http://aljazeera.net/NR/exeres/16EF2...034E6601FF.htm
محمد المدهون

ينحني المجد أمام العمالقة، وتبقى أسماؤهم رايات خير وجهاد شامخة، تحرق وجوه الأعداء وتشيع الدفء والأنس في نفوس المستضعفين، يتراقص النور وينبعث الضياء من هذا النجم الساطع.. إنه القدر الكوني لإعادة الروح إلى الجسد "الياسين".
أهو مجرد اسم عابر..!! كلا بل هو جذر متأصل في أعماق التاريخ.. وشجرة كريمة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. إنه نموذج فريد صنع التاريخ، وعنوان ضخم يضم آلافا من الأبطال الذين عرفتهم ساحات الجهاد في فلسطين.
"الياسين" تلك الشمعة المضيئة.. الشعلة المتقدة، شجرة جذرها يمتد إلى النبوة المطهرة، وهو حلقة في سلسلة كبيرة، وهو زلزال صرخ في وجه الاحتلال الغاشم "لا"، فكان البركان.. وهو دفع دمه ودموعه وماله ثمنا.. وهو قد أثبت أن الكف ينتصر على المخرز، وأن الصبر الجميل والجهاد الطويل يملك التصدي لقوى الباطل الجامحة، وهو النموذج الأروع والقدوة المثلى التي حفرت لشعبنا مكانته اللائقة ومنزلته السامية.. يستحيل على الذاكرة أن تطمس النور الساطع من هذا النموذج الخالد، وأنوار الشهادة والشهداء تعبق ذكره وترفع اسمه.
حقا يضفي الله من الهيبة على رجل مقعد ما يرفع مكانته بين الخلق، ويدفع الشباب إلى أن يلتفوا حوله، ويجعل المحتلين والمتخاذلين معا يحسبون له ألف حساب. عرف العالم الإمام الياسين القيادة والرأي والقرار والكلمة، حين تلقاه لا تصدق عيناك وهو رهين المحبسين في العصر الحديث، إعاقته الجسدية وزنزانته الموصدة عليه التي تحول بينه وبين التمتع بنسمات الحرية، ولو على امتداد ساحة السجن الكبير، فلسطين السليبة.
وليس غريبا أن تتابعه عدسات وكالات الأنباء ومسجلات الإذاعات العالمية إذا همس بكلمة أو أومأ بإشارة لأنه صاحب الرأي الحصيف والقرار النافذ والكلمة المسموعة. الإمام الياسين الرجل المقعد الذي أرعب الظالمين وحيّر إسرائيل. هذه الكتلة من اللحم التي لا تقوم على عظام، وهذا الجسد الذي ماتت معظم أعضائه إلا القلب ينبض بالإيمان، والعقل يفيض بالعمق والتفكير، واللسان بحركة الوجدان، في عينيه بريق بشفافية المسلم الذي يرى بنور الله وفراسة المؤمن التي لا تخيب.
كانت البداية الرائدة في انطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وكتائبها على يد مؤسسها الإمام الياسين المقعد الذي يهابه الاحتلال. الياسين رجل القيادة والقرار الإستراتيجي الذي ولد في قرية الجورة (قضاء عسقلان) الفلسطينية عام 1936م، التحق بمدرسة الجورة الابتدائية، ثم أكمل المرحلة الإعدادية عام 1955، ثم التحق بالمدرسة الثانوية واسترعت جماعة الإخوان المسلمين نظر الشيخ أحمد ياسين، فقرر في عام 1955 إعطاء البيعة للإخوان المسلمين. وفي عام 1960 أصيب الشيخ أحمد ياسين بالشلل بعد أدائه إحدى القفزات الرياضية الصعبة، ورغم ذلك عمل الشيخ الياسين مدرسا، وكان لبقا ذكيا في دعوته، وتعرض الشيخ لاعتقال أكثر من مرة عام 1965 إبان الضربة القاسية التي تعرض لها الإخوان في مصر وقطاع غزة.
