قراءة في كتاب الأيام الأخيرة للجمهورية الأميركية
الثلاثاء 4 أيلول (سبتمبر) 2007, بقلم مصطفى عبد الرازق
النزوع الإمبراطوري يهدد بتقويض الديمقراطية وأسس النظام الدستوري الأميركي
هذا الكتاب يمثل الجزء الأخير من ثلاثية قدمها لنا الأكاديمي والكاتب الأميركي تشالمرز جونسون رئيس معهد أبحاث سياسة اليابان والأستاذ الفخري بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، والذي عمل خلال الفترة ما بين عامي 1967 و1973 مستشارا لمكتب التقديرات التابع للسي أي أيه حيث طلب منه الانضمام إلى هيئة مستشارين مؤلفة من عشرين شخصاً من المتخصصين في العلاقات الدولية من خارج الوكالة لقراءة مسودات التقديرات الإستخبارية القومية وتقديم نقد غير بيروقراطي لها.
كان الكتاب الأول في ثلاثية المؤلف بعنوان «الضربات الثأرية» ثم تبعه بكتاب «أحزان الإمبراطورية.. نهاية الجمهورية الأميركية».. وأخيرا الكتاب الذي نعرض له وهو «نيميسيس ـ آلهة الإنتقام ـ الأيام الأخيرة للجمهورية الأميركية».وفي هذه الثلاثية والتي جاء أولها قبل أحداث سبتمبر 2001 يبدي المؤلف معارضة غير مألوفة للسياسات الأميركية داعيا إلى وقفة جادة بشأنها وإعادة النظر في أسسها وإلا فإن الولايات المتحدة ستواجه مصيراً أسود كالذي واجهته من قبلها إمبراطوريات أخرى سادت ثم ما لبثت أن بادت.وبشكل عام فإن الفكرة الأساسية التي تمثل محور تفكير تشالمرز جونسون تتمثل في أن السياسات الأميركية والتي تنحو لأن تكون سياسات إمبراطورية وليست جمهورية تحمل العديد من التأثيرات السلبية.
وقد نبه المؤلف في كتابه الأول إلى أن ذلك قد ينعكس في شكل مواقف تصل إلى حد هجمات مضادة على الولايات المتحدة وهو ما يبدو أنه تحقق في أحداث سبتمبر حيث حرص على تحذير المواطنين الأميركيين من مسلك السياسة الخارجية الأميركية طوال نصف القرن الأخير مركزا بشكل خاص على العقد التالي لانتهاء الإتحاد السوفييتي والوضع السياسي الناشئ في شرق آسيا. وفي كتابه الثاني راح جونسون يؤكد، من خلال استعراض نقدي وتفصيلي لطبيعة السياسات الأميركية وبشكل خاص خلال حقبة بوش الابن، على أن ما يحلو لبعض الأميركيين تصوره على أنه إمبراطورية إنما هو كيان يعيش حالة من الأحزان بفعل تبعات السياسة الإمبريالية التي اختارتها النخبة الأميركية بعد 11 سبتمبر مشيرا إلى جوانب من العسكرة داخل أميركا والى ما يصفه بإمبراطورية القواعد الشاسعة التي نبتت ونمت دون أن يلاحظها أحد، فيما تمثل حاليا حقيقة جيوسياسية من حقائق الحياة.
عقوبة إلهية
يواصل المؤلف في كتابه الثالث الذي يعد امتداداً طبيعيا للثاني تقديم رؤيته من خلال استعراض المزيد من التطورات التي وقعت في السياسات الأميركية خلال السنتين الأخيرتين فضلا عما تكشف عن سياسات إدارة بوش في العراق وأفغانستان، ليشير إلى أن الإمبراطورية الأميركية إنما تعيش أيامها الأخيرة وأنها سوف تلقى عقابها الطبيعي من قبل ما يعتبره البعض «آلهة الانتقام»، حسب الأساطير اليونانية القديمة، التي ستنزل العقوبة المأساوية بالمتجبرين والمتكبرين.
