أشار التقرير الأمريكي الذي صدر مؤخرا حول حرية الممارسة الدينية في الجزائر، من طرف خفي إلى شيعة الجزائر، من خلال تثمينه لدور الحكومة الجزائرية في مكافحة السلفية المتطرفة، كما أشاد بدور الحكومة في رفع الحظر المضروب على دخول الكتب غير الإسلامية (الأناجيل)، واستعدادها لإعادة فتح الكنس اليهودية.
ويطرح موضوع التشيع والتشييع في الجزائر بقوة خلال الأشهر المنصرمة، وقد بدأت القضية تأخذ أبعادا خارجية، خصوصا بعد تصريح مقتدى الصدر المثير للجدل في
شهر نوفمبر الماضي، الذي دعا فيه شيعة الجزائر أو “أبناء المذهب الإمامي” كما أسماهم، إلى ” عدم الخوف من الثلة الضالة”، وكان وزير الشؤون الدينية الجزائري قد حذر من خطر التشيع
والتكفير سنة 2014، معلنا بشكل صريح بأن كلا من تيارات التشييع والتكفير تقف خلفها جهات استخباراتية سياسية، ووسط تصاعد حملة لنشطاء جزائريين سميت بـــ ” الحملة الجزائرية لطرد المحلق الثقافي الإيراني” لدى سفارة إيران بالجزائـــر، و التي بلغ عدد المتابعين لها على الفايس بوك لغاية كتابة هذه السطور 12.140 متابع، على خلفية اتهامه بالإشراف على ملف تشييع جزائريين، عاد وزير الشؤون الدينية الجزائري للتصريح قبل أيام، بأن التحقيقات المعمقة التي أجرتها دائرته الوزارية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، تنفي التهم عن أي دور تشييعي تقوم به السفارة الإيرانية في الجزائر.
غير أن مثل هذه التصريحات لم تقنع أصحاب الحملة الذين تابعوا بشكل دقيق على مدار أشهر تحركات الملحق الثقافي أمير موسوي، عبر العديد من ولايات الوطن و أخذه للصور بها، و كيف أنه كان يحضر بعض الملتقيات المتعلقة بالتصوف دون أن توجه له دعوة و يأخذ الصور بها مصطحبا بعض المعممين الذين كانوا يرافقونه، و حسب المدعو محمد الوالي و هو مدون جزائري يحظى بمتابعة كبيرة من طرف مرتادي وسائط التواصل الاجتماعي في الجزائر، فإن جهات أمنية جزائرية خاصة قامت بتقييد حركة أمير موسوي، و عدم السماح له بمغادرة مقر السفارة، و ينقل محمد الوالي عن هذه الجهات بأنها أقدمت على تفكيك العديد من الشبكات السرية التي كان يشرف عليها الملحق الثقافي عبر مختلف ولايات الوطن، غير أن نفس المدون ينقل من مصادره الخاصة بأن الحظر رفع عنه بعد تدخل أمريكي- فرنسي، و هو موقف مغاير تماما لما أقدمت عليه السلطات الجزائرية مطلع التسعينيات، عندما أبعدت الملحق الثقافي الإيراني رفقة الملحق العسكري و خمسة دبلوماسيين آخرين، بعد تبني طهران موقفا مساندا للفيس ( حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظور )، و أعقب هذا التقليص للتمثيل الدبلوماسي بين البلدين قطع تام للعلاقات الدبلوماسية سنة 1993، و التي لم يعد استئنافها إلا سنة 2000، و في هذا السياق من اللافت للانتباه ما صرح به الأسبوع الماضي سيد أحمد غزالي، رئيس الحكومة الأسبق، حيث قال: ” إنّ الجزائر والمغرب العربي كله ليس بمنأى عن مخاطر نظام الملالي الاستبدادي باسم الدين، وبالنسبة للجزائر كنت رئيس الحكومة في عهد المرحوم الرئيس محمد بوضياف، وهو من اتخذ القرار بقطع العلاقات مع إيران”
وأضاف أن: ” الجزائر ارتكبت غلطة جسيمة لما أعادت العلاقات مع إيران بعد سبع سنوات من القطيعة، والمرحوم بوضياف كان قراره صحيحا بقطع العلاقات مع طهران “.
