محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب
محمد عيد الخربوطلي
المقدمة....
للكتاب دور كبير منذ القديم، وله مكانته وقيمته وأهميته باعتباره القناة الوحيدة لنقل العلم والمعرفة والفنون والآداب بين الناس، وثقافة الكتاب باقية مهما أخرج لنا العلم الحديث من اختراعات واكتشافات وتقنيات، وأينما يكن العلم فلا بدَّ أن يكون الكتاب موجوداً محترماً ومقدراً، فمن دون الكتاب والكلمة والحرف لا وجود للحياة، ففي البدء كانت الكلمة، وواقعنا الذي نعيشه يؤكد أن الحرف ما زال سيد الكلمة، وأن الكلمة المكتوبة والمطبوعة ما زالت تحتلُّ مكان الصدارة في حياتنا.
ومع كل الأهمية والمكانة التي حظي بها الكتاب، لم يسلم من نكبات ومصائب وقعت عليه، وعلى مدى العصور كلِّها، حيث نال الكتاب أكبر نصيب من الحرق والإتلاف والنهب والمصادرة والمنع والقمع.
فمنذ العصور القديمة، وخلال مراحل مختلفة من مسيرته الحافلة بالتنوير وإضاءة دروب البشرية، تعرَّض لملاحقات واسعة، من اضطهاد منظم، واستهداف مقصود، متمثلاً بالحرق والتمزيق والمصادرة والمنع، وبقي هذا الأمر مستمراً حتى عصرنا الراهن.
وغالباً ما أشارت أصابع الاتهام إلى السلطة، عندما يتعلّق الأمر بتحديد من يقف وراء ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولأسباب غالباً ما تكون سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية.
سأتناول في هذا البحث بعض المحطات المؤلمة في تاريخ الكتاب... عند بعض الشعوب والحضارات والأمم، فالحكم بالإعدام على الكتب قديمٌ في التاريخ، فالفكر هو الإنسان، ولكن الانتقام من الفكر كان دوماً أشبه بشُرب السيوف من الدماء تُراق، ولكن الحياة لا تموت، وكذلك الكتب تحرق، ولكن الفكر لا يموت، والقصد من إعدام الكتب والمكتبات، وتدميرها وإبادتها، هو الإلغاء للآخر، إلغاء لفكره، وإلغاء لوجوده..! والأمثلة على إعدام الكتب كثيرة، فقد خلّدها التاريخ على صفحاته بأحرف سوداء، فجريمة العبث بمخلفات الفكر الإنساني جريمة لا تغتفر، ولا يمكن تناسيها..!
أولاً ـ محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب في العصور القديمة...
بالعودة تاريخياً إلى الوراء، وقرأنا حياة بعض الحضارات القديمة، وعرفنا تاريخها، وجدنا أن الكتاب كان دائماً ضحية الإرهاب الفكري، الفكر الذي كانت تمثله الطبقة الحاكمة، والطبقة الدينية، وسأذكر من ذلك بعض الأمثلة...
1 ـ ملاحقة الكتاب في الدولة الرومانية...
عُومل الكُتَّابُ في روما بعنف شديد، فقد كان يُحكم بالإعدام أو بالنفي على كل كاتب يتجرأ على السخرية من ممثلي السلطة، أو على التشكيك بالمبادئ الأساسية الاجتماعية ـ الأخلاقية التي تقوم عليها الدولة الرومانية.
وهكذا... فقد كان من المستحيل في عهد الإمبراطور التوقيع باسم صريح على الأعمال التي تتضمن الهجاء السياسي، خاصة إذا كان العمل يتعرض للإمبراطور أو إلى أفراد أسرته، إذ أن مجرد التلميح للسلطة الإمبراطورية كان يقود صاحبه إلى الموت، أو النفي في أحسن حال، ومن الطبيعي أن يحدث هذا في دولة تتمركز فيها السلطة كلها في يد شخص واحد هو الإمبراطور، ويقوم فيها الانتهازيون والمهرجون بالتأكيد على عصمة الإمبراطور من الخطأ، وعلى إقناعه بأنه لم يكن من الأشخاص... بل من الأرباب والآلهة... حتى أنهم يبنون له المعابد وهو على قيد الحياة، ولم يمض وقت طويل، حتى أخذ الأباطرة أنفسهم يؤمنون بهذه الأمور، ويتصرفون كأنهم أرباب على وجه الأرض، ومن الأمثلة الكثيرة لما تعرض له الكُتَّاب في الإمبراطورية الرومانية...
تيتوس لابينوس الخطيب
يعد مصيره في عهد الإمبراطور أوغسطس أفضل مثال لعاقبة التعرض بالنقد لهؤلاء الأرباب، أو للتشكيك في قناعاتهم أو معاونيهم.
كان لابينوس من أنصار بومبي، ولم يكن يخفي اتجاهه السياسي في خطبه وكتاباته، فقد كان المسكين لم يدرك أن عهد الجمهورية قد انقضى، حيث كان الخطباء يعبّرون بحرية عن أفكارهم السياسية، لذلك حكم عليه مجلس الشيوخ بحرق كتبه بشكل علني في روما، ولما غضب من هذا الحكم لجأ إلى الانتحار.
سينكا ـ الكاتب
تنبأ في كتاباته عن الظلم الذي وقع على الكُتَّاب، وكتب ذلك بشيء من التشفي، وتنبأ بأنه سيتعرض هو نفسه إلى نفس مصير لابينوس، وهو ما حصل له فعلاً..!
كاسيوس سيفر ـ الخطيب
أحرقت كتبه، وحكم عليه بالنفي في أيام حكم الإمبراطور أوغسطس، مع أنه كان محباً للأدب، وراغباً بمصاحبة الكُتَّاب ومناقشتهم، ولكنه وبمعية مستشاريه والمقربين منه والمنتفعين تغير.
فابريتسي فيينتون
مسَّ في كتاباته رجال الدين ورجال مجلس الشيوخ، فنفاه نيرون، وأحرق كتبه بشكل علني.
2 ـ الصين
ساهم تطور الأدب والعلم في حضارة الصين القديمة، ولعبت تعاليم كونفوشيوس في ظهور مؤلفات مختلفة، لم تكن تتفق دائماً مع الأفكار والآراء الدينية للأوساط الحاكمة، وفي الواقع... أن موقف السلطات في الصين لم يكن يختلف كثيراً عن موقف السلطات الحاكمة في بلدان أخرى من أمثال هذه الكتب، ولكن ما يشير الاستغراب هو الصراحة التي كان ينهجها الحكام الصينيون في تصفية حساباتهم مع الكتب الغير مرغوبة، أو الخطرة بالنسبة لهم.
وقد قدَّم لنا التاريخ عدَّة حالات عن رقابة الكتب وملاحقتها وحرقها في الصين، خلال العصر الكلاسيكي، ومن أشهر حالات حرق الكتب ما حصل سنة (213ق.م)، حين أخذ الإمبراطور (تشين شي ـ هوانغ ـ تي) بنصيحة المستشار الأكبر (لي سوا) وأمر بحرق كل الكتب، بما في ذلك مؤلفات كونفوشيوس، فجمع الكتب ووضَعها في ساحة عامة كبيرة، وجمع (470) كاتباً وأمر بحرقهم مع مؤلفاتهم في يوم واحد، والسبب الرئيسي في ذلك... أنهم تجرأوا أن يكتبوا ضدّه وضد أفكاره وتعاليمه، وكأنه إله لا يخطئ، ومع ذلك.... فقد استثنى من الحرق كتب الطب والصيدلة والزراعة.
لقد أراد الإمبراطور بهذا الفعل أن يحدَّ من تأثير الكتب المضرة (في نظره) على المجتمع الجديد الذي أراده، المجتمع الذي أراد له أن يتخلص من عبء الماضي، ومن تأثير الأفكار المريضة على حدِّ تفكيره وتفكير مستشاره.