وعلى ذلك يؤكد جونسون من خلال تناوله لموضوعه على أن الولايات المتحدة على شاكلة الإمبراطوريات الرومانية والصينية والعثمانية والنمساوية والألمانية والنازية وكذلك اليابانية والبريطانية والهولندية والبرتغالية وأخيرا السوفيتية تقترب من نهايتها.
ويقرر أن التطورات الأخيرة التي تجري على صعيد إدارة شؤون الحكم في الولايات المتحدة تهدد أسس النظام الأميركي سواء الديمقراطية أو تلك المتعلقة بالقواعد الدستورية التي تحكم عمل النظام الحاكم.
وفي معرض إشارته إلى المسار الطويل للإمبراطورية الأميركية، يقول جونسون إن جذور هذه الإمبراطورية تعود إلى القرن التاسع عشر حينما أعلنت الولايات المتحدة أميركا اللاتينية بأكملها مناطق نفوذ خاصة بها وانهمكت بحماس في التوسع في أراضيها باقتلاع سكان أميركا الشمالية الأصليين وأيضا المستعمرين البريطانيين والفرنسيين والأسبان.
وعلى حساب جارتهم المكسيك كرس الأميركيون طاقتهم لإقتلاع السكان الأصليين وتسليم أراضيهم للمستوطنين الجدد. وفي مطلع القرن العشرين استخدمت مجموعة من الإمبرياليين عن عمد الحرب الإسبانية الأميركية لغرس القواعد العسكرية في أميركا الوسطى وجزر مختلفة من الكاريبي.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عينت الولايات المتحدة نفسها بصفتها البلد الأكثر ثراء وقوة خليفة للإمبراطورية البريطانية لكن بالرغم من حماس القادة الأميركيين في تلك الفترة لتلك المهمة وبشكل خاص الرئيس فرانكلين روزفيلت فإن الشعب الأميركي واجهها بفتور.
غير أن المصالح الأميركية والتي تطلبت احتواء الإتحاد السوفييتي ساعدت على تحول الإمبراطورية غير الرسمية التي بدأت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مئات من المنشآت العسكرية حول العالم لأكبر جيش احتفظت به الولايات المتحدة في زمن السلم.
الإمبراطورية الخيرة
خلال ما يقارب الخمسين عاماً ظلت الولايات المتحدة تنكر أن أنشطتها تشكل نوعا من الإمبريالية مع الإصرار على أنها مجرد ردود أفعال لإمبراطورية الشر ممثلة في الإتحاد السوفييتي وأتباعه. ومع كسب الحرب الباردة بدأ بعض أنصار ومنظري اليمين المحافظ يشيرون إلى أن الولايات المتحدة كانت في الواقع إمبراطورية خيرة .
وأنه عليها التصرف وفقا لهذا في عالم هي فيه القوة العظمى الوحيدة، إلى ان جاءت أحداث 11 سبتمبر التي كانت فرصة لإعادة النظر في الكثير من السياسات الأميركية وإيجاد نوع من التوازن في تعاملاتها مع العالم الخارجي، غير أنه إزاء حقيقة أن الكثير من الأميركيين لم يدركوا الأبعاد الحقيقية لهذه الأحداث فإن ذلك أطلق يد إدارة بوش في التصرف كما ترى على نحو زاد الأوضاع سوءا.
وقد عبر الرئيس بوش عن التوجه الأميركي الجديد المفتقد لأي قدر من الحكمة حين راح يعلن في خطاب إلى الكونغرس في العشرين من سبتمبر 2001 أن الحرب المقبلة ستكون صراعا كونياً بين جانبين فإما أن تكون الأطراف الأخرى معنا أو ضدنا. فيما ستعزز أفعاله وسياساته خلال السنوات المقبلة أن الكثير من شعوب العالم سوف تكون ضده. لقد كان ذلك تعبيرا عن عسكرة شاملة للسياسة الخارجية الأميركية لا شك أنه سيلقي بظلاله على مستقبلها كقوة عالمية. وكدليل على ذلك يشير جونسون إلى أن بلاده أكبر منتج ومصدر للأسلحة في العالم.
