مهن السفن.. لا تجد منقذًا
2006/03/08
الإسكندرية- حسام عبد القادر


مهن بناء السفن تواجه انقراضا في مصر

التصميم، الرسم الهندسي والمعماري، الديكور، التكلفة الاقتصادية.. كل هذه الفنون هي مكونات رئيسة لكي يتم عمل دراسة جدوى لبناء سفينة، سواء للصيد أو للسياحة.

تلك الأعمال يقوم بها "صنايعية" في محافظة الإسكندرية (شمال مصر)، بعضهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يتخرجوا في كلية الهندسة، إنما اكتسبوا مهارات المهنة أبا عن جد، وأضافوا عليها بالخبرة، حتى بلغوا حرفية عالية خلقت طلبا عالميا على أعمالهم ذات المتانة والجودة والدقة؛ بل إن طلبة كليات الهندسة يأتون إلى هؤلاء الصنايعية في منطقة الأنفوشي ليتعلموا منهم، ويتأملوا رسوم تصميم المراكب.

وساعد على تمركز مهن بناء السفن في الأنفوشي وجود نظام تعليمي موائم لاحتياجات سوق العمل في تلك المنطقة؛ فهناك مدرسة الشهيد إسماعيل فهمي الثانوية الصناعية، وتحتوي على قسمين: الأول للمحركات، والثاني للمصايد البحرية، ويتخرج في القسمين سنويا شباب متخصصون في مجال الصيد والمراكب؛ وهو ما يخدم ورش الأنفوشي، ويجعلها مستمرة في تفردها.

بداية الأزمة

لكن الرياح جاءت بما لم يشتهه أصحاب مهن المراكب؛ حيث يواجهون منذ أكثر من خمس سنوات انقراضا بسبب قرارات حكومية أوقفت تراخيص المراكب سواء للصيد أو للسياحة. كما اتخذ محافظ البحر الأحمر قرارًا بعدم إصدار تراخيص بناء لسفن سياحية جديدة للعمل بالمحافظة.

ولأن جميع اليخوت السياحية المصنعة بالإسكندرية تعمل في مواني البحر الأحمر، فقد تعطلت ورش التصنيع بالأنفوشي، وبدأ يتسرب عمالها إلى مهن أخرى، خاصة مع زيادة الأعباء على أصحاب الورش من أجور عمالة، وإيجار الأرض، إلى تكلفة إضاءة ونظافة وضرائب.

يقول الحاج محمد فريرة، صاحب ورشة لبناء المراكب، وأشهر نجار مراكب فى الأنفوشي: إن القرارات الحكومية أضرت بالورش كلها، فانتشرت البطالة في المنطقة، لا سيما أن هناك 30 عاملا من مهن مختلفة يعملون في الورشة الواحدة (نجار وحداد وكهربائي وسباك وميكانيكي وصانع الألوميتال والزجاج والأستورجى وعامل التكييف،... إلخ).

ويشير إلى أن الأنفوشي تصنع كل أنواع المراكب والسفن، سواء للسياحة أو الصيد أو الخدمات بالميناء ونجاة السواحل، فضلا عن قوارب الصيد الصغيرة، وطج قطرة (مركب يقوم بسحب المراكب في المياه).

وتختلف أسعار المراكب باختلاف نوعها وحجمها، وأي خطأ في بناء المركب أو السفينة سيؤدي لكارثة. ويشير الحاج فريرة إلى أن أسعار المراكب تبدأ من 50 ألف إلى نصف مليون جنيه (الدولار= 5.80 جنيهات مصرية)، ويستغرق تنفيذها ما بين 6 و24 شهرا.

ولقد تسبب ركود صناعة بناء السفن في أضرار لقطاعات أخرى تعتمد عليها، ويقول الحاج فريرة: إن كل العاملين على المركب يقومون بتشغيل محال الخشب والكهرباء والصحي وغيرها.