المراحل التي مر بها تشييع الجزائريين:
يقسم الباحثون و المهتمون بموضوع التشيع في الجزائر، ظاهرة التشييع إلى 04 مراحل أساسية، :
المرحلة الأولى: هي المرحلة الممتدة بين 1962 (تاريخ استقلال الجزائر) و سنة 1979 ( العام الذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية في إيران) و قد تميزت هذه المرحلة باستقدام أساتذة من المشرق العربي للتدريس في الجزائر، حيث خلفت حرب التحرير الجزائرية و الفترة المتطاولة التي قضاها الاستعمار الفرنسي في الجزائر ( 130 سنة ) آثارا مدمرة على المجتمع الجزائري، الذي تفشت فيه الأمية و الجهل و الفقر، و قد حمل الأساتذة القادمون من العراق و سوريا و لبنان على وجه الخصوص، بذور التشيع، و مما ساعدهم على ذلك وجود مجتمع جزائري لا تزال مقومات الهوية عنده تلتقط أنفاسها بعد محرقة الاستعمار، حيث لم يكن أغلب الجزائريين يميزون آنذاك بين مختلف التيارات و المذاهب الإسلامية، و قد مثلت هذه المرحلة، مرحلة السرعة الابتدائية، إذ لم يكن للتشييع فيها رافد خارجي يدعمه يمكن أن يشكل نموذجا ملهما للاستقطاب.
المرحلة الثانية: هي المرحلة الممتدة بين عام 1979 ( تاريخ انتصار الثورة الإسلامية في إيران ) و عام 2000 ( مرحلة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان )، و قد تميزت بصعود مدو لنموذج الثورة الإسلامية في إيران، و ما صاحبه من شعارات و تحركات لتصدير الثورة، و الدعاية لاستنساخ النموذج سنيا من طرف حركات الإسلام السياسي، التي كانت ترتبط أغلب قياداتها بمعرفة شخصية بالخميني و كانت تحتفي كثيرا بأنصاره، و قد غلب على التشيع في الجزائر خلال هذه الفترة، طابع التشيع السياسي، و هو تشيع عاطفي غير مؤسس على قناعات فكرية و عقدية، و إنما ينتشر من خلال بريق النموذج و سطوة التجربة الإيرانية، و لا يزال المهتمون بظاهرة التشيع في الجزائر يعانون من صعوبة جمة في تحديد نسبة أو عدد الذين تشيعوا من الجزائريين في هذه المرحلة مقارنة بالعدد الإجمالي المتداول حاليا عن عدد الشيعة في الجزائر ممن تشيعوا فيما بعد، و ذلك نظرا للستار الكثيف من السرية الذي يلف المتشيعون أنفسهم به، و لكن يمكن الحكم مجملا أن الذين تشيعوا في هذه المرحلة، تحول تشيعهم تدريجيا من السياسي إلى العقدي ( و هو تطور طبيعي منطقيا و تاريخيا )، كما أنهم أسسوا أسرا و أصبح أبناؤهم اليوم شبابا أسسوا أسرا بدورهم و الكل يعتنقون المذهب الشيعي.