الإمام الياسين ظاهرة ضخمة بكل أبعادها، فهي ضخمة بحيثيات نشأتها التاريخية، وضخمة بعطاءاتها الفكرية الثقافية، وهي كذلك متميزة في تصدّيها السياسي والعسكري. لقد ملأ الإمام الياسين الفراغ وحوّل المأساة التي كانت تعيشها القضية إلى مبادرة عطاء ضخمة.
منذ أكثر من خمسة عقود كان الإمام الياسين مواكبا لمسيرة الحركة الإسلامية وحركة التغيير العالمي. فكان يتفاعل معها بوعي كامل ومشاركة جادة عبرت عن نفسها في كل مقطع زمني متميز بطريقة مناسبة ومدركة لمعطيات المرحلة وملابساتها.
وعبر رصدنا لمشاركته في مسيرة التحرك الإسلامي الواعي في فلسطين, في البداية, كان تحرك الياسين دعويا عاما، جاب المساجد والمؤسسات والأندية والشوارع داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.


وانطلاقا من أن الإسلام سنّ مبدأ التكافل الاجتماعي، وحثّ على معونة الفقراء وعتق الأرقاء وحارب الاحتكار وتضخم الثروة، في زمان لم يكن يفكر بشيء من ذلك أحد، انطلق الإمام ليؤسس المؤسسات الخيرية التي لا تزال أياديها بيضاء وجهدها الأبرز في خدمة المجتمع الفلسطيني ودعمه بأسباب البقاء والمقاومة.
والمرحلة الثانية اتسمت بالرصد الدقيق للأحداث والمشاركة الحذرة، واستمرت هذه المرحلة منذ أواخر السبعينيات واستمرت إلى مرحلة العمل التنظيمي والسياسي في مطلع الثمانينيات حيث اعتقل الإمام للمرة الأولى مع الزمرة الأولى من الرعيل الأول الذي يمثل المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية وإن لم تحمل ذات الاسم في تلك المرحلة. لقد كان للشيخ الياسين تصور واضح للعمل السياسي والعسكري في تلك المرحلة وإن تبلور ذلك لاحقا مع انطلاق الانتفاضة وكان له فيها إسهام يتناسب مع هذا التصور.
المرحلة الثالثة اتسمت بالتصدي القيادي، مستفيدا من الظروف التي كانت تمرّ بها القضية الفلسطينية لإعادة بناء التحرك الإسلامي على أسس رصينة، بعدما أوغل الاحتلال في تخريب ساحات ومفاصل هذا التحرك. لقد اتسمت هذه المرحلة من نشاط الإمام الياسين بأنها سعت لسد الفراغ القيادي عبر التفاعل مع الواقع بكل أبعاده المثبطة أو المشجعة. ولم تنته هذه المرحلة باعتقال الإمام فقد ترك قاعدة تنظيمية رصينة بعد توفر مستلزمات الديمومة والاستمرار التي وفرها الإمام.
المرحلة الرابعة جاءت بعد الإفراج عن الشيخ ومنذ اليوم الأول الذي خرج فيه الإمام من المعتقل بعد صفقة مشعل الشهيرة كان أكثر عزما وأشد مراسا واستعدادا لمرحلة الصراع والصدام القادمة مع الاحتلال، وذلك رغم كل الظروف التي كانت تعيشها حماس عقب ضربة 1996، وقد ختم الإمام الياسين تلك المرحلة بانتفاضة أشد بأسا وأكثر إيلاما لإسرائيل ودفعت حماس الثمن الباهظ عبر استشهاد خيرة الرعيل الأول من الجيل المؤسس, وعلى رأسهم الإمام الشهيد حيث ختم الياسين المرحلة بالشهادة.
ومن خلال المعايشة أو المتابعة لمسيرة الإمام الياسين يمكن القول إن هناك عملا تراكميا بين هذه المراحل تبنى بها كل مرحلة على سابقتها. كما أن هناك تداخلا بين هذه المراحل، فالممارسة التنظيرية كانت مستمرة على طول الخط، كما أن التنظيم كأسلوب من أساليب العمل ظلت تلف الكثير من ممارسات الإمام رحمه الله.
