سبك الأخبار لتشويه صورة الأخيار
تستطيع تشويه سمعة الآخرين بسرد حقائق ووقائع عنهم مع إخفاء عنصر صغير مهم، فهذا وحده كفيل بتغيير الصورة الناصعة وتشويهها. وكل محاولات تشويه صور الأخيار تنطلق من ذكر أخبارهم الصحيحة لكن مع إخفاء معلومة مهمة تؤدي إلى قلب الحقائق رأساً على عقب.
وفي تاريخنا الإسلامي، تم تشويه صور أخيار كثيرين، ولعل من أفظع ما قام به المرجفون في الأقطار البعيدة عن مركز الخلافة هو تشويه صورة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. فالذين ألّبوا الناس عليه في الأمصار استخدموا الأخبار الحقيقية عنه لتأجيج العواطف ضده دون أن يأتوا على ذكر الأسباب الخفية للأحداث. وقد روى البخاري رحمه الله القصة التالية عما حدث:
(جاء رجلٌ من أهلِ مصرَ حجَّ البيتَ، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من هؤلاءِ القومُ؟ فقالوا: هؤلاءِ قريشٌ، قال: فمنِ الشيخُ فيهم؟ قالوا: عبدُ اللهِ بنُ عمرَ. قال: يا ابنَ عمرَ، إني سائلكَ عن شيءٍ فحدِّثني. هل تعلمُ أنَّ عثمانَ فرَّ يومَ أُحُدٍ؟ قال: نعم. فقال: تعلمُ أنه تغيَّب عن بدر ولم يشهدْ؟ قال: نعمْ. قال: تعلمُ أنه تغيَّب عن بيعةِ الرِّضوانِ فلم يشهدْها؟ قال: نعمْ. قال: اللهُ أكبرُ. قال ابنُ عمرَ: تعالَ أبيِّنْ لك! أما فرارُه يومَ أُحُدٍ، فأشهدُ أنَّ اللهَ عفا عنهُ وغفر له، وأما تغيُّبه عن بدرٍ فإنه كانتْ تحتَهُ بنتُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وكانت مريضةً، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إنَّ لك أجرَ رجلٍ ممن شهد بدرًا وسهمَه). وأما تغيُّبه عن بيعةِ الرِّضوانِ، فلو كان أحدٌ أعزَّ ببطنِ مكةَ من عثمانَ لبعثَه مكانَه، فبعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عثمانَ، وكانت بيعةُ الرِّضوانِ بعد ما ذهب عثمانُ إلى مكةَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بيدهِ اليُمنى: (هذه يدُ عثمانَ). فضرب بها على يدهِ، فقال: (هذهِ لعثمانَ). فقال لهُ ابنُ عمرَ: اذهب بها الآنَ معكَ).
لقد استخدم الأشرار أخباراً صحيحة عن أمير المؤمنين، لكنهم أخفوا أسبابها. وكان من حسن حظ هذا الحاج المصري أن يلتقي بمن يعرف الخفايا، فأوضحها له وفسّر له الأسباب، ثم طلب منه أن يذهب بها إلى الناس في مصر ليوضح لهم الأمر ويعيد الصورة المشوهة إلى حقيقتها الصافية، ويزيد من بياض الصفحة الناصعة لسيرة صحابي جهّز جيش العسرة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ.
ومن أمثلة حياتنا اليومية قصة الفتاة التي لاحظتها زميلتُها أنها تتزين دوماً بباروكة، فشدتها منها فظهرت بلا شعر على الإطلاق، فضحكت الحاضرات من هذه الموضة الجديدة! فقالت الفتاة: وماذا أفعل إذا كان العلاج الكيميائي للسرطان قد أخذ شعري؟ فدمعت عيونهن وقمن إليها يواسينها.
وقصة أخرى، يرويها ستيفن كوفي، عالم التنمية البشرية، وقد سبق أن ذكرتها في مقالتي: لعل له عذراً وأنت تلوم. ومختصرها أنه كان في القطار يقرأ في كتاب، والجو مفعم بالهدوء. وفجأة صعد رجل بصحبة أطفاله فملأ ضجيجهم القطار، في حين جلس الرجل وأغلق عينيه غافلاً عن الموقف كله. فلم يصدِّق ستيفن أن يكون الرجلبهذا القدر من التبلد، فقال له: أطفالك يسببون إزعاجاً للناس! ففتح عينيه وقال: لقد قدمنا لتوِّنا من المستشفىحيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة! فما كان من ستيفن إلا أن طوى كتابه وقام يلعب مع الأولاد. وهكذا وبمعلومة صغيرة تغير الأب من رجل متبلد الحس، إلى إنسان يستحق تعاطف الناس معه.




--