لقد تم تعزيز عملية عسكرة السياسة الأميركية على النحو الذي انعكس في حربي أفغانستان والعراق من خلال تأكيد بوش في خطابه بالكلية العسكرية في الأول من يونيو 2002 على أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لشن حرب على الإرهاب ضد ستين بلدا حيث قال:
« علينا نقل المعركة إلى العدو، ومجابهة أسوأ التهديدات قبل بزوغها.. على الأميركيين ان يكونوا مستعدين لعمليات وقائية لدى الضرورة للدفاع عن حريتنا وللدفاع عن حياتنا.. الطريق الوحيد للأمان في العالم الذي دخلناه هو طريق الفعل، وهذه الأمة ستقوم بالأفعال»®. لقد أنتجت هذه الروح عملية غزو العراق التي يقارن المؤلف وحشيتها بما جرى خلالها بالوحشية التي غزا بها التتار بغداد عام 1258.
عسكرة السياسة الخارجية
ويعبر المؤلف عن خشيته أن تقود هذه العسكرة في السياسة الأميركية والتي يصاحبها صلافة القوة والتعبيرات البلاغية المتطلبة لتبرير الإمبريالية إلى انتهاء الجمهورية الأميركية مشيراً إلى أنها وبالنظر إلى الماضي القريب تسير في طريق لا يختلف عن ذلك الذي انطلق فيه الإتحاد السوفييتي أثناء الثمانينات.
حيث انهار على خلفية أسباب عدة من بينها فرط التوسع الإمبريالي والعجز عن الإصلاح، غير أنه نظراً لأن الولايات المتحدة تفوق الإتحاد السوفييتي السابق ثراء بكثير فإن الأمر قد يستغرق وقتا أطول إلى أن تحدث المحن المماثلة أثرها وإن كانت عناصر التماثل واضحة.
وفي سياق التأصيل لرؤيته بشأن مؤشرات انهيار الجمهورية الأميركية يعود المؤلف إلى الماضي البعيد حيث سقوط الإمبراطورية الرومانية.. فأثناء المسيرة الطويلة من الجمهورية إلى الإمبراطورية دمرت الجمهورية الرومانية نظام انتخاب قناصلها وحولت مجلس شيوخها إلى كيان عاجز وأنهت إلى الأبد المجالس الشعبية واللجان التشريعية التي كانت في قلب الحياة الجمهورية مبشرة بذلك بمقدم ديكتاتورية عسكرية دائمة.
وعلى نفس المنوال تسير الولايات المتحدة حيث يقرر الرئيس مثل الأباطرة الرومان الأوائل أين ومتى يشن الحرب ويبصم مجلس الشيوخ ويتنزع التمويل للمغامرات الإمبريالية تماما مثلما كان يفعل نظراؤه الأصليون في زمن قيصر.
وقد أبلى مجلس الشيوخ الروماني مثل الكونغرس بلاءا حسنا طوال القرنين الأولين لكن بحلول القرن الأول الميلادي أربك حجم الإمبراطورية والجيوش التي كان يتطلبها الحفاظ عليه قدرات مجلس الشيوخ والقناصل. وإذا كانت روما حكمت جميع العالم المعروف باستثناء الصين فإنه خلال تلك المسيرة تم استبدال الديمقراطية بالديكتاتورية وفي النهاية وجد الرومان أنفسهم يواجهون عالما من الأعداء الذين ساهموا في إيجادهم.