قرار بدون دراسة


صاحب ورشة لبناء السفن يستعرض أحد رسوماته لبناء مركب

ويرى الحاج مصطفى إسماعيل، صاحب ورشة أخرى، أن القرارات الحكومية صدرت دونما دراسة لتداعياتها على أهالي المنطقة، ويشير إلى أن ثمة طلبا ليبيًّا على المراكب المصرية أبقى بعض الورش متماسكة، ولكنَّ هناك توجها لصنع مراكب داخل ليبيا؛ وهو ما أدى إلى تسرب العمال من الورش للعمل هناك.

وتتردد أنباء عن وجود أسباب أمنية وراء إصدار قرار منع تراخيص بناء المراكب؛ وهو ما جعل الكثيرين من أصحاب الورش يحجمون عن الحديث في أسباب القرار. ويرى البعض أن السبب الأمني غير مقنع؛ لأنه إذا كان سيتم رفض وجود مراكب جديدة في البحر الأحمر، فمن باب أولى وقف العمل بالمراكب القديمة الموجودة بالفعل.

وتقول مصادر بمنطقة الأنفوشي: إن بعض ذوي النفوذ يطلبون من الورش صناعة المركب، وعند إخبارهم بأن التراخيص متوقفة لا يهتمون، ويؤكدون أنهم يستطيعون الحصول على استثناء.

شكاوى.. ولكن

وتم تقديم شكاوى إلى محافظ الإسكندرية، ووزير الصناعة، ورئاسة الجمهورية لإنقاذ مهن السفن من الانقراض، بحسب حسين أبو شنب رئيس الجمعية الخيرية لرعاية العاملين في صناعة السفن بالإسكندرية، غير أن المشكلة لم تنتهِ حتى الآن.

ويرى العميد أحمد الشامي، سكرتير عام الجمعية، أن السياحة من القطاعات التي تأثرت بقرار وقف الترخيص لبناء السفن والمراكب؛ لأن اللانشات تعد من عناصر الجذب السياحي. كما يفتح القرار الطريق أمام الوسائل الملتوية؛ بل إنه ضد سياسة الحكومة التي تحاول القضاء على البطالة، وتنشيط السياحة، بحسب الشامي.

ويضيف أن القرار اتخذ أيضا بمحافظات أخرى وليس فقط في البحر الأحمر، دونما مراعاة لطبيعة الصناعة اليدوية القائمة التي تعد نادرة في منطقة الشرق الأوسط، و"كأننا ننهي ريادتنا بأيدينا". ويقترح حل هذه القضية في إطار متكامل؛ أي وضعها ضمن اتفاقيات التبادل التجاري الثنائية بين مصر ودول أخرى بالمنطقة؛ وهو ما يفتح باب رزق للعمال في هذه الصناعة.

الخريجون.. أين سيذهبون؟

وتمتد تداعيات انقراض مهن السفن إلى النظام التعليمي الذي يهتم بالصيد وبناء السفن؛ وهو ما سيؤدي إلى تخريج عاطلين، وخاصة أنهم فنيون ومهنيون، وليسوا صيادين، بحسب عماد عبد الفتاح (مدرس أول مصايد).

ويشير عبد الفتاح إلى أن الطالب بقسم المصايد البحرية يتعلم على مدار ثلاث سنوات كافة الأعمال البحرية، ويدرس الخرائط المختلفة والبوصلة والأجهزة الملاحية. ويتم تدريب الطلاب عمليا خلال فصل الصيف، ويحق لخريج المدرسة الحصول على الباسبور الأسود الذي يؤهله للعمل على أي مركب تجاري بحري أو صيد.

ويبقى أن معاناة مجتمع مهن السفن في الأنفوشي تحتاج لإنقاذ من الجهات الحكومية، وضرورة إعطاء الاعتبارات المعيشية في بقاء هذه الصناعة، بجوار الاعتبارات الأمنية.