بوح فراغ
أتدري ، كيف تتكثف الغيوم وتتلبد ، تتكدس فوق ظلماتها ظلمات ، وتتكور بنواة أعماقها بؤرة سوداء ممعنة بالسواد المتثاقل بين قبر يرزح في أعماق غابات مجهولة المكان والزمان ، وبين قبر يرقد في سويداء القلب ونقطة العين ؟
حين تمتد ذراع الوطن من تحت تراب الموت المتراكم بأعماق الذهن المتصل بالعقل الراحل من مساحات الوعي إلى مساحات المجهول المؤجج لهيب الشوق والحنين ، لمواطن الميلاد الراقدة جوف العقل المفتوح على أروقة العجز والكساح والشلل .
حين ينهض الوطن من مكمن مخيم طول كرم المزروع على خاصرة جبل الكسارات المرسلة غبارها بأجواء الليمون والبرتقال ، بأجواء النرجس المعطر لرائحة جثث الحمير والأبقار الملقية على حافة وادي الزومر ، المتدفق – فيما مضى – والجاف الآن ، من بين بيارات تنازع الوعورة لتلتحم مع نوار اللوز المدلى كأجراس بيضاء تدق رقة النسيم المتلاطم بين هزيع وشفق ، بين صباح قادم من خلف مزق سواد متفكك .
حين يتنحنح المؤذن قبل أن يرسل نغمات صوته الرائع الرائق في طيات كل ما على المدينة والمخيم من اختلافات وتشابكات ، من بشر وحيوان ، من جماد وشبه جماد ، وحين يخرج يوسف شريم ، الشاب المتمكن منه الجنون المطلق ، الناهض على محياه وقسماته ، كل علامات التوتر والإيقاع العازف لمسامات الرجرجة التي تتخلل تقاطيع وجهه المبوز لولا انحراف الدائرة أسفل الذقن نحو الشكل البيضاوي الخادع للنظر ، وهو يرتدي بعز الصيف اللاهب لباس الشتاء القارص ، ليقف على حافة الشارع بمواجهة دكان الصابر المنتصبة على الرصيف المقابل ، بألواح الصفيح المتآكل والمسيطر على كل جزء فيه صدأ الزمن وصدأ الروح .
وحين يقف محمد شمس ، الجزار القادر على نحر مدينة من الخراف والعجول ، وهو يسحب الدخينة تلو الدخينة ، يحشو رئتيه بمتعة الإدمان ، ويملأ روحة بمتعة النحر والدماء النازفة المتصببة كجدول صغير يحمل بين طياته سخونة الروح المتصاعدة كبخار من الدماء المسفوحة بلا رأفة أو رحمة .
وحين يفح شارع العودة ، الذي يشق المخيم ويقسمه إلى نصفين غير متعادلين ، الامتداد نحو الشرق ، والتضاؤل نحو الغرب ، حين يفح لهيبه الغارق بحرارة الزفت المطروق بشمس آب اللاهبة المترعة بجنون الغليان والتوتر ، فتنزاح نحو الظل القادم من زيتونة أو دفلى مزروعة على حافة رصيف ، منداة برذاذ ماء متطاير من خرطوم يغسل الزفت الممتد كصل هائل ، رذاذ يحاول الغوص بتراب متشقق جاف متصدع ، قبل أن تسحبه الشمس إلى فضاء غير معلوم .
حينذاك ، تطرقك الذكرى من باب الموت الهاجع فيك ، تنظر نحو الخلف ، جليد متماسك ، تنظر نحو الإمام ، جليد متصلد ، تدور براسك يمنة ، جليد متماسك ، ويسرة ، جليد ممتد إلى ما لا نهاية .
تراقب الأشجار ، فتبدو كعجائز ، متورمة ، تقتحمها الدوالي المزروعة بالسيقان والأفخاذ ، وتعلو سيقانها الغليظة فطريات وطحالب تتكوم وتتكالب على ذاتها لتشكل بقعا من نتانة تغزو العين الباحثة عن روح النبات المتفجر بالحياة والخضرة ، الأغصان الضخمة الملتفة على ذاتها وعلى الساق ، تبدو حدباء مرهقة من قساوة الثلج المتراكم ، وكآبة الليل الطويل الطويل .