ومما ينبغي ذكره... هو أن الإمبراطور نفسه أمر بحفظ نسخة واحدة من كل كتاب يُحرق في المكتبة الإمبراطورية للإدانة، فتصرفه هذا يعبر عن عقلية بوليسية، بحفظ هذه النسخ من الكتب كأدلة للإدانة.
لكن... هل سلمت هذه الكتب التي أمر بحفظها في مكتبته..؟ يحدثنا التاريخ، أنه في سنة (206م) حصل قتالٌ في شوارع العاصمة الإمبراطورية (هين ـ يانغ)، أدى بدوره إنهاء حكم أسرة تشين، وأثناء ذلك حصل حريق أتى على كل الكتب التي سلمت من الحرق الجماعي السابق.
3 ـ اليونان...
بعد أن أخذ التفكيرُ الحرُ يتطورُ في اليونان، وبعد أن أخذ الفلاسِفَةُ والكُتِّابُ الآخرون يتناولون الموضوعاتِ الاجتماعية والفلسفية من جوانبَ مختلفة، وبعد أن انفصلَ الفكرُ عن خدمة العقيدة والسلطة، كان مُتوقعاً أن يدخل الكُتَّاب وكتبهُم في صِراعٍ مع سلطات الدولة،
وأول ما ظهر هذا الصراع في أثينا، المدينةُ الأكثرُ ديمقراطية في العالم اليوناني.
وأولُ حادثة سجلها التاريخ في مصادرة الكِتاب وإحراقِه في أثينا، حصلت في سنة 411 ق.م، فقد ذكر المؤرخ (روجين) في القرن الثالث الميلاد، أن كتابات الفيلسوف (بروتاغورا) قد أُحرقت بشكل علني في ساحة أثينا المعروفة باسم (الآغورا)، وتعرض المؤلف نفسُه للمحاكمة، فنُفي إلى خارج البلاد، وكل الذي حصل له من محاكمات وإحراق لكتبه، كان سببه لأنه تساءل كفيلسوف عن الآلهة، هل هي موجودة أم لا...؟
لقد ذكر في كتابه المغضوب عليه جملة مشهورة، أثارت غضب مواطنيه، والتي قال فيها: (بالنسبة للآلهة لا أستطيع أن أقطع بوجودهم أو عدم وجودهم..).
هكذا وردت العبارة (مجرد تساؤل) ومع أنه قد عبَّر عن مجرد شك فقط في وجود الآلهة، أي أنه لم يؤكد هذا الشك بشكل قاطع، إلا أن هذا كان كافياً بالنسبة لسكان أثينا لكي يُصفَّوا الحساب معه ومع كتابه بشكل عنيف.
وفي الواقع... أن هذه الحادثة تبدو مثيرة لعدة أسباب، فقد بدأت مع الحادثة سلسلة طويلة من حوادث مصادرة وإحراق الكتب، تلك التي ستصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الكتاب منذ أقدم الأزمان، وحتى هذه الأيام.
ويلاحظ هنا أن هذه الحادثة وقعت في لحظة أزمة، وبالتحديد خلال حرب البيلوبنيز، وسيثبت التاريخ لاحقاً أن إحراق الكتب وملاحقة الكُتَّاب يتم غالباً في أوقات الأزمات، حين تصبح السلطات حسَّاسة جداً من الأفكار المعادية للدولة، على الأقل من وجهة نظر السلطات، وبغضِّ النظر عن أن السلطات الرسمية أو الدينية يمكن أن تخلق وضعاً متأزماً لتبرير حساسيتها إزاء الأفكار الخطرة على الدولة، فلا يمكن أن ننفي وجود الصلة المتبادلة بين الأزمات الاجتماعية (سواء كانت حقيقية أم مفتعلة) وبين إحراق الكتب وملاحقة الكُتَّاب.
وبالنسبة لكتاب (بروتاغورا) فبالرغم من إحراق كافة نسخه في أثينا، إلا أنه بقي يُقرأ في العهود اللاحقة، ويعود ذلك لأحد سببين:
1 ـ إما لأن الذين أَمروا بإحراقه احتفظوا بنسخة منه على سبيل التوثيق والإدانة.
2 ـ أو لميل الناس الغريزي للاحتفاظ بالكتاب الممنوع، (فكل ممنوع مرغوب)، ولو أدَّى ذلك إلى هلاك من يحتفظ بالممنوع.
ومع كل هذا... لا بد من القول.. إن ما حدث لكتاب (بروتاغورا) كان شيئاً نادراً في اليونان، بل شيئاً استثنائياً، ففي ذروة ازدهارهم الثقافي كان اليونانيون ليبراليين للغاية إزاء أفكار فلاسفتهم وأدبائهم، وهذا هو أحد الأسباب في أن الثقافة اليونانية أثمرت أنظمة فلسفية مختلفة، وإنجازات خصبة في الأدب والعلم.
فالأفكار التي كان يخرج بها فلاسفة وكتاب اليونان وحتى حين كانت تهدد بالفعل القيم السائدة في المجتمع، لم تكن تلاحق كما قد يتوقع المرء،باستثناء بعض الحالات النادرة، ومنها حالة فيلسوف أثينا المعروف (سقراط) الذي اتهم بأنه لا يعتقد في الآلهة التي تؤمن بها الدولة رسمياً، وأنه يُفسد الشباب بأفكاره الفلسفية التنويرية، مما اضطره أخيراً إلى شرب السُّم وإنهاء حياته.
ولم تولد فكرة ممارسة الدولة للرقابة في اليونان من قبل المتزمتين أو المسؤولين البراغماتيكيين... إنما كانت لأحد الفلاسفة، فقد بلور الفيلسوف الكبير (أفلاطون) هذه الفكرة، ودعا إلى تطهير بعض أعمال الشعراء في تلك المواضع التي لا تساعد على نمو الشباب الأصحاء في الأجسام والأذهان، أو التي تثير لدى مواطني دولته المثالية بعض الأفكار التي تتعارض مع المبادئ الأخلاقية لهذه الدولة.
كما دعا أفلاطون إلى تطهير أعمال ملاحم هوميروس والمسرحيات اليونانية.
ثانياً ـ محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب في العصور الوسطى في أوروبا....
.... منذ العصر القديم، كان حرقُ الكتب وسيلة مرغوبة للتخلص من الكلمة المكتوبة، ولإرهاب المؤلف والناشر والبائع والقارئ في وقت واحد.
في العصر الوسيط في أوروبا، طُبعت كتبٌ أزعجت الكنيسةَ والحكومات، ووصفوها بالكتب الإلحادية والمعادية للدولة، ولرجال الدين، خاصة أن الكنيسةَ كانت تَخافُ كثيراً من الكلمة في ذلك العصر. وأكبرُ خطر كان الكتَّاب الليبراليون، لذلك لوحقوا وأُحرقت كتبُهم، ومن أهم ما أحرقوه الكتب اللوثرية، ومن هذه الأمثلة نذكر:
1 ـ محاربة (جير ولاموسافونا رولا) للكتب والفن...
من فيرنسا (1452 ـ 1499)
فقد كان يعتبر أن الكتب مسؤولة عن فساد العالم، وكان يدعو في خطبه النارية إلى العودة إلى أصول المسيحية، ويرفض كل ما أوصل الكنيسة والمجتمع إلى تلك الحالة الأخلاقية البائسة في ذلك الوقت. (طبعاً من وجهة نظره) لذلك كان دائماً ينتقد الكتب التي في رأيه أنها سيئة وغير أخلاقية، كما ينتقد أعمال الفنانين مثل اللوحات التي تبرز الجسم العاري للإنسان، والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، لذلك اندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء في فيرنسا ليجمعوا اللوحات والكتب، وليضعوها في الساحة الرئيسية للمدينة، حيث كانوا يجمعون أكوام الحطب ويلقون فوق ألسنة النيران وسط صراخ الحشود كتب أوفيدا وبوكاشيو وغيرهم من الكتاب الذين يعتقدون أنهم غير مهذبين، وقد تكررت هذه العملية مراراً، وأطلقوا عليها اسم (حرق الأباطيل).
