اضطررت اليوم إلى الصعود إلى حافلة الركوب ( السرفيس ) واقفاً قرب الباب حانيَ الظهر مضطراً للنظر في أماكن لا أتابعها عادة كثيرا ، فعلقت عيناي بموبايل طالب جامعي يجلس في المقعد الأول . . .
واضطررت مرغماً أن أتابع دون رغبة مني ما أراه عنوة أمام عيني يجري على شاشة هذا الموبايل لأن رأسي كان يرتطم بسقف السرفيس فلا أستطيع أن أحيد ببصري عما أراه أمامي مهما كان هذا الذي أراه غريبا أو منافيا لما أحبُّ وأرضى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
على الرغم من أني أحسب نفسي سريعاً في القراءة متدبراً لِما أقرأ إلا أن سرعة الشاب حامل الموبايل في الكتابة ومقدرته الفائقة على تحريك أصابعه ببراعة تامة على الجهاز كانت أكبر بكثير من مقدرتي على الفهم والتواصل ، لذلك فاعذروني إن جاء حديثي إليكم عما رأيت وقرأت مقطَّعا باهتا شحيحا ، فهذا ما وصلني :
( اليوم مالي فاضي بشوفك بكرا . )
( والله يا عمري انتي عندي أحسن م الدنيا كلا ) .
ثم ينتقل إلى محادثة أخرى :
( ليش انتي شو عندك اليوم ) .
ثم ينتقل إلى صديقة ثالثة :
( طيب طيب خلص هلق وقت بخلص بحكي معك هلق عندي دراسة ) .
ثم يعود إلى الأولى فيقول :
( اطمني اطمني أنا أكيد رح خبرك ولا يهمك ) .
ويقلب الموبايل إلى شاشة أخرى . . .
كل هذا يقوم به بسرعة هائلة تجعلني لا ألحق أن أتابع تلك المجريات الشيِّقة .
ملَّت عيناي من قراءة تلك الترهات فمالت إلى الشخص الآخر الذي يجلس بجانبه ، فإذا هي فتاة قد انغمست هي الأخرى في الموبايل بشكل عجيب فتارة تكتب وتكتب ثم بعد برهة تقرأ وتبتسم ابتسامة عريضة . . . كأنها قرأت خبراً مفرحا جدا . . . والذي لفت نظري هنا أن الموبايل كانت له حلقة تحمله منها وهذه الحلقة توضع في إصبع يدها اليمنى لكي لا يقع في أثناء الضغط عليه بسبب الكتابة الكثيفة . . . كانت الحلقة في المكان الذي تضع فيه الفتاة عادة خاتم الخطبة .
لقد غدا هذا الموبايل خطيبَها الوحيد لكنه يحمل في جعبته الكثير الكثير من العرسان لكنهم جميعاً ( غير جاهزين ) للزواج . . . إنهم جاهزون فقط للعب والتسلية والمرح وإضاعة الوقت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أين الأم ؟ ! .
هل تلتفت إلى ابنتها وابنها أم أنها مشغولة هي الأخرى بصديقاتها وأصدقائها . . . مشغولة بمحادثات كثيرة عن العمل والأزواج ومشاكل الدنيا .
هل تحجبها تلك الأحاديث عن تربية أولادها . . . أم أنه هناك أمر آخر .
أين الأب ؟ ! .
هل يلتفت إلى أولاده أم أنه مشغول أيضا بأصدقائه وصديقاته في العالم الافتراضي .
يا لهذه . . . التي وصلْنا إليها .
ويا لتلك التكنولوجيا التي وفدت إلينا فأتت علينا .
أهذه هي العلوم التي تفتح آفاقها أمامنا تلك الأجهزة .
أهذا هو ما تسمونه ( تبادل الثقافات ونشر الكتب ) .
أين وزارة التربية . . . أم أن الموضوع قد خرج من يدها ، أو ربما هي لا دخل لها أصلاً .
أين وزارة التعليم العالي . . . أم أنها وزارة للتعليم ولاعلاقة لها بالتربية .
هل من أجل ذلك وُجدت هذه الموبايلات .
كل الممنوعات التي يمنعها ( أبٌ صارم ) أو ( أبٌ جاهل ) أو أمٌّ واعية من أن تحصل في البيت وفرتها هذه ( التكنولوجيا ) خارج البيت وبعيداً عن أعين الرقابة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا أؤكد أنني أنا لست ضد الموبايل ، ولست ضد التطور بكل أشكاله ، ولستُ ضد العلاقات الاجتماعية أو الغرامية . . . لكني فقط أنبه إلى مخاطر هذا الموبايل في يدنا ويد أولادنا ، حينما نسيء استخدامه ونجعله مجرد أداة لإضاعة الوقت وتناقل توافه القيل والقال .
وإني أؤكد أن التكنولوجيا قد جاءت إلى مجتمعاتنا نعمة ورحمة . . . لكننا نحن الذين نحولها إلى نقمة علينا وعلى أولانا . . .
إن لم نملك إرادة واعية نحقق من خلالها ( إدارة وتنظيم الوقت ) فإن أمرين اثنين سوف ينقرضان من مجتمعاتنا إن استمرت حالنا هكذا ، وهما : ( التعليم والزواج ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم نعد بحاجة إلى أن ننظر من النافذة . . . ولم نعد بحاجة إلى أن نصعد إلى السطح . . . ولم نعد بحاجة إلى أن نتحدث مع أصدقاء . . . ولم تعد تروق لنا الحدائق . . . ولا عاد يهمنا التلفاز . . . لا نريد الديجيتال ولا نأبه للدراما أو الكوميديا . . . وغدا السلام على أهلنا لا قيمة كبرى له . . . وأصبحت متابعة أمور أولادنا آخر اهتماماتنا .
كل هذا فقط لأننها نحمل في جيبنا ( الموبايل ) .
بل . . .
لم يعد يهمنا أن ننام . . . حتى النوم هجرناه . . . كما تقول أم كلثوم في أغنية ( حياتي عذاب ) :
نسيت النوم وأحلامه
نسيت لياليه وأيامه
بعيد عنك حياتي عذاب
متبعدنيش بعيد عنك
مليش غير الدموع أحباب
معايا بعيش بعيد عنك
غلبني الشوق وغلبني
وليل السهد ذوبني
ومهما الشوق يسهرني
ومهما البعد حيرني
لا نار الشوق تغيرني
ولا الأيام بتبعدني
بعيد عنك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمات : بليغ حمدي ، وألحان مأمون الشناوي . عام 1965 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذن :
ينام الموبايل تحت تحت وسادتنا لنصحو على رنة إعجاب أو نغمة تعليق .
ما أبهاكَ أيها العالم الافتراضي . . . مازلت تلاحقنا وتلاحقنا حتى قضيت على عالمنا الحقيقي . . . أو كدت أن تقضي .