تتقدم نحو الجدول ، تنبش ذاتك عن فرحة المياه الدافقة في عروق الأرض ، لتنثر رائحة التراب والظل ، تظل مرهونا بطبيعة جامدة ، تجري وفق معطيات الحزن والكآبة التي تلف المكان منذ عهود طويلة ، تسير فتظن أن بينها وبين عروق الكون خلاف لا تجمعه طبائع التكوين الفطري للطبيعة ، فالأرض المشقوقة بمئات آلاف الجداول والغدران والأنهار ، لا ترسل روائح تنبه خلايا الدماغ بحياة الأرض المسحوبة من حياة الماء المتدفق هنا وهناك .
تقتحم المسافات ، تقف على بحر الشمال ، تبحث وتنقب ، بخبرة أجيال عرفت شاطىء أم خالد وتل الربيع وحيفا ويافا ، عن زرقة ماء يتلاحم مع مكونات الوجود السماوي والفضائي ، لينزع منهما اللون الأزرق الشفاف المنمنم ببياض الموج القادم وعلى أطرافه زغب الاختلاط بين ألوان فضاءات ممتدة حتى قبة السماء الممتدة إلى ما لا نهاية بقبة الكون المفتوح على المطلق .
يفجؤك اللون القاتم ، الغائص بخضرة رصاصية تثير في النفس نوازع مقلقلة ، تطارد بالعين المفتوحة على أقصاها موج متقدم بتثاقل كائن زاحف من أعراض الموت إلى نقطة الفناء ، تمد نظرك بكل ما تستطيع من قوة ، تشعر بحسرة البحر والموج والشاطىء ، تحس أنين الأفق المجروح بالبعد عن شاطىء الروح المقيم على أعتاب فلسطين ، ترثو كل هذا ، ترثو الأفق والمدى ، وحين تصل لرثاء ذاتك ، تشعر بضربة تطيح بالأحشاء وتمزقها ، تبصق فوق موجة قادمة ، تتناثر الدماء لتمتزج بخضرة رصاصية داكنة .
يسكنك الفراغ ، تتهاوى الأشياء ، تندثر المعاني ، تتبدد المشاعر والرؤى ، تحمل ذاتك المكسورة على ذاتك المشلولة ، تترنح ، تمتد كخيط من هلام ، تبحث بين الجدران ، فلا تجد سوى ألواح من خشب ملونة بالأصفر والأحمر والأخضر والرصاصي ، تنظر للناس ، وجوه تظللها الكآبة ، ويقتحمها الذهول ، تشعر بغصة جارحة ، يشق الغيب وجه يوسف شريم المتوتر الراجف بالجنون ، تشعر بحاجة ماسة إلى لقاء ابدي مع وجهه المبوز لولا التواء الدائرة عند التقاء الذقن .
قالت النفس :
الست أنت من اختار انتزاع الجذر من عمق الآنية المغروسة على باب غرفة الضيوف بمخيم طول كرم ؟ لتزرع جذرك المهجن المخلوط بجينات الآفاق المجروحة بجسدك الطاوي المسافات ، فوق ارض تتمايز وتتباين عن تلك الآنية الفخارية التي لامست أمك ووالدك ؟
قلت :
لا ادري ؟ حقا لا ادري ؟ بين الرغيف وبين أحداق أولادي ، كان القلب ينساب كجدول صغير راعف ، يملأه الخوف والوجل ، ويسكنه الألم والوجع والانهيار والتشظي ، أكان هذا صحيحا ؟ أم بدعا من بدع الخور وقلة العزيمة ؟ ربما هذا وذاك ، وربما ذاك وهذا ؟
قالت النفس :
للحقيقة أوجه عند غيري ، أما أنا فلست منك ، بل أنت مني ، تستطيع أن تقول لذاتك ، أو لي ، أشياء تود قولها ، تود مني تصديقها وقبولها ، تتطلب مني الشفقة على دموع تهطلها لوعة واسى ، علك تستطيع أو تقدر ، أو حتى تحاول أن تستطيع أو تقدر ، أن تستدر عطفي وحنوي عليك ، متسول أنت ، حتى في استدرار العطف والشفقة .