نهاية (سافونا رولا)...
ورد عنه أنه كتب بالاستناد إلى أفلاطون الذي كان مع ضرورة منع الأعمال الشعرية التي تفسد الشباب... ما يلي:
[لماذا لا يصدر الحكام القوانين التي تنص على الطرد من المدينة لهؤلاء الشعراء الكاذبين، وترحيل كتبهم، وكتب المؤلفين القدماء التي تتناول أموراً فاضحة، وتمجد آلهة كاذبة، فمن الأفضل بكثير التخلص من هذه الكتب لكي لا تبقى إلا الكتب التي تشجع على الفضيلة....].
ـ لكن الوضع تغير، فقد حكم مجلس المدينة على سافونا رولا بالموت عام 1498م، فأحرق مع جسده في تلك الساحة بالذات كلُّ ما كتبه طيلة حياته.
كما أننا لا ننسى عمليات حرق مؤلفات مارتن لوثر وتلامذته، وبالمقابل إحراق اللوثريين كتب الكاثوليك، وإحراق كتب جون ميلتون، وباسكال، وفولتير، وجان جاك روسو، وبومارشيه، وماركانتون وغيرهم من أعمدة النهضة في أوروبا خلال العصور الوسطى، وبداية عصر النهضة.
ثالثاً ـ محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب عند العرب والمسلمين (الفلسفة نموذجاً):
من المعروف أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم )اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم( ـ اقرأ ـ.
ذكرت هذه الآيات (القراءة ـ التعليم ـ القلم)، وهو استهلال له دلالته وغايته، وهو أذان بما سوف يتنزل به الذكر العزيز، من تقديس للعلم، واحترام للمعرفة، وقد تضافرت على تأييد ذلك كل نصوص الكتاب والسنة فيما بعد.
ويقول الله عز وجل في آية أخرى من الآيات الكثيرة التي تقدس العلم وتدعو إليه )وقل رب زدني علماً(، والعلم في الإسلام، مقصود لذاته، وهو غاية يسعى إليها المجتهدون، واعتبر الإسلام تحصيله من المهد إلى اللحد، سلوكاً يلتزمه العلماء، ابتغاء رضا الله. والعلم في الإسلام شريف كله، وتقاس منزلته، ويعرف قدره، بقدر ما يقدم للناس من خدمة وخير، في معاشهم ومعادهم، وفي الحديث الشريف (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وبالعلم يشرُف الإنسان، ويحسن ذكره، ويعلو قدره، يقول الإمام علي بن أبي طالب:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياء
ومما يذكر أن لفظ كلمة (العلم) وردت في القرآن الكريم، ثمانين مرة، ووردت اشتقاقات العلم (808) مرات، فمما لا شك فيه، أن هذا يرسم صورة واضحة، في بيان مدى اهتمام القرآن الكريم بالعلم والعلماء. ولم يهتم المسلمون بعلوم الدين فقط، فبعد أن وطّن العرب دولتهم الإسلامية الأولى، تطلعوا إلى باقي الشعوب، ففتحوا كثيراً من البلدان، وترجموا ما كتبوه من العلوم، ويذكر أن خالد بن يزيد الأموي (ت 85هـ) كان من أوائل من دعى المترجمين لترجمة علوم الآخرين، ثم نشط سوق الترجمة، فكانت دار الحكمة ببغداد تعج بالمترجمين خاصة الفلاسفة، السريان الذين استعان بهم المسلمون لنقل العلوم، ومما نقلوه للعربية علوم الطب والصيدلة، وعلم الأحياء، والكيمياء، والفيزياء، وعلوم البحار، والرياضيات، والفلك، والجيولوجيا، والفلسفة، وغير ذلك من علوم الأمم الأخرى.
العرب والفلسفة
بعدما ترجمت كتب الفلسفة إلى العربية، حملها العرب من الأعصر القديمة إلى الأعصر الحديثة، فكانوا الأساتذة الذين ثقَّفوا العالم الحديث بنتاج العالم القديم، ففتحوا بذلك أمام التفكير الأوروبي آفاقاً جديدة، وهزوا العقل الأوروبي، وحملوه على البحث والمناقشة في أمور كان يأخذها بالتسليم والخضوع، ثم أنهم مزجوا بين الآراء اليونانية والآراء الهندية في الرياضيات، وكانوا الميدان الذي ركضت فيه الآراء بين الشرق الأقصى وبين الغرب على خيول عربية، ولولا ذلك لما عرف الأوروبيون نتاج العقل اليوناني، ولا مدى الجهود الهندية، ولا اتجاه التفكير الصيني، ولما عرف العالم هذا اللقاح الفكري الذي نُتجت منه تلك العلوم والمعارف منذ مطلع العصور الحديثة، ولما أمكن الغرب، اللاتيني الكاثوليكي أن يتصل بالغرب اليوناني الأرثوذكسي، ولو لم يفعل العرب ذلك، لتوقف سير التمدن والعلوم بضعة قرون.
معنى الفلسفة
الفلسفة في أصلها اليوناني تقابل الحكمة أو البحث عن الحقيقة، وقد وردت في القرآن الكريم )يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكَّرُ إلا أولوا الألباب( (البقرة 269) وجاء في الحديث (الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها) ـ رواه ابن ماجه.
والفلسفة عند الفارابي (إيثار الحكمة)، وعند ابن خلدون (القاعدة التي يهتدي بها العقل إلى التمييز بين الحق والباطل)، ويسمي هذه القاعدة (المنطق)، وثمرته شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين.
والفلسفة على العلوم (علم يهدف إلى كشف قوانين العقل المنظمة لنشاطه توصلاً إلى المعرفة الصحيحة).
1 ـ الفلاسفة وكتبهم ضحية الإرهاب الفكري
في تاريخنا العربي والإسلامي متناقضات عجيبة، ظهرت من اختلاف العقول والمفاهيم والثقافات.
ففي موضوع الفلسفة ظهرت عدة مدارس وأفكار، فهناك فريق أيد الفلسفة ودافع عنها، وصنف الكتب في شرحها والدعوة إليها، وهناك فريق آخر حارب الفلسفة والمنطق، وسفَّه كلَّ من تعلمها أو علمها أو عمل بها.
محاربة الفلسفة
من الذين ألفوا في محاربة الفلسفة: الشهرزوري والغزالي والجويني والباقلاني الذي كتب خمسين ألف ورقة في الرد على أهل الفلسفة.
أما الشهرزوري فقد قال عندما سئل عن الفلسفة والمنطق: (إنَّ الفلسفة أسُّ السَّفَه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشرع، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه أو تعلمه مما أباحه الشرع، وأما استعمال المصطلحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية، فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، فواجب على السلطان أن يدفع شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويعاقبهم، وهؤلاء إن لم يتوبوا... إما يقتلوا، أو يعزلوا في بيوتهم، أو يسجنوا....!
إنه بهذه الفتوى ألغى فلسفات وحضارات كاملة.
ـ هذه المفاهيم سادت طويلاً في تاريخنا...، ففي دمشق ومصر كان هذا الفكر هو المسيطر في العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني، وفي الأندلس خاصة في عصر الموحدين، وكذلك في إفريقيا، حتى بغداد لم تسلم من هذا الفكر، خاصة في أيام السلاجقة ونظام الملك.
