غزة بعيون بابلية (*)

بقلم : الباحث الدكتور عبدالوهاب محمد الجبوري

المقدمة

سأكتب عن نجمة فضية

تحمل غصتها في صمت الغروبْ

ودوالٍ تستحم في فيض دموعها

إذا أينعتْ الكروم

وتوهّج الربيع في الدروبْ

***

سأكتب عن غيداء بهية

تبثّ هواها

قبلة للأصيل في الخدود

في دفء اللقاء ، في عطر الورود

***

قلبي يرفّ إليها ، مشدودا

صبح عشية

ارسمها من صحائفَ مجدٍ

ونفح باقاتٍ شذية

***

أبثّ عيوني ، أحثّ نجومي

(كلما تقصّت شفتان رحلة الغضبْ )

وتنكّب القلب

صهيل الرعد واللهبْ

أراها شمسا

تنسج من أطيافها وهجاً

يلهبني في كل دربْ

القصيدة

(1)

هذي حكاية صبيّة ، أبحرت من كل ساحلْ

تقهر الأمواج عنقاء فتية

تهزّ أسوار المدينة

تفتح الشبابيك الحزينة

كي تشرئب قامات الحروف

أشرعة مشاعل ،

وسيوفا تتنكّب أصوات البلابل

صهيلا ، وتسابيح جداول

أرتّلها كلما تعلّق جبين بالضحى

ومدّ أشرعة الهوى

نحو ضفافٍ سمراءَ ، أعشقها

كشمس تخلع من أطيافها

ترنيمات ، يرويها شيخ مقعد ْ

وقصائد يرويها فارسْ

(يرويها قائدْ

ترويها أمٌّ وخليفة)

يرويها خادمْ

يرويها عالمْ

يرويها زاهدْ

يرويها ساحرْ

ترويها أوتار وحناجرْ

يرويها طائرْ

ويتيم يرويها

امراءة ثكلى ترويها

يرويها راع ، يرويها تاجرْ

ما بين بابل وبيسان

وناصرة البتول

والى القدس المكتظة ملاحمْ

صرت لا أطرب إلا حين ألقاها

أكتب عنها الأسفار والفصول

(2)

قد استخرت الله في عذراء هاشمية

تشبّ بقامتها سروة عصية

أبرمتْ عهدا مع العواصف

تغمرها بأحضان وفية

شرب القيد من يدها دما

يزهو على الثرى ، بأنغام شجية

(3)

قد استخرت الله في ظبيّة

يحترق الدمع في مقلتيها

ينام الغبار على وجنتيها

تشتكي من نهمٍ في عيون الذئابْ

عويلا يعوي في كل نابْ

ألف ذراع يحصدها

(وألف عرق اشتهاءٍ يستبيح دمها )

جاءت ( تمشي على استحياء )

فاتكأتْ على حلم يراودها

عبر الشجون يتألقْ

تعاهده نصلا على الثأر يُمشقْ

(4)

رأيتْ فيما يرى النائم :

دروبا تبكي وأخرى تضحك

وصحراءَ تمدّ جناحيها شهبا

وسهاما تُرشقْ

زفرات ريح ، تلهب وهج الرعد

كلما راودها ،

على أهداب المنى يتسلقْ

(5)

باسمها المحفور في قلبي

اختم الألواح البابلية

بمدادٍ من دمي ،

اكتب أسطورتها العربية

أسفارا لم يُدنّسها تتري ، أو أعرابي

(يتوارى خلف التمثال الزائف

تمثال الحرية)

(6)

قد استخرت الله في بندقية

تشتهي لهب الحروف

تنبض بالعصف والدم الريان

تجتاج نهم الضواري

والشمس تغسل ما تعقّد

في زئيرها من رماد ودخان

ووحام من شبق الجواري

(7)

باسمها المحفور في ذاكرتي

أظل معتصما بغضبتها

متوثباً في كل برية

( 8)

سأرسم لك يا فتية ، وردا بخدود عسلية

ومن شهقة سمراء لا تخشى المنية

ستمضين إلى قِفار تنبتُ وهَجا

في نبضها قيثارة تعزف لحنا

يوقد شموعه تحت المطرْ

غزة ، ليست نمرا من حجرْ

غزة نارا تشتد فلا تُقحمْ

أطير بأجنحة الشوق إلى

ظل ممدود في وعدها

فأسمو صقرا في غضبها

ومطرا من شوق لا يرحمْ

(9)


غزة تلوي أعناق الجدب وتقهرها

تمتد وراء الأبعاد جداولها

فتذكي بالحب أمانينا

تتلمس كل جراحِ براعمنا

فيعانقها جرحا جرحا

يتدثر شواطئها غضبا

يضرب في عرض البحر مرساها

كل الشطان مجراها

(وعلى اسم الله تسلك دروبا ، لا تهجرْ )

ترتد عليها النيران ، وكل الأشياء

حتى الأنواء ... فلا تقهرْ


(10)

ومن شهيق يستدرج رئتي

سأحمل ثقل غصتي

اسأل الذين يمرون كل عشية

وقصائدهم تقطر دماً

تومض بروقاً ، تتحرّى طيفاً

ما تراءى لها ، خطفا ً

يلد حروفا تمتدّ عبر الضفافْ

كصقور ، بعضها فرادى

ومثان .. وموكب زفافْ


(11)

وحين تهاوى الأعراب ذلاً

وجدتها مهراً ، يشبّ بقامة بابلية

عاشقا يبثّ هواه

تستحم الخيل في رؤاه

مرة يناجز الصقور حومها

مرة يشرئب مع البيارق في زهوها

فهبّ صلاح الدين يُترع زهوها

وجاء المعتصم يجلو سيفها

( 12)

هذي بيداؤك عادت ، في حماك تترى

مواسم خصب جذلى

يا سماء غزة ، قالها الرشيدْ

جودي بغيثٍ حيثما شئت

يا أخت الفراتين ، وانْ بعدتِ

ما بعدت عن بغداد ، وما احتجبتِ

كل المسافات ، تستجلي

أطيافا ترفّ في اثر أطياف

حروفا تتقصى الشفاه

تشدو على مداها الأناشيدْ

لظىً وشوق ودموعْ

وبراكين تستمطر الشمس

أعاصير ، وأفراح شموعْ


**************

(*)بمناسبة الذكرى السادسة لاحتلال العراق واستمرار مأساة غزة ، تم تحديث القصيدة لغرض إدراجها ضمن ديواني الجديد وسأقوم بتضمينه أيضا تعقيبات الزميلات والزملاء من الشعراء والكتاب نثرا أو شعرا .. مع كل الاعتزاز والتقدير
العراق في 28 / 4 / 2009