ديكتاتورية إدارة بوش
وفي معرض معاينته للوضع القائم في الولايات المتحدة في سياق المقارنة التي يعقدها يستشهد المؤلف بالعديد من الأقوال من قبل أعضاء بالكونغرس ومعلقين سياسيين على المدى الذي وصلت إليه إدارة بوش في الإستبداد برأيها ومواقفها. وفي ذلك يشير إلى ما ذهب إليه المؤرخ كيفين بيكر من التعبير عن مخاوفه من ان الولايات المتحدة لم تعد بعيدة عن ذلك الوضع الذي كانت عليه روما عام 27 قبل الميلاد قائلا إن الكونغرس سوف يحول السلطات إلى ديكتاتور عسكري وفي النهاية فإننا سوف نتمنى أن يحصل انقلاب على هذا الوضع.
كما أن القائد العسكري انتوني زيني الذي خلف الجنرال فرانكس في قيادة العمليات في الشرق الأوسط راح يعرب عن مخاوفه من الطريقة التي يوسع بها البنتاغون من سلطاته على حساب الوكالات الحكومية الأخرى، متسائلا: بحق الجحيم لماذا تصبح المؤسسة العسكرية هي التي لها حق التعامل بشأن إعادة اعمار العراق؟
ويقول المؤلف إنه يعتقد أن الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني قد قادا البلاد إلى طريق محفوف بالمخاطر ومسدود غير أنه يشير إلى أنهما لم يقوما بذلك بمفردهما ولذلك فإنه يعرب عن اعتقاده بأن خلعهما من الحكم لا يعني بالضرورة حل المشكلة، وهنا يشير إلى أن أزمة الحكومة في الولايات المتحدة .
كما يراها إنما تعود إلى الحرب العالمية الثانية على الأقل، مضيفا أن الأمر الهام ليس هو الخسارة التي لحقت بالبلاد جراء سياسات بوش وتشيني وأتباعهما ولكن كيف أمكن لهما القيام بذلك من الأساس، مع ما هو معروف من قيود قائمة في الدستور تحول دون مثل هذا النوع من سوء الاستخدام للسلطة؟
في إجابته يشير إلى أن النهج الذي اتبعه بوش في إدارته يمثل تحولا عن الهدف الذي وضعه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة من أمثال جورج واشنطن وبنيامين فرانكلين من تخصيص السلطة التشريعية كسلطة أعلى تمثل روح الحكومة الأميركية وهو النظام الذي استمدوه من أطروحات مونتسكيو التي قدمها في كتابه «روح القوانين» في محاولة منهم لإيجاد نوع من التوازن بين السلطات.
وعلى ذلك فإنه يلوم في النهاية الكونغرس بمجلسيه على موافقته على قرار الحرب سواء على أفغانستان أو العراق معتبرا أنه كان لديه من السلطات ما يمكنه من وقف طموحات وخطط الرئيس على أساس إساءته التصرف.
وهنا يخوض المؤلف في تفاصيل النظام الأميركي وصنع القرار ودور الكونغرس في ذلك وتقسيمه إلى مجلسين بما يضمن حسن صياغة القوانين، مشيراً إلى أنه بعد نحو قرنين من صياغة أسس الدستور الأميركي فإن هذا الدستور قد قلب رأسا على عقب على أرض الواقع، فالرئيس الآن يهيمن على الحكومة بطريقة لا توجد في ظل نظام ملكي.
خطر المركب الصناعي العسكري
يذكر تشالمرز جونسون أنه منذ تأسيس الولايات المتحدة وحتى خطاب رحيل الرئيس دوايت أيزنهاور في 1961 حذر بعض قادتنا من الخطر الأكبر للحرب وتأثيراتها ومما سمى بالمركب الصناعي العسكري وذلك في ضوء الحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عام 1941 كاسرة بذلك العزلة التي كانت تفرضها على نفسها الأمر الذي حال دون اشتراكها في الحرب العالمية الأولى.
ويشير المؤلف إلى أن بلاده خاضت العديد من الحروب أو العمليات العسكرية منذ عام 1941 مستعينا في التأكيد على ما يذهب إليه بما قدمه غور فيدال من إحصائيات مشيرا إلى أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي تلقت فيها الولايات المتحدة ضربة على أراضيها، فإن الولايات المتحدة خاضت 201 عملية عسكرية.