المرحلة الثالثة: و هي مرحلة الذروة في صعود المد الشيعي، فقد أضيف إلى عامل انتصار الثورة الإيرانية، عامل آخر يمثل وترا حساسا في وجدان الشعب الجزائري، نظرا لارتباطه بالقضية الفلسطينية، حيث صعدت عملية الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان من أسهم حزب الله لدى عموم الجزائريين، و زاد من هذا الصعود النتيجة التي أسفرت عنها حرب 2006 بين الحزب و إسرائيل، و قد شهدت هذه المرحلة نشاطا محموما لتشييع الجزائريين استثمارا في الحدثين البارزين، و يذكر أنور مالك ( و هو ناشط حقوقي جزائري مهتم بموضوع التشيع ) بأن هناك فرق بين تشيع فرد بوصفه حرية اعتقاد، و التشيع كمشروع استخباري لصالح الولي الفقيه، كما يؤكد بأن تشييع الجزائريين تصاعد مع ما تم تسويقه على أنه انتصار لحزب الله سنة 2006، و أن عدد المتشيعين – حسب تقارير مصالح الأمن – وصل إلى خمسة آلاف.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة انطلاق ما سمي بثورات الربيع العربي، و هي مرحلة الصدمة و بداية الانحسار بعد التدخلات الإيرانية الدامية في اليمن و سوريا.
موضوع خطير … وأدبيات شحيحة:
فيما يتعلق بالكتب والأبحاث المنشورة التي تغطي موضوع التشييع في الجزائر، فإنها تظل قليلة، فعلى مستوى الكتب لا يجد القارئ سوى كتاب أنور مالك المعنون بـــ أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر الصادر عن الشروق سنة 2011، وبعض الأبحـاث والمقالات، أبرزها دراسة للدكتور عبد الحفيظ غرس الله بعنوان الشيعة في الجزائر من التحول السياسي إلى ولادة طائفة دينية، ومجموعة من المقالات للأستاذ يحيى بوزيدي.
و عن أسباب تشيع الجزائريين يجمل أنور مالك الأسباب في العلاقات الشخصية في الداخل و الخارج و المجلات و الكتب التي توزع بطرق سرية و الإنترنيت والدعم الإيراني المادي والمعنوي للراغبين في الالتحاق بالمعاهد و الحوزات العلمية في النجف و قم و خاصة لدى الشباب العاطل عن العمل٬ وتساهل الحركات الإسلامية معهم وتزكيتها للشيعة٬ والدعم الرسمي الذي شجع ظاهرة التصوف وتدعيم الزوايا و هذا الذي شكل أرضية خصبة للقبوريين والباطنيين و نشر فكر الأضرحة والأولياء والأوصياء و هي ظاهرة لديها قواسم مشتركة مع عقيدة الشيعة في تمجيد القبور والموتى وتقديسهم، و زواج جزائريات من شيعة لبنانيين وسوريين وخليجيين و غياب مرجعيات دينية رسمية جزائرية.
ما هو حجم الظاهرة … ومن هم رموز التشيع في الجزائر؟
على قلة الأرقام المتواترة حول عدد الشيعة في الجزائر مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان الذي يقارب الأربعين مليون نسمة، فإن باحثا جزائريا مهتما بالظاهرة كنور الدين ختال، يقول بأن مكمن الخطر في التشيع الجزائري أنه تشيع نوعي و ليس كمي، و رغم أن هذه المسألة هي مسألة بديهية إذ أن كل الأفكار المذهبية الوافدة تتبناها عادة النخب ثم تنتشر مجتمعيا شيئا فشيئا، إلا أن التحدي الكبير و الاستثناء الذي يطرحه موضوع التشيع يكمن في أن خلفه دولة إقليمية قوية، و يذكر الكاتب أنور مالك أن 55 % من المتشيعين أنهوا دراساتهم الجامعية، و أن أغلبهم يعمل في قطاع التربية و التعليم، كما أن متوسط أعمارهم يتراوح بين الثلاثين و الأربعين سنة، و أن نسبة 40 % منهم متزوجون و لهم على الأقل طفل واحد، و هذه تعتبر مؤشرات مهمة على مستقبل الظاهرة.
