيح جناته ويقينا اننا سوف نظل نذكره لما ترك من نتاج ادبي وصحفي والذكر للإنسان حياة ثانية له .