قلت :
نعم ، متسول أنا ، ابكي رجاء خلاص من عذاب النفس ، من عذاب الرحيل والهجرة ، أتدري يا نفس ، إنني بشوق عارم لرائحة الحمير والبغال والأبقار المتحللة على حافة واد الزومر ، بل أنا بشوق عارم لرنين الأجراس المحمولة على أعناق النوق والجمال بغدوها ورواحها بين الزقاق وهي محملة بأكوام الصرار والناعمة والرمال ، أنا بشوق لصوت " أبو العبد البلاصية " وهو يصرخ " إخخخخ " بالجمال لتبرك في مكانها ، أنا بشوق يدفعه شوق لصوت " أبو حرب " آذن المسجد المشرذم المكسر الأجش وهو يصرخ فينا ، بطفولتنا المترعة بالشقاء والخبث واللؤم لإرهاقه وإشعال غضبه ، أنا بشوق لتحانينه الرمضانية ، هو الطويل الفارع الطول ، ولتحانين " أبو إسماعيل " القصير الموغل بالقصر ، أنا بشوق لرؤيتهما وهما يسيران جنبا إلى جنب ، كجلفر في بلاد العمالقة وبلاد الأقزام .
يا نفس ، أنا بشوق لا يحده شوق ، لتحسس جدران منزلنا الحاوي بين مساماته ، صوت أبي وأمي ، أصوات طفولتي وطفولة صنو روحي وفلق قلبي ، أختي إيمان ، أختي التي سبحت وإياها على مصطبة البيت ، فوق ماء دلقناة من برميل حديدي مطلي بلون السهول والسهوب ، أختي التي تختزل بمحياها السماوي الطاهر القادم من فردوس الوجود ، لمحات أمي وضحكتها وانين نكبتها ومرضها .
بشوق إلى صلعة أخي عبد الرحيم ، ذو الوجه العابق بالسماحة ، المشابه لتفاصيل المخيم وتعرجاته وبؤسه ، لأنفه المجدول بالعرق المكوم من قمة الرأس ، لضحكته المنزوعة من أسى المكان والزمان .
بشوق إلى أمي الصغيرة ، أختي صبحيه ، التي لحقت زفتها يوم عرسها بالحجارة وأنا ابكي واصرخ رافضا خروجها من البيت ، أختي التي أحيت بفمي الغارق بالمرارة لفظ أمي بعدما رحل الحنان عن الوجود .
بشوق للبكاء ، البكاء المر الحارق لكل مفاصل وجودي وتكويني ، لمسح قبري أمي وأبي ، الراقدان تحت تراب قرية ذنابة ، بحاجة لملاحقة آثار خطوات والدي على شوارع وأرصفة المدينة والمخيم .
هنا ، وقبل أعوام وقف أبي ، وهنا خفق نعله ، وهنا سقط عرقه ، وهنا خرجت أنته المكسورة ، ولو فتحت الأفق الممتد فوقي ، لاستطعت أن اخرج أنته من مكانها ، لأغمسها بروحي المعذبة ، ولأزرعها بقلبي المصفد بأحاسيس الغربة والاغتراب والرحيل .
هنا ، نعم هنا تماما ، تماهى الحزن مع نظرات والدي المرسلة بريق الألم والوجع ، هنا ، نعم هنا ، كان والدي ينظر إلينا ونحن ننمو ونكبر ، وشعاع من ضياء مجهول يضرب وجوده الملوح بين الأمل والقهر والمجهول .
هنا ، فليصرخ الكون كله مرة واحدة ، هنا وليسقط الكون كله ، هنا ولتحترق الشموس الآفاق والآماد والأقمار والنجوم والكواكب ، هنا ، وليهتز الماضي والحاضر والمستقبل ، هنا ، نعم هنا ، فوق ارض هذه الغرفة ، سقط جسد والدي ، فسقط الكون وانهار الوجود ، هنا ، فقط هنا ، يقف محور الكون والوجود .
هنا ، نعم ، هنا ، مات والدي .
يا نفس ، للشوق الممزوج بالجرح المالح ، نبضات الأرض القادمة من أعتاب الطفولة المندمجة برحلات الصيف والشتاء ، من جبل السيد إلى جبل عطعوط ، ومن جبل الكسارات ، إلى جبال ذنابة وكفا وفرعون وكفر اللبد ، من جبال عنبتا ، إلى جبال بلعا المنتصبة فوق ربى الزمان كعلم غارق في الأفق المبعوج من قمم متصالبة متكالبة .