الدعوة إلى الفلسفة
وبالمقابل عرف تاريخنا كثيراً ممن صنَّف في الفلسفة وأبرع في ذلك ودافع عنها، لأنه وجد فيها علماً ينشط العقل فيصل إلى المعرفة، لكن معظم هؤلاء عذبوا في حياتهم، أو قتلوا، أو أنهم نفوا، وأحرقت مكتباتهم، وأبيدت مؤلفاتهم، وقد عرف منهم فلاسفة كبار دافعوا عن الفلسفة دفاعاً مميتاً.
ومنهم:
ـ ابن طفيل الفيلسوف الأندلسي (ت 493هـ/1100م)، الذي عرف في أوروبا باسم (أو بيسر)، حازت قصته الفلسفية حي بن يقظان على شهرة واسعة في الشرق والغرب.
ـ ابن باجه السرقسطي، الذي عرف في أوروبا باسم (أفينسبيس)، قتل مسموماً بالمغرب لتعاطيه الفلسفة سنة 532هـ/1138م.
ـ ابن رشد الفيلسوف الموسوعي، عرف في أوروبا باسم أفيروس (ت سنة 595هـ/1198م)، ويعد من أكبر الفلاسفة والمفكرين في تاريخ البشرية، كان لأفكاره تأثير كبير على نمو روح التحرر قبل وإبان عصر النهضة في أوروبا, وصارت جامعة (بادوا) بإيطاليا مركزاً لنشر فكره في أوروبا، ومع ذلك أقصي عن عمله بالقضاء، وأبعد عن الخليفة، وأحرقت مؤلفاته أمام عينيه، وكل ذلك بسبب جمود عقول فقهاء عصره، الذين حاربوا العقل والفكر والتفكير والاجتهاد.
ومن أمثلة حرق المؤلفات الفلسفية، وإبادة المكتبات التي اشتُمَّ منها ريح الفلسفة، أذكر...
إحراق مكتبة عبد السلام الجيلي في رحبة بغداد:
عبد السلام بن عبد القادر البغدادي المدعو بالركن، توفي سنة 611هـ/1214م، قال عنه القفطي... قرأ علوم الأوائل من فلسفة وفلك، وأجادها، واقتنى كتباً كثيرة في هذه العلوم، واشتهر بهذا الشأن شهرة تامة، ونال مرتبة عالية عند الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فحسده كثيرون لقربه منه، فأطلقوا العَنان في بثِّ الدعايات ضده، ومما قالوه عنه، إنه معطل، وإنه يرجع إلى قول أهل الفلسفة، فصودرت كتبه، ووجدت كتب الفلسفة من جملتها، وصدرت الأوامر بمحاسبته، فعين الوقت والمكان، بعد صلاة الجمعة في مكان عام ببغداد يعرف بالرحبة، وأن يحاكم على مرأى ومسمع الناس، وأن تحرق مكتبته كذلك، وكان الحكَمُ فيها عبيد الله التيمي البكري المعروف بابن المارستانية، حيث وضع له منبر، وصعد عليه، وخَطب خطبة لعن فيها الفلاسفة، ومن يقول بقولهم، وصار يَذكره بالشر، وكان يُخرج الكتب المُصادرة كتاباً كتاباً، فيتكلم عليه، ويبالغ في ذمه وذم مصنفه، ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار.
ويقول القفطي... أخبرني الحكيم يوسف السبتي الإسرائيلي، قال:
[كنت ببغداد يومئذٍ تاجراً، وحضرت المحفل (المحرقة) وسمعت كلام ابن المارستانية، وشاهدت في يده كتاب (الهيئة) لابن الهيثم، وهو يشير إلى الدائرة التي مثَّل بها الفلك، وهو يقول: وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء، وبعد إتمام كلامه خرقها وألقاها إلى النار، قال: استدللت على جهله وتعصبه، إذ لم يكن في الهيئة كفر، وإنما هي طريق إلى الإيمان، ومعرفة قدرة الله جل وعز فيما أحكمه ودبَّره].
ثم عوقب بالسجن لاشتغاله بالفلسفة، إلى أن أُفرج عنه سنة 589هـ/1193م.
هذه المأساة التي أحاقت بمكتبة الركن عبد السلام الجيلي، تعد صفحة سوداء من صحائف اضطهاد العلم، ومناهضة حرية الفكر في العصور السابقة.
فهل كان يتوقع عاقل أن تقام حفلات إحراق الكتب في بغداد دار الحكمة، في بغداد عاصمة العلم والكتاب والعلماء.
في بغداد التي فيها تمت ترجمات علوم الأمم السابقة، في بغداد أم مدارس علوم الفلسفة.
ابن المرخم
لأجل الفلسفة وعلومها وتعاطيها، أحرقت مؤلفات القاضي ابن المرخم مع مكتبته التي تضم مؤلفات فلسفية، وبعد ذلك سجن...
إنه أبو الوفاء سديد الدين يحيى بن سعيد، أقضى القضاة ببغداد أيام المقتفي العباسي، جاء في الكامل لابن الأثير والمنتظم لابن الجوزي ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي، أن الخليفة العباسي المستنجد بالله الذي قتل مخنوقاً بالحمام سنة 566هـ أحرق مكتبة ابن المرخم، وورد أنه حبسه وصادر أمواله وأحرق كتبه لوشاية وصلته أن القاضي يرتشي... ولكن وإن ثبتت الرشوة عليه فما ذنب مكتبته، لماذا ينتقم منه في مكتبته الواسعة التي كان فيها الكثير من كتب الطب والفلسفة.
ويؤكد ابن الجوزي أن مما أحرق من مكتبته كتاب الشفاء لابن سينا، وكتب إخوان الصفا، وقد أحرقت في الرحبة، وأكد ابن كثير أنه كان في مكتبته الكثير من كتب الفلسفة فأحرقت كلها، وذلك في سنة 555هـ، 1160م، والحقيقة أنهم ليحرقوا الكتب الفلسفية الموجودة في مكتبته تحيلوا بأنه يأخذ ويتعاطى الرشوة.
الآمدي
ولد علي بن أبي علي بن محمد الثعلبي سيف الدين في آمد سنة 551هـ/1156م، ودرس العلوم العقلية في الشام قبل أن ينتقل إلى مصر، حيث تصدر بالجامع الظافري بالقاهرة سنة 592هـ، وقد أدى اشتغاله بالعلوم الفلسفية إلى رميه بالإلحاد (وهذه التهمة تكفي لقتله) ففر إلى مدينة حماة، ومن مؤلفاته، كتاب في العقيدة صنفه سنة 612هـ، بعنوان (إبكار الأفكار)، وله أيضاً كتاب شرح فيه كتاب الإشارات لابن سينا.
ومن حوادث إحراق كتب الفلسفة، أنه في سنة 548هـ/1153م أمر السلطان الغزنوي بإحراق كل ما كان في علم الكلام، مع كتب باقي الطوائف من الفرق الإسلامية غير السنة، وبعد سنتين أحرق جنود الأمير حسين مكتبة غزنة في أفغانستان، عندما أحرقوا المدينة.
2 ـ الفلسفة في الأندلس
كل العلوم كان لها حظ واعتناء بالأندلس... إلا علوم الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظاً عظيماً عند خواصهم فقط، ولا يُتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل: فلان (يقرأ الفلسفة) أو (يشتغل بالتنجيم)، أطلق عليه العامة اسم زنديق، وقُيَّدت عليه أنفاسُه، فإن زلَّ في شبهة، رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمرهُ للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة.
وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإخراج كتب الفلسفة من المكتبات الخاصة والعامة وبإحراقها علناً، مثل ما فعل المنصور بن أبي عامر، ومع أنه كان محباً للفلسفة، دائم النظر في كتبها، فإنه أخرج كتبها وأحرقها، تقرباً لرجال الدين المتزمتين، وخوفاً من أن يهيجوا العامة عليه.
