القراءة الفاحصة:
إنجـــاز أم اندثــار؟!
أحمد علي هلال
على الرغم مما يثيره المصطلح الوافد من اشكاليات منهجية في التطبيق النقدي العربي، إلّا أن لشيوعه وتداوله على أكثر من صعيد، وبكيفيات معرفية مختلفة، سياقاً من الفحص والتجريب والممارسة.
فشرطه المعرفي- إن جاز التعبير- سيتحقق في ثقافة معينة، بيد أن كل ممارسة في سياق تلك الثقافة سواء كانت لغوية أو أدبية أو علمية، سوف تسائلها، بل تعيد في كل شوط فحص مكوناتها.. وليست مفارقة أن يهيىء- المصطلح- لما بعد، فثمة تأسيس يأخذ ممكنه الاجرائي، دون إغفال اتجاهات مضادة تنهض على أنقاضه لتنتج المعنى الجديد.
بهذا السياق، فإن مصطلحاً مثل «القراءة الفاحصة»، هو واحد من انجازات النقد الجديد خلال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مقابل صعود «البنيوية» وقبلها الشكليون الروس في التأسيس لعلم الأدب، وبمعنى آخر اغتنت القراءة الفاحصة بخصوبة التيارات والمذاهب النقدية، لكنها في ميزان النقاد ومنهم د. جابر عصفور، مازالت تخضع لمساءلة جادة في تطبيقاتها، لا سيما في حقل الشعر، المجال الذي كرّس اتجاهات تعليمية- أكاديمية، ترمي الى مقاربات نصية جامعية تسعى لسبر جزئيات النصوص وتحليل علاقاتها الداخلية، بحثاً عن «الوحدة العضوية» يعود الناقد جابر عصفور ليقف على دلالات القراءة الفاحصة، معتبراً أن مفهومها يشكل في جانب منه ردّ فعل على مفاهيم القراءة السابقة التي جمعت بين نظريات المحاكاة والتعبير، ومحاولة خلال- في جانب مواز للغوص عميقاً في طبقات الأعمال الأدبية... ليرى أن ثمة تحولاًَ جذرياً لآليات القراءة وعملياتها الإجرائية.. فضلاً على أن القراءة الفاحصة نظرت الى العمل الأدبي مجرداً عن واقعه، فهو بحسب- عصفور- «كأنه زجاج معشق ملون تصرفنا تعاشيقه وألوانه عما يقع وراءه ولا تسلط أعيننا إلا على علاقات تكويناتها، ناسين ما يقع خارجها، فالعمل من هذا المنظور هو «الأيقونة اللغوية أو المنمنمة الجمالية»، وذلك لا يعني تجاهل ما أنجزه النقاد في استقرائهم للعمل الإبداعي من أمثال: آي ريتشاردز وتلميذه وليام امبسون وآلان تيت، وومزات، ولا سيما في مجال الشعر والمعاني الممكنة في القصيدة «الحسّ، الشعور، النغمة، المقصد».
لكن مصطلح القراءة الفاحصة- بتتبّع سياقات الانجازات ومفارقاتها فيما يخص الشعر مجالها المثالي، سيحمل بذور اندثاره بدءاً من انشغاله بفكر الشكل، وصولاً الى كسر جدليته مع الواقع، ثمة من اتهمها- داخل النقد الجديد- بأنها قراءة تفترض وجود العمل الأدبي في حال من الفراغ الذي يشبه العدم!.
فضلاً عن عدم اهتمامها بالمؤلف والقارىء، الأمر الذي هيأ لمصطلح جديد هو التقويض أو التفكيك، الذي أطلقه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، على القراءة النقدية، وعليه فالقراءة التفكيكية بالمعنى الذي ذهب إليه دريدا هي قراءة مزدوجة فهي من جهة ترى معاني النص الصريحة، ثم تقوض ما تصل إليه من نتائج، بحثاً عن شرخ بين ما يصرّح به النص وما يخفيه.
وهكذا نقف على ثراء القراءة المعرفي وتقلباتها ومفارقاتها المتواترة، في اختباراتها المتبادلة ما بين النظرية والتجريب، فكل قراءة حسب «التفكيكيين هي قراءة خاطئة.
وحسب الناقد الراحل شكري عياد فإن القراءة الفعلية هي مداورة ومراوغة بلانهاية، تجسّس على الكلمات، بحث عن المضمر، اقتحام للمجهول.. ما يعيدنا للقول بأن القراءة أفق مفتوح على ثلاثية النص.. الكاتب.. القارىء، ولكن باتجاه لا ينغلق على أعماقه، بل يبحث عن علاقة العمل الأدبي بالحياة وبحراكها وبمدى ما يستثمره من معطيات خارجية تسهم في تشكيل النص بالمعنى الثقافي والحضاري، دون استباقه بالمفاهيم المثالية التي غالباً ما تقيد النص فتقصي لذته - المفترضة - كما متعته المحتملة، فقد كان الانطباعيون يقرؤون النص ويدونون خواطرهم .. لأن النقد عندهم، لم يكن إلا سياحة ممتعة بين الكتب، صحيح أن النقد الجاد لا يعول كثيراً على القراءة الانطباعية مثلاً، لكنه لا يبخس حساسيتها وصدقها واكتشافها - بالحدس- لجماليات ليست عابرة، خصوصاً وان التلقي الذكي لإشارات النص، يضع الكاتب والقارىء على أفق مغامرة تبتدىء ولا تنتهي لأنها تستحيل لعمل جديد، كان ازراباوند يقول: «إن أعظم نقد لعمل أدبي ما هو عمل أدبي آخر، يجدد النص ويحييه ما دام قادراً على اجتذاب قراء آخرين، هاجسهم الأوفر النص ذاته فيما يشي به من وحدة الشعور وفضاء الحرية، ليبقى النص أيضاً شاهداً على مفارقة دائمة، انخطافه إلى متعاليات لغته وأسلوبه، فالقراءة كلمة السر ليكتشف ذلك العالم الرحيب، بأنواته واشاراته وصمته الكبير، وليست كلماته المرتبكة فحسب