يا نفس ، للحنين الهادر من قباب الأقصى ، من مسجد عمر بن الخطاب ، من أسوار القدس الراقدة بالأسر ، نكهة الموت في الحلق والأحداق والعيون ، نكهة الموت الساكن قلوب لوعها الهجر وأضناها الاغتراب ، يا نفس لو تعلمين ، فقط لو تعلمين ، كيف يتضاءل الإيمان ويخبو بريقه ، حين ينقذف الإحساس من مرابع التكوين والميلاد إلى صحارى الهجر والهجرة والهجران ، كيف يبكي الأقصى بعيون من غسق مرهون برؤيا تنادي القلوب التي رجفت فوق أرضه وبين جدرانه .
قالت النفس :
بكاء التماسيح ، وعيون لبؤة مهزومة ، نثار الزمن المفكوك من مراحل الوجود ، هباء المكان الراقد في العقل والشعور ، هذا أنت ، وهذه ذاتك ، أتعرف شارع الصمت الممتد خلف بيارة حنون ، المتاخم لجبل آل صوان ، ذلك الشارع المزروع برائحة اللوز والليمون والبرتقال ، برائحة دم الزغلول والبوملي ، برائحة التراب والجذوع والسيقان ؟ ذاك الشارع الذي حباك البوح الصامت والتأمل البليغ ، ذاك الشارع غادرك منذ زمن بعيد ، في ذات اليوم الذي حلقت فيه بآفاق الخروج والهروب والرحيل ، في ذات يوم التحليق ، أفرغتك الأرض كلها من ذاكرتها ، من ذاكرة الخرفيش والقريص والحنون والحناء ، أفرغتك من ذاكرة الصمت الناطق بأبلغ الآيات والأبيات والمقطوعات ، قذفتك كما يقذف الموج حطام الحياة إلى شاطىء مهجور .
قلت :
هناك ، على طرف مخيم طول كرم ، زرعت خطوات طفولتي ، وشقاوة عمري ، احتضنت الأرض بصدري ، منحتها وجيب قلبي ، غذيتها بخفقات روحي ، قطرت في مساماتها من جروح جسدي دما غزيرا ، وزعته هنا وهناك ، بكرم لا يماثله كرم ، وبجود لا يقابله جود ، في السهل الممتد أخفيت حقيبتي المدرسية ، بعد أن قفزت من فوق سور المدرسة هربا من مطراق الرمان بيد الأستاذ ، واقتحمت عش الدبابير ، بقوة جيش عارم ، لارتد موليا الأدبار وأنا اتقي بيدي لسعات دبابير تلاحقني بعزم كتائب خاصة .
وهناك ، على الطرف الآخر للمخيم ، يشهد قن الدجاج على عملية السطو المنظمة المدروسة التي أسقطت شريكي جمال بيد صاحب القن ، لتلقيه بقبضة الشرطي " أبو فاروق العسكري " ليشي بي ، فأساق كخروف صغير نحو مخفر الشرطة ، وفرائصي ترتعش ، لأعود من عقاب القانون ، إلى عقاب أبي ، أبي الذي ما زلت أحس كفة يده الطاهرة تصطدم بخدي لتخض راسي وتوقف أذني .
وهناك على الرصيف المقابل للرصيف الرابض على الجهة اليمنى للمخيم ، كنت ازرع جسدي وأمد جذوري كل صباح ، انتظر " كاملة " ، تلك الفتاة التي ارتوت بعشقي وارتويت بعشقها ، دون أن نتكلم ، أو نتلامس ، دون أن تفصح عن حب يفيض من العينين كجدول من ضياء ونور ، ودون أن تتاح لي ولو مرة واحدة بالعمر الهمس بإذنها الاندلسية التكوين أي حرف من حروف العشق والهوى .
كنت أقف ، وحين تطل من حارة البلاونة ، كانت الأرض تتفتح وتتشقق فرحا وحبورا ، والأشجار تعلو وتتسامق ، تضج بالخضرة والحياة والنبع ، حرارة الجو تتراجع ، لينتشر ظلها على المكان والزمان ، فيبدو المخيم بكل ما فيه من مآسي ، لوحة تنتظم فيها الألوان وتتساوق ووتتناسق ، كطبيعة محبية بنوع من ذهول البراعة والتناغم والانضباط .