لماذا يكرهون علوم الفلسفة في الأندلس..؟
الوضع في الأندلس يختلف عن المشرق، فالحياة العلمية في الأندلس لم تشهد صراعات فكرية كتلك التي كانت تحدث في بلاد المشرق، ولعل ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية، وهي:
1 ـ الأندلسيون مالكيون بصفة عامة، والإمام مالك من أوائل العلماء الذين رفضوا الكلام، وعدَّ المشتغلين به من أهل الأهواء، لا تقبل شهادتهم ويجب أن يستتابوا، فما عاد أحد يجرؤ ويتعلم علوم الكلام.
والمتتبع لتاريخ الأندلس الفكري، يرى أن من أبرز سماته الحرص على المحافظة والتقليد.
2 ـ تعلم الأندلسيون من المشرق في رحلاتهم العلمية، علوم القرآن والحديث والفقه والعربية فقط.
3 ـ لم تستطع الفرق التي تسللت إلى الأندلس أن تكوِّن لها قاعدة فكرية عريضة، لذلك تراجعت وانحسرت.
نخلص من ذلك أن الأندلس كانت سُنية في مجال العقيدة، وأن الأندلسيين ساروا على طريقة السلف في عدم التعرض لآيات الصفات بتأويل أو تفسير، وقد استمر المذهب السني هو المعتمد في الأندلس، إلى أن قام بعض العلماء الأندلسيين بالتتلمذ على أئمة المذهب الأشعري في بلاد المشرق، كما قاموا بجلب بعض المصنفات الكلامية لهذا المذهب، وكان ذلك بداية لانتشار المذهب الأشعري بالأندلس.
ـ فقد درس أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني (ت 476هـ) أثناء رحلته للمشرق سنة 434هـ، كتاب (اعتقاد الموحدين) لابن فورك (الذي قتله محمود الغزنوي بالسم سنة 406هـ).
ـ كما درس القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) بعضاً من كتب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478هـ)، مثل كتاب الإرشاد، والشامل، وذلك أثناء رحلته إلى بلا د المشرق، والتي عاد منها سنة 493هـ، ومع ذلك، لم يجرؤ معظم الذين أتقنوا علوم الفلسفة أن يجاهروا بما لديهم من بضاعة، إنما اقتصر نشاطهم على البعض وبالخفاء.
نماذج من حرق كتب الفلاسفة في الأندلس....
مكتبة الحكم المستنصر (961 ـ 976م)، كان الحكم يحتل مكانة خاصة بين الحكام المتنورين العرب، أراد أن يجمع مكتبة قيمة، فأرسل مبعوثيه إلى دمشق وبغداد والقاهرة، ومدن أخرى، لشراء الكتب النادرة بأغلى الأثمان، لذلك جمع مكتبة ضمت 400 ألف مجلد.
وكان لا يُرى في قصره إلا الخطاطون والمزخرفون والمجلدون، وحملة الأقلام والورق والحبر، وعرف عنه أنه لا يتقرب إليه إلا بالكتاب النادر.
وفي عهد حاجبه المنصور أبي عامر الذي كان معتكفاً نوعاً ما على كتب الفلسفة الموجودة في المكتبة، كان يحرص كل الحرص على إخفائها، لكن فقهاء التقليد والجمود المتشنجين هيجوا العامة عليه، وطلبوا منه إخراج كتب الفلسفة لإعدامها حرقاً، ولأنه يحب الرياسة ويخاف على منصبه، نزل عند طلبهم، وأخرج لهم كتب الفلسفة، وأحرقت في الساحة العامة بقرطبة.
ولم يكتف الفقهاء بما أخرجه، إنما دخلوا بأنفسهم، وسحبوا الكتب، واضطروه إلى أن يساعدهم بفعلتهم هذه، ولم يبقوا إلا على ما لم يجدوا فيه شبهة بنظرهم هم، مثل كتب الطب والحساب والدين.
كما أن المكتبة لم تعمر طويلاً، فمن سوء حظها أن البرابرة نهبوها سنة 1013م، وما بقي منها انتهى أمره حين سقطت الأسرة الأموية في الأندلس، وبدأ عصر الدويلات والطوائف.
ـ ابن حبيب القصري
أصابته نقمة المأمون الموحدي، فقتله وصلبه لاشتغاله بالفلسفة وعلوم الكلام.
حريق مكتبة يوسف أبو الحجاج المراني بإشبيلية
كان عنده مكتبة ضخمة في علوم الطب والفلسفة والفلك، وكان يعير أصدقاءه منها، لكنه عدمها حرقها بعدما علم أن أمير المؤمنين علم بها، وما لم يحرقه بنفسه أخذه السلطان، وذلك أيام الموحدين.
لكن يبقى ابن رشد الحفيد، وابن حزم، من أشهر مَن امتُحن بالأندلس.
ابن حزم الأندلسي (394 ـ 456)
عُرف ابن حزم قاضياً وفقيهاً ومجتهداً، وشاعراً أديباً ألمعياً، عده المستشرقون المؤسس الحقيقي لعلم مقارنة الأديان، كان حادَّ اللسان في التعرض لفقهاء عصره الجامدين، لذلك عُذِّب وشرِّد ونفي وسجن، فقد استطاع الفقهاء أن يؤلبوا عليه المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية، وتوصلوا إلى استصدار قرار يقضي بإحراق كتبه علناً... وهذا ما حدث.
وذنب ابن حزم... أنه كان دائماً لا يحب ولا يقتنع بترديد آراء غيره، كما أنه لا يأخذ عن السابقين، إنما كان يعاود النظر في المسائل، وكان مهتماً بتفهم كل شيء، فاستقل بفكره، فقد عرف عنه تفتحه العقلي، لكن هذا الأمر جعله يفضح الفقهاء الجامدين المتنفذين، فرموه بالإلحاد والكفر والضلال، وطاردوه بدعاياتهم في كل مكان، ولما لم يقدروا على إسكاته، استعانوا بالمعتضد حاكم إشبيلية، واستصدروا فتوى بتحريم النظر فيما كتبه، ولولا أن بعض تلاميذه حملوا كتبه إلى الشرق، لما انتشرت كتبه في الآفاق.
وبعدما حرقوا كتبه، خاطب حساده وظالميه قائلاً:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بَدأة
فكم دون ما تبغون لله من سير
أبو الوليد ابن رشد الحفيد (520 ـ 595هـ)
كان عالماً موسوعياً، طبيباً، فلكياً، رياضياً، فيلسوفاً، فقيهاً، منطقياً.
عاش في قرطبة، وحظي على مكانة مرموقة عند الموحدين حكام إشبيلية، فقضى ردحاً من حياته في بلاطهم.
ـ في أول لقاء له مع يوسف بن عبد المؤمن الخليفة، أخفى معرفته بالفلسفة، نظراً للوضع السائد في نفوره من الاشتغال بهذا العلم، لكن محاورة دارت بينهما جعلته يُظهر ما كان يخفيه، ثم انصرف وشجعه على ترجمة وشرح كتب أرسطو الفلسفية، كما ألف ابن رشد عدداً من الكتب والرسائل في الفلسفة، وترجمت كتبه إلى اللاتينية حيث تلقفها الأوربيون وتعصبوا لها.
ـ كان موقف ابن رشد وسطاً، فإن بعض المؤرخين يرون أنه قد خرج في فلسفته بين الفكر الفلسفي المحض، وبين التصورات التي جاء بها الإسلام حول الحياة والكون، ولذلك فهو في موقف وسط بين مهاجمين الفلسفة، وبين ما أعطوها أكبر من حجمها.