ويدعونا المؤلف إلى ملاحظة أنه منذ عام 1947 وفيما استخدمت الولايات المتحدة القوة العسكرية من أجل تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية في العديد من الدول، فإن هذا التدخل لم يحقق الديمقراطية كنتيجة مباشرة بل على العكس فإنه في بعض الحالات الهامة فإن الديمقراطية تطورت في حالات سعت فيها واشنطن إلى تعزيز الديكتاتورية ومن ذلك على سبيل المثال إنهيار النظام الذي ساندته أو أقامته السي أي ايه في اليونان عام 1974.
وفي المقابل فإن الولايات المتحدة تحظى بسجل كبير في مساعدة الأنظمة الديكتاتورية ومن ذلك على سبيل المثال نظام الشاه في إيران والجنرال سوهارتو في اندونيسيا وفوليجنسيو باتيستا في كوبا وأناستازيو سوموزا في نيكاراغوا وأوغيستو بينوشيه في تشيلي وسيسيكو موبوتو في الكونغو زائير وغيرهم الكثير.
بالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة ولعقود طويلة كانت تدير بعض العمليات الإرهابية على شاكلة تلك التي تمت ضد كوبا ونيكاراغوا بسبب سعيهما إلى الحصول على الاستقلال، كما يشير إلى أن الولايات المتحدة عملت على الإطاحة بهوغو شافيز في فنزويلا خلال انقلاب أبريل عام 2002.
وإزاء هذا السجل الحافل من الأعمال التي تؤثر بالسلب على صورة الولايات المتحدة في الخارج يقرر جونسون أن بلاده لن تعرف مرة ثانية السلام إذا لم تلغ السي أي ايه ويتم إسناد عملية جمع المعلومات إلى الخارجية الأميركية ويتم قصر مهام البنتاغون على الدفاع فقط، مؤكدا على أنه حتى في ظل تلك الأوضاع، فإنه يرى صعوبة في تغيير صورة أميركا في الخارج على الأقل خلال جيل.
قتلة بالريموت كنترول
اذا كان المؤلف يرى ان بذور التحولات التي انتابت السياسات الأميركية إنما تمتد إلى عقود مضت فإن محور تركيزه الأساسي في الكتاب يتمثل في سياسات الإدارة الحالية وعلى ذلك يذكر في وصفه لموقف بوش أنه هو ونائبه تشيني ورامسفيلد إنما يعدون قتلة بـ «الريموت كنترول» فهم وقد قبعوا في مكاتبهم يأمرون بقصف بلد لا يملك وسائل الدفاع الجوي عن نفسه ويأمرون بإطلاق صواريخ كروز من الجو على دول لا تملك القدرة على الرد مثل العراق وأفغانستان.
ويضيف أنه على نفس النحو تحول بعض أفراد القوات الأميركية في العراق إلى قتلة وهو ما تمثل في حوادث التعذيب في سجن أبوغريب وهى الأحداث التي لم يقدم أحد من المسؤولين جراءها إلى المحاكمة.
والنتيجة الأساسية التي يشير إليها المؤلف من جراء هذه التحولات هو أن عسكرة السياسة الأميركية انتهت إلى نزع الإطار الأخلاقي منها وفي ذلك يشير إلى العديد من الوقائع والسياسات التي راح المسؤولون الأميركيون يدافعون عنها رغم ما تكشف من عدم التزام بالقيم الإنسانية ومن ذلك ما ذهب إليه أحد المسؤولين في معرض التعليق على قصف قرى المدنيين الأبرياء في أفغانستان حيث قال في تصريحات للتليفزيون الألماني:
«لقد أنفقنا كميات كبيرة من الأموال كما اننا نضع شبابنا وفتياتنا الصغار على خط النار كل يوم من أجل تنصيب حكومة يقبلها الشعب الأفغاني كما أننا نساعدهم على إعادة بناء وتعمير مجتمعهم».