و يختلف التشيع في الجزائر عن نظيره في دولتين مجاورتين هما المغرب و تونس، حيث أصبح التشيع في الأولى تشيعا شعبيا و للشيعة جمعياتهم و مراكزهم و هم يعملون بشكل علني، أما في الثانية فقد نجح التشيع في أن يكون له مرجعياته الدينية العالمية مثل التيجاني السماوي، أما في الجزائر فلا يزال التشيع فيها نخبويا و غير معلن و لم ينجح لحد الساعة في أن يكون مرجعيات ذات مستوى عالمي، و لا يزال عدد النخب الجزائرية التي تشيعت و تعلن ذلك أمام وسائل الإعلام، قليلا جدا، و يمكن هنا أن نذكر اسم الكاتب صادق سلايمية، و المفكر رشيد بن عيسى، كأبرز جزائريين متشيعين.
معاقل الشيعة في الجزائر وأين يجتمعون؟
يؤكد الباحث في شؤون التشيع في الجزائر نور الدين ختال أن الشيعة باتوا ينتشرون في العديد من المدن الجزائرية، موضحا أن لهم بعض الأماكن الخاصة التي يجتمعون فيها باستمرار، من بينها مطاعم فاخرة في أحياء راقية بالعاصمة الجزائرية، كما تعتبر ولايات مثل تبسة، باتنة، سطيف، عنابة، برج بوعريريج، البويرة، وهران، مستغانم، تيارت، معسكر، بلعباس مراكز حيوية لنشاطهم، في حين توصف منطقة عين تموشنت بأنها أبرز معقل للتشيع على المستوى الوطني.
انعكاسات ملف التشيع في الجزائر على الملفات الاقتصادية والسياسية للجزائر
ينبه المحلل السياسي الجزائري رضا بودراع إلى مسألة يراها من وجهة نظره غاية في الخطورة، و هي تسليم صفقة الأمن السيبيري في الجزائر إلى إيران، حيث أصبحت قواعد بيانات الجزائريين في متناول الحرس الثوري و المخابرات الإيرانية.
كما أن أخطر ما ينبه له بعض المتابعين لتطورات الموضوع على الساحة الجزائرية، هو لغز التوافق و التداخل بين المصالح الفرنسية و الإيرانية في تشييع الجزائريين، فكما أشرنا أعلاه أن السفارة الفرنسية كان لها دور في فك قيود الحركة المفروضة على الملحق الثقافي لدى السفارة الإيرانية، فإن هناك جهود حثيثة يرصدها بعض المتابعين تتعلق بتكثيف الجهود لتشييع سكان منطقة القبائل، و هو مسعى يستهدف فيما يستهدفه إعادة توجيه للحركة البربرية المتطرفة ( المعروفة بولائها لفرنسا ) في نسختها العلمانية، لتصبح حركة بربرية متدينة و لكن بنسخة شيعية متناقضة مع التوجه العام للشعب الجزائري، و يشار إلى أن أبرز متشيع جزائري هو المفكر رشيد بن عيسى و هو خريج جامعات فرنسية و ينحدر من منطقة القبائل.
هذا السيناريو الجزائري يحاكي تماما ما حدث في تركيا، و كشفه الانقلاب الفاشل الذي عرفته البلاد مؤخرا، حيث عملت الولايات المتحدة الأمريكية على مدار سنوات على استبدال عنصرها الفعال المتمثل في التيار الكمالي و الحركات العلمانية المتطرفة، بعد أن استنفذت دورها، بتيار ديني يضمن استمرار الولاء لنفس المشغلين، و تمثل هذا التيار في ما يعرف بحركة الخدمة، و يمكن في هذا السياق العودة إلى تقرير مؤسسة راند الأمريكية لسنة 2007، و هو التقرير الذي ضم تفاصيل مثيرة للجدل حول صناعة البدائل الإسلامية لاستمرار الهيمنة.
للتحميل من هنا
المصدر مركز برق للأبحاث و الدراسات