والعزيمة في كل مرحلة كانت مدرسة الإمام من أجل الانطلاق للمرحلة الأكثر تقدما في عملية الصراع المتكامل في شتى الميادين مع الاحتلال. وإضافة لهذه وتلك، فإن عملية تطوير النظرية والممارسة كانت مواكبة للمتغيرات والأحداث الطارئة، مما يضفي نوعاً من المرونة في إنزال الأهداف، ويمكن القيادة من المناورة عند الضرورة.
الشهيد الياسين منذ أن بدأ تحركه إلى آخر يوم من أيام حياته كان ينطلق من فهمه أن الإسلام هو الرسالة التي ينبغي أن تسود الحياة. هذه المنطلقات كانت الأسس التي أقام عليها الإمام الياسين معالم نظريته في التحرك، وهو ما مارسه منذ الستينيات، كما بيّنه في خطبه وتوجيهاته.
أساسيات الانطلاق، أو لنقل إن أساسيات نظرية العمل السياسي عند الإمام الشهيد الياسين رحمه الله كانت واضحة منذ البداية. فمنذ شبابه كانت المنطلقات واضحة لديه، وكانت تلك المنطلقات هي الأسس الصلبة التي أقامت عليها تصوراته للسياسة والمسيرة والعمل الإسلامي.
والمنهج التربوي في الإسلام منهج واسع وعميق، يتكفل الفرد بالعناية والرعاية منذ ولادته، ويسير معه في جميع أعماله وأقواله إلى آخر لحظة من حياته. ومن هنا اهتم الإمام بإرساء قواعد العمل التربوي عبر المساجد ومؤسسات تعليمية وتربوية رائدة مثل الجامعة الإسلامية ومدارس الأرقم وغيرها.
بل إنه قد لاحظ بثاقب نظره أن التربية من خلال الحياة غير كافية لأن تُنشئ فردا صالحا بمعنى الكلمة، وكما يريده الإسلام أن يكون، لذا نراه قد التفت إلى الوالدين فأمرهما بإصلاح أنفسيهما وتهذيب سلوكيهما لكي لا يرضعا ولدهما الصفات الخبيثة والأخلاق الدنيئة، بل ليربيا جيلا صالحا يسعى في خير مجتمعه وأمته، يسطع في ربوعه ضوء الإسلام وتصعد البشرية بجهوده في سلالم الكمال.
الإمام الياسين عُرف بين إخوانه بالتخطيط ولم يُعرف بالصخب، وعرف ببعد النظر دون الالتفات للتهريج أو اللغط والخصومة، وعرف بالتواضع في مركزه القيادي المرموق، ولم يعرف بالاستعلاء، وعرفه إخوانه بصدق التوجه إلى الله وغرس البذور في حقل الله المثمر الذي تنبت السنبلة فيه سبع سنابل أكثر من التبجح ووضع البذور في حقول الخلق المعرضة للبوار، ومن هنا ظل الرجل شامخا لا يطأطئ رأسه، راسخا لا يتزعزع مثل رواسي الجبال. الإمام الياسين البداية التي انطلقت من رحمها "حماس والقسام"، فزلزلوا عرش الطواغيت وأعادوا بناء المعادلة.
الإمام الياسين أحسن القيام بأداء دور القائد في فلسطين الجريحة، فالتفّت الملايين من الناس حوله وآمنت بخطه واتبعت نهجه، واستشهد تطبيقا لمبادئه. أكد الإمام الياسين إن الأمة في فلسطين لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والمهام الفكرية، وهل هناك نضج ووعي أكثر من إرادة الثورة والتضحية، إنما تحتاج إلى قائد يعيشها وتعيشه في علاقة حب متبادلة.