ـ لكن الحظ لم يستمر مبتسماً لابن رشد، فكما قربه الساسة من أجل فلسفته، أبعدوه من أجلها أيضاً، فقد نُكب في عهد المنصور وأبعد، ومُنعت كتبه من التداول، وبقي على هذه الحال مدة سنتين، ثم عاد مرة أخرى للمنصور، وتوفي بعد ذلك بقليل.
ـ ومن محنته أن فلسفته جرَّت عليه مقت معاصريه، فانقلب العامة عليه وعلى كتبه بتوجيه من الفقهاء المنتفعين، الذين لم يرحمهم ابن رشد في إظهار حقيقتهم، وفي رواية أن كتبه قد أحرقت.
رابعاً ـ التعصب المذهبي والفكري والطائفي عند المسلمين يدمر مكتبات لا مثيل لها....
عرفنا أن حرق الكتب... يعد من أنكى البلايا التي تحيق بالكتب، وأشدها هولاً، وأبلغها ضرراً على مر العصور والأزمان... فلقد التهمت النيران ألوفاً لا تحصى من المجلدات وأفنتها على بكرة أبيها.
والحق يقال.... لم تكن النار تجد إلى الكتب سبيلاً لو لم يعضدها في ذلك جهل الناس وغباوتهم وتعصبهم وإهمالهم، ولو أننا حاولنا استقصاء الأخبار الواردة في هذا الشأن لطال بنا الكلام وتشعب.
في كتب التاريخ والأخبار، حوادث جمَّة تدل على ما للتعصب من يد طولى في إحراق الكتب، ولقد ضاع كثير من نتاج العقول بسبب الاختلافات المذهبية...
فلا يقر قرار فرقة من الفرق إلا بإتلاف كتب الفرق الأخرى، وليس في الإتلاف والإفناء ما هو أقوى من النار فإنها لا تبقي ولا تذر.
مثلما كانت الفرق المسيحية يحرق بعضها كتب البعض الآخر، لمنازعات مذهبية، كذلك جرى في ميدان المنازعات المذهبية بين السنة والشيعة وباقي الفرق، وقد حصل ذلك في كل أنحاء العالم الإسلامي.
وفعل مثلهم المذاهب في نفس الفرقة الواحدة، مثل ما حصل بين الحنابلة ومخالفيهم، والمالكية والشافعية في الأندلس، فكانت النتيجة أن دارت الدائرة على الكتب، فتلف منها الشيء الكثير، والأمثلة على ذلك كثيرة، ذكرها المؤرخون الثقات.
ومن ذلك:
1 ـ إحراق كتب فقه المذهب المالكي في الأندلس
ساد المذهب المالكي في الأندلس منذ دخوله إليها في عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل (ت 180هـ)، ويجمع المؤرخون على أن زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون (ت 204هـ)، هو أول من أدخل المذهب المالكي إلى الأندلس، وصار إحدى الدعامات التي قامت عليها الحياة العملية والفكرية في الأندلس، فمن الطبيعي أن تكون الدراسات كلها حوله.
كذلك لقي المذهب المالكي المساندة والتأييد من الدول المتعاقبة على حكم الأندلس، باستثناء دولة الموحدين فمنذ دخول المذهب المالكي للأندلس، لم يتعرض لأي محاولة للقضاء عليه، كتلك التي تمت في العصر الموحدي، وهذه المحاولة بدأت بوادرها في عهد عبد المؤمن بن علي وابنه يوسف، وبلغت ذروتها في عهد يعقوب المنصور، الذي أمر بإحراق كتب الفقه المالكية كلها.
وعلى الرغم من إحراق كتب فقه المذهب المالكي، والوعيد الشديد الذي أنذر به المنصور جميع من يتابع الاشتغال بعلم الرأي والمذاهب، إلا أن عدداً كبيراً من علماء الأندلس بقوا مخلصين للمذهب المالكي.
لذلك تعرض بعضهم للسجن والتعذيب والتنكيل، بسبب تحديهم لأمر الخليفة، ومنهم:
ـ أبو بكر محمد بن علي التجيبي ـ ت 596هـ.
ـ أبو الحسين محمد بن محمد بن سعيد بن زرقون ـ ت 621هـ.
واستمرت عمليه إحراق كتب المالكية ثلاث سنوات
ـ يذكر عبد الواحد المراكشي في كتابه (المعجب في تلخيص أخبار المغرب)، أنه شهد أثناء وجوده بفارس إحراق كتب المذهب المالكي.
ـ قصة كتاب المدونة...
بعد ما أُحرقت كل نسخ كتاب المدونة، (وهي من أهم كتب الفقه المالكية والموسوعية)، بأمر المنصور... كتبها أبو محمد عبد الله التالدي من حفظه (ت 597هـ).
ـ لذلك نرى أن القوانين الجائرة والتعذيب والحرق، لم تستطع أن تخرج المذهب المالكي من الأندلس، وبالرغم من نكبة بعض علمائه، خرج الفكر المالكي منتصراً، لأنه تغلغل في أرضية الفكر المغربي والأندلسي، لذلك فلم يكن من السهل أن يتخلى عنه أصحابه، مهما تعرضوا للتعذيب، كالفكرة الطيبة التي إن قتل صاحبها، فالفكرة لن تمت، إنما ستبقى، وستحيا من جديد.
ـ المالكية يحرقون كتب غيرهم
ـ ومن ذلك إحراقهم كتاب إحياء علوم الدين، لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، عندما أدخله بعضهم إلى الأندلس.
ـ طردوا أتباع المذهب الظاهري، وقضوا على كتبهم.
ـ كما كانوا إذا شموا رائحة البدع (من وجهة نظرهم) حركوا العامة، ليناوئوا كل مجدد حقيقي أو مزعوم وتحرق كتبه، حتى ولو كان مجدداً في المذهب المالكي نفسه.. فالتجديد ممنوع.
وهكذا... كان الأندلسيون يتلذَّذون بحرق كتب مخالفيهم في الأعياد، وسواء كان المالكيون غالبين أم مغلوبين... فعلى الكتب كانت تقع النقمة، فالكتاب أولُ ما ينتقم به، كما جرت العادة.
التعصب الطائفي عند المسلمين (سنة وشيعة).
في يقيني أن التدين الصحيح، النابع عن فهم صحيح لجوهر الدين، هو السياج الواقي للأمة وللوحدة الوطنية بمختلف أطيافها، فالمسلم الحقيقي هو الذي يؤمن بأن الله قد خلق الناس جميعاً من نفس واحدة، وأن العباد كلهم إخوة، وأن من سنن الله التي لا تتخلف أن تتعدد الشرائع والمناهج، ولذلك فإن اختلاف الناس في الرأي والمعتقد أمر حتمي، والمسيحي الحقيقي هو الذي يؤمن بأن الله محبة، وأن الإنسان محبة، ولذلك فإن المسيحي الحقيقي لا تكتمل ديانته إلا إذا أحب جميع الناس، ولو خالفوه في المعتقد والتدين. يقول د. عبد الناصر العطار... إن التدين الصحيح الكامل، هو درع للوحدة الوطنية، فالمسيحي إذا تدين تديناً كاملاً سعى إلى المحبة، والمسلم إذا تدين تديناً كاملاً سارع إلى الخيرات.
هذا... إذا اختلفت المعتقدات، أما إذا كنا نناقش الاختلافات في نفس الدين الواحد، والشريعة الواحدة، فمن باب أولى أن لا يكفر بعضُنا الآخر، ولا يلغي أحدُنا الآخر، ففي الحديث الشريف (اختلاف أمتي رحمة) ولكل مجتهد إن أصاب أجران، وإن أخطأ أجر واحد.
فما بالُنا تكفر كل طائفة الأخرى وتلعنها وتخرجها من رحمة الله، وكلاهما على نفس الدين والشرع...؟
ومن سيئات ذلك، أن أحرقت كل طائفة مؤلفات الطائفة الأخرى، وإذا قويت طائفة على طائفة، انتقمت منها، ونكلت بها، وألغتها.