ويشير إلى أن هناك العديد من المؤشرات على فشل القيادة الأميركية عسكريا وسياسيا من بينها القتل المنظم للمدنيين غير المسلحين في أفغانستان والعراق، وكذا إنشاء شبكة عالمية من السجون المعروفة والسرية حول العالم، وهى القضية التي سنفصل رؤية الكاتب بشأنها في حلقة مقبلة، حيث تقوم القوات الأميركية وأجهزة مخابراتها بالتعذيب الروتيني للمعتقلين وكذا فإن الطريقة التي تم بها الإعتداء على بغداد أدت إلى تدمير أحد مقومات الحضارة القديمة في العالم.
تزييف المفاهيم.
يقارن المؤلف بين الطريقة بالغة السوء التي لجأ إليها اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية وبين ما لجأ إليه الأميركيون في حروبهم الأخيرة من تأويلات تحاول التغطية على الجوانب غير الأخلاقية في الحرب، فيشير إلى أن الجنود اليابانيين كانوا يقومون باغتصاب النساء في الدول التي يدخلونها في شرق آسيا ومن أجل التغطية على هذه الجريمة كانوا يستخدمون مصطلح نساء الراحة لوصف تلك النساء.
حيث كان يتم إرسالهن إلى الصفوف الأمامية من اجل الترويح عن الجنود اليابانيين، وعلى نفس الشاكلة فإن الولايات المتحدة راحت تخترع هي الأخرى تعبيرا يخفف من وقع جريمتها في حروبها الأخيرة في أفغانستان والعراق المتمثلة في سقوط العديد من الضحايا من المدنيين ممن لا ذنب لهم، وتصف هذه العمليات بأنها خسائر موازية أو غير مقصودة.
مشيرا إلى ان هذا المفهوم لم يرد ذكره في القانون الدولي الإنساني، على العكس فإنه بمقتضى المادة 3 من هذا القانون فإنه يحظر على القوات العسكرية القيام بأي عمل أو هجوم ضد المدنيين غير المنخرطين في أعمال الحرب، ويجب توفير الحماية لهؤلاء الأشخاص.
ويوسع المؤلف من نطاق رؤيته لهذا المفهوم مشيرا إلى أنه شمل أولئك الأبرياء الذين تضرروا من العقوبات التي فرضت على العراق خلال الفترة من 1991 وحتى 2003 وكذلك قتل المدنيين في العراق وأفغانستان في الحروب التي شنتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر.
وفي تأكيده على طبيعة التوجهات الأميركية التي تستهين بالحياة الآدمية يعرج المؤلف في إطار استعراض هذا الجانب إلى مقابلة تليفزيونية على قناة سي بي أس في 11 مايو 1996 مع مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية حيث راح المذيع يسألها: لقد سمعنا أن نحو أكثر من نصف مليون طفل لقوا حتفهم جراء العقوبات على العراق.
مضيفا أن ذلك الرقم يتجاوز أولئك الذين لقوا حتفهم جراء هيروشيما. فهل ثمن العقوبات يستحق كل هذه الخسائر؟ وقد كانت اجابة اولبرايت: إنني اعتقد أن هذا خيار صعب ولكننا نعتقد أن الثمن يستحق.
ويعلق المؤلف بالإشارة إلى أن أسامة بن لادن راح يضع هذا الرقم كواحد من الأسباب التي دعت القاعدة إلى الهجوم على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر، فيما يبدو منه محاولة لتفسير أبعاد الهجمات على الولايات المتحدة دون تبنيها بالطبع حيث يذكر في موضع آخر أنها لا تنبع حسبما حاول الرئيس بوش وغيره إقناعنا من الحقد والغيرة لنمط الحياة الأميركية وإنما تنطلق من أسباب موضوعية يجب البحث بشأنها في طبيعة السياسة الخارجية الأميركية.
*بالبريد الاليكتروني