أثبت الإمام الياسين أن الإنسان الفلسطيني لم يتعب أو يرهقه طول السير، فهو يتجدد مع الأيام، يتمرد على الجراح والحزن، والأكثر من ذلك يستطيع أن يبدع القوة.. يجمع الأشلاء ليحولها إلى عملاق يتحدى.. كان الإمام الياسين، كما يفهم من تجربته ومن بعض الأحاديث الخاصة، يؤمن بضرورة المبادرة القيادية عندما تكون مطابقة للحكم الشرعي.
الإمام الياسين كان ظاهرة في العمل الإسلامي ومدرسة في الموقف القيادي، كما كان ظاهرة رائدة ولدت في عصرها لتحدث التغيير في مرتكزات المفاهيم السائدة.
كانت الشهادة أسمى أمانيه، وكانت دعاءه الذي لا يتوقف. وقد أكرمه الله بحفظ جسده النحيل رغم استهدافه بثلاثة صواريخ. في الليلة الظلماء غابت الذروة الشماء وافتقد البدر الذي رحل، وهو يبني بيت الشموخ والكبرياء، ولم يكتمل البناء بعد، وها هي حلة قشيبة من الشهداء الذين نسجهم الشيخ الشهيد الياسين بجهاده وعلمه.
رحل الشيخ الشهيد الياسين بعد أن أسس مدرسة الجهاد والمقاومة، وأصبح معلما بارزا وركنا عتيدا في قلعة البناء والتحرير والجهاد والاستشهاد.
الإمام الياسين.. ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر وقد اصطفت ملائكة السماء صفوفا صفوفا تنثر عليك الرياحين وتغمرك بالطيب، ثم ها هو صلاح شحادة يقف من بعيد ينتظر إلى أن يصل إليه الدور ليطوقك بكلتا يديه، لم يتغير فيه شيء.
يقبلك من جبينك ووجنتيك ويديك، ثم صف الشهداء إبراهيم المقادمة، وإسماعيل أبو شنب، والجمالين، وآخرين وصف من الكتائب يحيى، ومحي الدين، وسهيل، وعبد الحكيم وآخرين، يدعونك الآن حتى تستريح من عناء الرحلة، يدعونك تستريح من وعثاء السفر. كانت رحلتك طويلة جدا ومثمرة وخاتمتك رائعة، آن لهذا الفارس أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام.
الشهيد الشيخ ملحمة خالدة لا تنتهي.. والياسين مدرسة عز نظيرها والمدرسة مشرعة الأبواب.. تؤذن أن في الطريق سالكين قد سبقوك.. وأن الدرب الممهرة بالدم.. المسيجة بالتضحية.. المعبدة بالجهاد المتنوع اللامحدود لا يزال فيها متسع للسالكين.. ولا يزال في الوقت متسع.
وإن التوثيق واجب كي تبقى مدرسة الياسين تتوارثها الأجيال كي تحدث أبناءك قصص العظام وتعلمهم أبجديات المقاومة.. وتقدم لهم القدوة شاخصة في دماء نازفة.. وأرواح توّاقة. قدوة من ذات العصر الذي تحياه كي لا تعتذر بتغير الأيام والأزمان.. القدوة في أولئك النفر العظام الذين تمنطقوا بالشهادة وتسلحوا بالعقيدة.. وقدموا لأمتنا وشعبنا النموذج الأروع، ورفعوا أسهم قضيتنا، وتقدر العظمة بمقدار ما يقدم المرء لدينه وأمته وشعبه من عطاء.
إذا كنت قرأت قصة الشيخ فعد إليها ثانية فهي سلاح في مواجهة النوائب توقد فيك العزم والهمة.. أو ادفعها إلى من أحببت كي تقذف فيه الروح. وأنبئ الجميع أن الإمام الياسين مدرسة عظيمة خالدة، وجدير أن يسطر تاريخها بمداد النور والنار ليبقى سجلا تتوارثه الأجيال حتى يأذن الله بالنصر والتمكين.
ـــــــــ
كاتب فلسطيني

من ايميلي