وما أن تخرج للشارع ، حتى يبدأ قلبي بالاضطراب ، بالتشتت ، بالفوضى ، تعلوني حمرة تبدو واضحة الشكل من حرارة الوجنتين وغليان الروح ، وحين تلتقي العيون وتتشابك نظرات الوله المتفجر ، كنت اتبعها ، تسير كطير الحجل الفار من الصياد ، لا تعرف كيف تتوزع خطاها فوق الشارع ، وكيف تعود لتنتظم ، رائعة الانتصاب ، كشجر الحور المتسامق ، القابل للطي بأشكال وأشكال ، خلاسية البشرة ، تخرج من مساماتها صحارى العرب ، مواطن قيس وليلى ، قيس ولبنى ، عروة وعفراء ، جميل وبثينة ، لتمتد في تكوين نواتي وبؤري ، شعرها اسود منسدل ، ينازع عتمة الليل والسكون والنقاء والبهاء ، ويسخر من مجهول الغابات الغارقة بظلمة الوجود ، تطأ الأرض بقدمين ، فتشعر بتأوهات التراب الغائص بالعمق شوقا واشتياقا .
قالت بعينيها الماسيتين ، احبك ، قلت بعيني المجروحتين المرمودتين ، احبك .
تحدث المخيم عنا كثيرا ، لكن أحدا لم يملك جملة واحدة تقود إلى لقاء أو حوار ، عرفوا بفطرة الطبيعة البكر ، كيف ينشأ الحب ويتعاظم ، كيف يتوالد العشق ليزاحم ذرات الكون والوجود .
ذات يوم ، وقفت أمد جذوري ، على الرصيف ذاته ، انتظر ظلها ، همسات عشقها وولهها ، كانت الشمس اشد سخونة ، متفجرة غاضبة ، تسلخ إهاب اليوم والدقائق ، وتمزق جلد اللحظات والثواني ، شيء غريب ، يوم غريب ، لحظات ترحل من مفردات اللحظات .
شجنت الجذور الممتدة ، وامتلأ القلب بالكمد ، واشرأبت الهواجس لتعمل بالفؤاد المتلاطم ، " كاملة " لم تطرق الطريق ، لم تنشر ظلها ونداوتها على المكان ، ربما مريضة ، وهل يجرؤ المرض على الاقتراب من بلسم الحياة والبقاء ؟
اندفعت كبركان غاضب مستبد ، وقفت أمام البيت ، أدرت نظري نحو البيارات ، كانت الأشجار كلها قد تحولت إلى صفصاف حزين ، يتدلى نحو الأسفل ، يبكي .
نظرت نحو الباب المفتوح على مصراعيه ، كان خاويا ، حزينا ، تقطنه الغربان ويعلوه البوم ، انتشرت الشمس بالأفق ، ارتطم المكان بالزمان ، غامت الرؤيا .
" كاملة " ، تلاشت ، تبخرت ، ابتلعها المجهول ، رفضت بكل ما فيها من ضجيج الأنثى المتوثبة ، أن تكون غير ما يجب أن تكون ، توحدت مع مجهول الصحارى ، ومجهول الغابات ، عرفت كنه ذاتها ، فاندغمت بتكوينه .
قالت النفس :
ستبقى كما أنت ، تجيد الردح ، تقيم المآتم ، تفتح أبواب العزاء ، تسكب حنظل الدمع ، وتتجرع مرارة الشيح ، تستجدي الشفقة ، لكنك لن تجرؤ على الوقوف أمامي ، فانا اعلم بك منك ، اعلم بخفقاتك المتكومة برحم العذاب الساكن حبلك السري الذي لم ينقطع منذ الميلاد العصي ، هناك ، في غرفة صغيرة ، في " حارة النادي " ، القابلة " أم هاشم " رأت بمجيئك ضياء من نور والق ، قالت : جميل هذا المولود ، ضمتك أمك إلى صدرها ، وتعوذت بالله من شر الحسد ، تلت بصوت مكسور آيات من القرآن ، أصبحت رقما في هذا الوجود ، كائنا يحمل ما تحمل الكائنات من أشياء ، لكنك الآن ، لا تملك من ذاك الطفل شيئا ، حتى امتداد ملامح القسمات والتكوين .