سأذكر أمثلة عمَّا حدث بين السنة والشيعة، لعلّنا نعتبر بذلك...
السياسة تفرق إلى سني وشيعي
ـ حكم البويهيون العراق من سنة 334هـ إلى سنة 447هـ، وكانوا شيعة، شجعوا على نشر معتقداتهم الشيعية، وفي سنة 450هـ تمكن أحدهم ويدعى البساسيري أن يعلن الخطبة من بغداد للخليفة المستنصر الفاطمي.
وزال حكمهم وتفرد بالحكم السلاجقة، وكانوا على النقيض من البويهيين، سنيين متعصبين بطشوا بكل من يدين بغير المذهب السني.
ثم تفككت دولة السلاجقة، وقامت على أنقاضها وحدات سياسية عرفت بعضها بالاتابكيات، ومنها اتباكية آل زنكي في دمشق وحلب، والتي استحوذ عليها فيما بعد صلاح الدين وجعلها نواة للدولة الأيوبية التي أقامها. ومع ذلك بقي الصراع المذهبي قائماً ما بين السنة والشيعة، وعدت الخلافة العباسية كل من ليس سنياً عدواً لها، وابتغى صلاح الدين رضاها، فحارب كل فرق الشيعة.
أهل السنة يحرقون كتب الشيعة والمعتزلة ويصلبون مؤلفيها
ـ أرسل السلطان محمود بن سبكتكين رسالة إلى الخليفة العباسي القادر بالله ببغداد.. يقول فيها:
أنه في سنة 420هـ/1029م حارب الباطنية والمعتزلة والروافض، فصلب منهم جماعة، وحول من الكتب خمسين حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت تحت جذوع المُصَلَّبين إذ كانت أصول البدع.
حرق كتب أبي جعفر الطوسي تعصباً طائفياً.
محمد بن الحسن بن علي الطوسي، من كبار العلماء، ولد بخراسان 385هـ/995م، أقام في بغداد أربعين سنة، ثم رحل إلى النجف حيث توفي سنة 460هـ/1067م.
وسبب رحلته للنجف خوفه من كثرة الفتن الطائفية التي تجددت في بغداد. ذكر ابن كثير في البداية والنهاية... أنه كان مجاوراً بمقام مشهد الإمام علي ودفن فيه، أحرقت داره بالكرخ مع كتبه سنة 448هـ. هذه السنة التي وقعت فيها الفتنة الكبرى بين الشيعة والسنة بين بويه والسلاجقة، وذهب فيها خيرة العلماء.
كان الطوسي لا يشغله إلا العلم، لكن المتعصبين الجاهلين شكوه للخليفة العباسي.. أنه وأصحابه يسيؤون للصحابة، وكتابه المصباح يشهد على ذلك.
فقامت العامة بتحريض من أدعياء العلم ونهبوا داره وأحرقوا كتبه، حتى كرسيه الذي أعطاه إياه الخلفاء العباسيون، ليدرس عليه أحرقوه، وورد أن كتبه أحرقت عدة مرات وترك أكثر من عشر مؤلفات معظمها طبع.
مكتبة سيف الدولة الحمداني تحرق من قبل الروم ومن قبل الشيعة
سيف الدولة الحمداني (303 ـ 356هـ) كان أميراً أديباً ذا ثقافة عميقة، شارك في العلم والأدب، جعل جلساءه أمثال الفارابي والفارسي وابن جني وابن خالويه، والوأ واء الدمشقي، وكشاجم، والشاعر الببغاء، وأبو فراس الحمداني، والمتنبي. وكغيره من الأمراء العلماء، أسس مكتبة ضخمة في حلب، وجعلها عامة وأودعها عشرة آلاف مجلد.
اقتحم نقفور الثاني فوكاس حلب سنة 531هـ/963م بجيوشه الجرارة، فدك أسوارها وأحرق مساجدها وبيوتها، والمكتبات الخاصة، والمكتبة الكبيرة العامة، وبعد ثمانية أيام خرج من حلب، بعدما جعلها قاعاً صفصفا. ثم أعاد بنو حمدان بناء المكتبة، وعززوها، حتى أربى عدد مجلداتها على عشرة آلاف مجلد من جديد، ودمرت ثانية لكن هذه المرة لم يكن دمارها على يد الروم، تقول كتب التاريخ، في سنة 460هـ كان خازنها ثابت بن أسلم، وألف كتاباً بين فيه عيوب الدعوة الإسماعيلية، فغضبوا عليه، وقالوا: إنه يفسد دعوتهم، فسعوا في أن يصلب، فتمكنوا منه وصلبوه، ولم يكتفوا بذلك... إنما أحرقوا المكتبة كاملة، مع ما فيها من كتب خاصة بالشيعة وأهل السنة، فكما هو معلوم كان بنو حمدان من الشيعة.
المكتبة الصوفية بحلب دمرت في يوم عاشوراء
قبل سنة 466هـ وفي أيام المعري ت 449هـ، كان يوجد في حلب مكتبة عرفت بخزانة الصوفية، حافلة بالمخطوطات، وفي يوم عاشوراء حصلت فتنة بين السنة والشيعة فذهبت المكتبة ضحية هذا التعصب، كذلك ذهبت مكتبة الري لنفس السبب.
3 ـ الكتاب ضحية الإرهاب الفكري.
ألغى البعضُ كُتَبَ البعض الآخر، غيرةً وحسداً، وتعصباً وجهلاً، وما فعلوا ذلك إلا ليُلغوا فِكْرَ مَن يحسدونَه، أو يتعصبون ضده، ومن أمثلة ذلك، ما حدث مع بعض كتب أبي العلاء المعري...
كتاب الفصول والغايات للمعري = يمحى تعصباً وجهلاً
شخصية المعري شخصية إشكالية في تاريخنا الأدبي، مثله مثل ابن حزم الأندلسي، وابن رشد الحفيد، والسهروردي وأمثالهم...
فمجرد ذكر اسمه أمام البعض، يرتعدون لذلك، وكأن أفعى قد لسعتهم...
لنذكر قصة مكتبة كان فيها أحدُ مؤلفاته المهمة التي شغلت العرب، كما شغلت كبار المستشرقين أمثال أوجبت فيشر... جاء في معجم الأدباء وغيره:
أن رباط المأمونية يقع في إحدى محلات بغداد القديمة، وكان فيه مكتبة، يقول ياقوت الحموي في ترجمته لابن الدهان النحوي الضرير الواسطي المعروف بالوجيه، توفي سنة 612هـ/1215م. أنه حضر مرة بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذٍ أبو المعالي أحمد بن هبة الله.... فجرى حديث المعري... فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له ابن الدهان: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كتاب (نقض القرآن)، يُريد به كتاب الفصول والغايات، الذي طُبع بعضه في القاهرة، فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه، واستشاط ابن هبة الله، وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا، قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيراً منه، وحاشى لله أن يكون ذلك، فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه، وذلك ما لا شك فيه، فتركه معجزة للقرآن، فلا يجب التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه الخازن ابن هبة الله على الحق وسكت، ولكن الكتاب كان قد ذهب بالغسيل، فما أشطرَنا بإلغاء الآخرين!
خامساً = التعصب المسيحي يحرق مكتبات كثيرة...
1 ـ إحراق المسيحيين اللوثريين مكتبات غيرهم وبالعكس = تعصباً وإلغاء للآخر
ظهر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، على يد (مارتن لوثر) (1483 ـ 1546م) المولود بإيسلبن بمنطقة ساكسونيا بألمانيا، وعلى أتباعه، فانشقت الكنيسة على نفسها، وظهرت الحركات البروتستانتية التي دعت إلى إصلاح الكنيسة، واعتمدت على نشر الكلمة المطبوعة بين الجماهير، مما أدى إلى ازدهار اللغات الوطنية، لأن هذه الحركة دعت إلى استعمال اللغة الوطنية في العبادة بدلاً من اللاتينية.