قلت :
يا نفس ، في حارة المطار ، وتحديدا على ماسورة المياه الممتدة من قلب الوطن إلى مرابع الوطن ، كانت مجموعة من أشجار النخيل ، تقف على حافة مركز جيش الاحتلال البريطاني ، الذي تحول إلى مركز للاحتلال الصهيوني ، كنت هناك دوما ، ألهو والعب مع أترابي ، فوق حشيش الأرض الغارق بالخضرة والحياة ، برائحة الأرض النابزة من الأعماق ، وكنا نجمع المسامير الكبيرة ، وقطع الحديد الحادة الرأس من بقايا محلات الحدادة ، لنعود وندقها بأحجار الصوان اللامعة بسيقان النخل ، إمعانا بإيذائها ، دون سبب ، غير أننا كنا نود أن نراها وهي تتهاوى على الأرض ، جثة بدون حياة ، لنغذي شعورا بالمجهول الجائل بصدورونا الصغيرة ، لكنها ظلت صامدة ، تعلو وتعلو ، وكنا نخزن النقمة والاندحار أمامها بصدورنا الحاملة زغب الوجود المتنامي فينا .
وهناك ، كنا نطارد الحراذين ، بالأحجار ، نمسكها ، لنصبغ العشب بدمائها ، نطارد الخنافس المسماة " بأم احمد " ، نمسكها ، نحجزها في قوارير زجاجية شفافة ، لنراها وهي تضيء بالعتمة ، وهي تتلوى ألما داخل القوارير المسجونة فيها .
كانت وهي تنازع البقاء والحرية ، تطير بغضب هنا وهناك ، تثير فينا شعورا من الفرحة ، شعور غريب ما زلت احتضنه بأعماقي ، لكني لا أستطيع وصفه أو الإحساس فيه .
يا نفس ، أتذكري أمي ، تلك الحنونة حنان الأرض على المدى ، تلك النافرة الأنف الراعف بالألم والعذاب والقهر ، تلك التي أخذت معها كل ذكريات الموت والميلاد والبعث .
كنت يومها ، بالحارة الشرقية ، رن الجوال ، جاء صوت زوجي ، أمك ، بتهدج وتكسر .
طويت الأرض تحتي ، انطلقت ممزقا كل الحجب والمسافات ، كشعاع ينازع الكون الضياء ، ووصلت .
كانت الغيبوبة قد غزتها ، تشخر بعنف وقوة ، مطروحة فوق السرير ، كجثة لا حياة فيها ، تحسست قلبي ، شعرت بخواء الكون من الحنان ، تحسست روحي ، فأمسكت مجاهيل الصحارى الغارقة بالانطواء ، أحسست باليتم يقتحمني مرة واحدة ، أماتت أمي ؟
لا ، لا يمكن أن يبقى في الكون ضياء ، لا يمكن أن يبقى بالوجود رحمة ، لا ، أمي أنا لا تموت ، لا يمكن للموت أن يصل لروحها المعذبة المحشوة بالضنك والضنى .
" الحيفاوية " ذات الوجه المشرب بسمرة الأرض وبياض النرجس ، المستدقة الأنف ، المملوءة بالقوة والحيوية والنشاط ، النابضة بالمقدرة والحنو والرأفة ، الرابضة على قطع العذاب الموصول بالعذاب ، بصبر القوة ، وقوة الصبر ، المزاحمة للقهر بذاتها من اجل أن ننعم بلحظة صفاء .
تلك اللبؤة ، لا يمكن للقهر أو المرض أن يصلها ، لا يمكن أن يغتالها أو يسرقها ، لا يمكن للضعف أن يجتاح مركز القوة ونواتها .
قال الأطباء : بصلف المهنة المنزوع من الرحمة ، لتمت بالبيت ، فذاك أفضل لها ولكم ، تعاظم المرض ، وتمكنت الغيبوبة ، ترنح الجسد ، وبدأ يستعد للتهاوي بهوة عاجة بالسواد والمجهول ، ناضلت ، قاومت ، بكل ما تملك من حب واشتياق لتبقى بيننا ، بكت ، فأبكت النجوم والأقمار ، وحين كانت تفيق من غيبوبة ، كانت تنظر إلينا نظرة مغادر ، نظرة مودع بلا عودة أو لقاء ، كنا نشعر بها ، بعمق الألم الزاحف فيها ، وكنا نرسل نظرات استجداء القدر ، كنا نبحث عن المرض ، ننبش كل الأشياء ، لو وجدناه ، لو وجدناه ، لاستطعنا أن نُعَلِّم العالم معنى الانتقام من قوته وسطوته ، معنى انتقام أبناء يقفون عاجزين عن مساعدة أمهم .
يا نفس ، هنا ، في هذا الركن ، فارقت الروح جسد أمي ، فراق ابدي ، وفارقنا الحنان ، فارقتنا الرحمة التي كانت تسير بيننا وفوقنا وتحتنا ، توقف الحب عند نقطة لا يمكن الاستمرار بعدها ، وحين أنزلناها القبر ، أنزلنا قلوبنا وأرواحنا ، وعدنا معفرين بالتراب والوجع والحزن والأسى والذهول ، نبحث في طيات الأيام ، وطبقات الزمن ، عن حب ، عن حنان ، عن رحمة ، عن شفقة ، عن قلب يحس بأحداثنا قبل أن تقع وقبل أن يراها ، عدنا مفرغين خالين ، من كل شيء ينتمي للحياة والفرح ، لنواصل رحلة ما زالت أمي تراقبها بحنو الموت وهي تتلمس الأثير دعاء لبسمة قد تنطبع يوما على شفاهنا المتجمدة .
يا نفس ، تكذبين حين تدعين معرفتك بي أو بحالي ، أنت اصغر كثيرا من لحظة الوقوف فوق راس أمي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ، أنت اصغر من لحظة وقوع الزمن بحفرة المجهول الذي اجتاحنا حين هززناها نستجدي خروج الموت من مفاصل حنانها ورحمتها وشفقتها .
يا نفس ، هناك على شارع العودة ، وعلى شارع نابلس طول كرم ، يقع بريق يمتد ليحيط حارة البلاونة وحارة المطار ، بريق ظل هناك ، يوم حملت ذاتي على وهم الرحيل ، لاحيا بوهم الغربة والاغتراب ، هناك في مدرسة اللاجئين ، ما زالت بقايا مني ، من عرقي ، من دمي ، نزفتها وأنا اعتلي سور المدرسة فرارا من واجب ومن أستاذ بيده مطراق من رمان أو خيزران .
يا نفس ، في ببارة " أبو حمد الله " وببارة " حنون " و " السفاريني " و " قزمار " بقايا من لص صغير ناعم ، سطا يوما على الثمر الناضج الضاج بمتعة لصوصية كانت تظن بان المدينة بأسرها ، بل العالم بأسره يراقبها ، وما زال قن الدجاج الذي سطوت عليه وصديقي ، يعيش في ثنايا الزمن والأثير ، ليحمل من ذاتي ما هو أجمل وأحلى وأنعش .
يا نفس غريب أنا ، هنا ، بأرض لا تعرف رائحة الأم أو الأب ، لا تعرف رائحة العطف والحنان ، بين جدران تبدو شراستها وقسوتها بابتذال غير معهود ، أسير على شوارع لا تعرف ولا تسمع خفق الخطوات ، أسير على شوارع لم تطأها قدم أبي أو أمي مرة واحدة ، فكيف يمكنني احتمال ارض لم تحتضن خطوات أب وأم ، هما لحن وجودي ، وديمومة بقائي ، من اجل ذكرى احملها بين أعطافي واضن على ذاتي بالموت خوفا من ضياعها .
يا نفس ، على ذكرى ما تبقى مني ، فلتقف الكلمات ، وليقف الحوار ، هنا ليقف الزمن والتاريخ والمكان ، بانتظار نسمة من مخيم طول كرم تحملني إلى مرابع الطفولة وعلامات خطوات والدين هما اعز ذكرى وأغلى نغم من حزن وألم اعشقه رغم تنكيله بأعماقي المجهولة .
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 16- 04- 2008