ونتج عن هذه الحركة الإصلاحية حروب كثيرة جداً، مما أدى إلى إحراق الكتب وتدمير الأديرة والمكتبات، وكان مسرحها في الغالب ألمانيا...
استغل لوثر وأنصاره الكلمة المطبوعة باللغة الوطنية اعتباراً من سنة 1517م فما بعد، حيث انهالت سيول المطبوعات على ألمانيا والبلاد المجاورة، ووجدت بها الحركة الدينية الجديدة سلاحاً من أمضى أسلحتها، مما أدى إلى ازدهارها، خاصة أنهم اعتمدوا على الطباعة الشعبية.
ترجم لوثر العهد الجديد إلى الألمانية، وطبع منها ستة 1522 خمسة آلاف نسخة، وخلال ثلاثة أشهر نفدت الطبعة الأولى، ثم أعيد طبع هذه الترجمة بكميات هائلة وصلت إلى مئة ألف نسخة.
نتج عن هذه الحروب بين اللوثريين والكاثوليك تدمير مكتبات كثيرة، فكل فريق يحرق ويبيد كتب الفريق الآخر، وتقول بعض الروايات أنه أحرقت مكتبات أكثر من ثلاثين ألف دير.
ولكن وإن أحرق اللوثريون كتب الكاثوليك، إلا أنهم لم يغفلوا عن قيمة مخطوطات العصر الوسيط عقب فورة نضالها الأول، فأصدرت الكنيسة البروتستانتية سنة 1577 قراراً ينص على أن كتب الكنيسة القديمة، مثل كتب القداس والمزامير وكتب التوراة المدونة على الورق أو الرق، لا ينبغي التخلص منها، أو استعمالها للتجليد.
طبعاً هذا بعد أن أحرقوا الآلاف الكثيرة مما يريدون الحفاظ عليه، فقد كانت المكتبات الكاثوليكية مليئة بالمخطوطات القديمة.
الكاثوليك الفرنسيين يحرقون كتب مخالفيهم في ساحات باريس
اشتهر في القرون الوسطى في فرنسا تعنت الكاثوليكيين إزاء غيرهم، خاصة اليهود والبروتستانت، خاصة بعد ظهور دعوة مارتن لوثر وانتشارها في معظم البلاد، وكنوع من إلغاء الآخر، أصدر الكاثوليكيون الفرنسيون حكما بإحراق كتبهم وكتب اليهود معاً، ومن هذه الحرائق، ما شاهدته ساحات باريس، حيث حشدوا جميع النسخ المخطوطة للتلمود وغير التلمود ونقلوها على أربع وعشرين عجلة إلى ساحات مدينة باريس، وهناك أضرموا فيها النيران على مرأى من سكان العاصمة فالتهمتها بأجمعها.
ويذكر التاريخ أن القرن السادس عشر شهد كثيراً من حفلات إعدام كتب البروتستانت في فرنسا.
إحراق مكتبة أوكسفورد بإنكلترا....
ومن جملة الحرائق التي أدت إلى خسارة فادحة من الكتب المطبوعة والمخطوطة، والتي سطرها التاريخ بأسف شديد.
الحريق الذي حصل بإنكلترا في القرن السادس عشر، بعد الانقلاب الديني انقلاب (مارتن لوثر)، فإن مكتبات كثيرة أحرقت في ذلك العصر، أهمها مكتبة أوكسفورد الثمينة بمخطوطاتها النادرة، فإن كرمويل (1599 ـ 1658) أبادها في أواخر حياته.
المسيحون يحرقون كتب بعضهم
في الديانة المسيحية طوائف مختلفة، مثل باقي الأديان، وتبارت هذه الطوائف في إلغاء أحدها للآخر.... وكالعادة إن أول ما ينتقم منه هو الكتاب، أياً كان نوعه.
النساطرة واليعاقبة يحرقون كتب بعضهم
فقد حملت الغيرة الدينية فئة من النساطرة واليعاقبة على أن يحرق الفريق منهم كتب الفريق الآخر، لأنه يخالفه في المعتقد أو المذهب أو الرأي، فكل منهم يريد إلغاء الآخر.
(كذلك فعل حفدتهم الكلدان والسريان الكاثوليك في العصور المتأخرة، فإنهم بعد اتحادهم مع كنيسة روما، ألقوا كتبهم القديمة للنار في العراق وسورية وما بين النهرين والملبار وغيرها... لاحتوائها تعاليم مخالفة لتعاليم الكثلكة).
إحراق نسخ كتاب /ذياطسرون/ في الرها وقورش
كان (ربولا ت 435م) علاّمة شهيراً، لكن ساقته الحماسة الدينية، إلى أن يجمع نسخ كتاب العهد الجديد المعروف بعنوان (ذيا طسرون) وأحرقها بأسرها، كذلك نهج نهجه (ثيودريط) أسقف قورش العلامة الكبير، فأتلف من هذا الكتاب مئتي نسخة ونيفاً.
حريق المكتبة الملكية في القسطنطينية تعصباً
ـ في عام (477م) التهمت النار خزانة الكتب التي شادها قسطنس الثاني (531 ـ 361م) ابن قسطنطين الكبير في عاصمة مملكته وكانت تشتمل على (120 ألف مجلد) من المخطوطات الثمينة، فاحترقت كلها، ثم أنشئ على أنقاضها مكتبة ملكية ضمّت (33500) مخطوطاً.
ولما تولى لاون الثالث الأيسوري (717 ـ 741م) عرش القسطنطينية، وكان عدواً للاقليرس، ومُضطِهداً للأيقونات، وجد في عمّال المكتبة خصماً شديداً لدوداً، فانتقاماً منهم أحرق المكتبة عام (726م)، بما فيها، ومَن فيها من الخُزَّان والنُّسَاخ والخُدَّام.
الأريوسيون والنساطرة يحرقون كتب خصومهم
روى عبد يشوع الصوباوي قصيدته التي أحصى فيها مشاهير الكتبة ومؤلفاتهم، أن الأريوسيين أحرقوا ستين كتاباً من تصانيف ديودروس الطرسوسي. وفعل مثل ذلك خصوم نسطور، فأتلفوا مؤلفاته، وجميع الكتب التي تحوي شيئاً من تعاليمه وأحرق برصوما النسطوري سنة 496م طائفة كبيرة من مخطوطات دير الشيخ متى في جبل القاف قرب الموصل بالعراق، لأنها كانت تحتوي على تعاليم مخالفة للنساطرة.
إحراق مخطوطات السريان والأرمن في القسطنطينية
في عام (1061م)، أمر قسطنطين العاشر دوق قيصر الروم (1059 ـ 1067م) أن ينفى من عاصمته كل مَن فيها من السريان والأرمن، أو يخضعوا لتعليم المجمع الخلقيدوني المسكوني، فرفض هؤلاء أمره، وبقوا مصّرين على البقاء في معتقدهم، فأمر الملك بإحضار مخطوطات السريان والأرمن وأنية بيعتهم، وأحرقها بأجمعها في وقت واحد.
ولم يكتف بهذا... إنما أحرق البيعتين التابعتين لهما، ورحَّل عن العاصمة قسوس السريان والأرمن، وعلى إثر ذلك نزع أغلب أبناء الملتين إلى عقيدة القيصر المشار إليه.
مطران غوا البرتغالي يحرق كتب النساطرة الملباريين
في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، اشتهر (الكسيس منش) رئيس غوا البرتغالي، وغوا هي جزيرة في الهند استعمرها البرتغاليون، وفي سنة (1599م)، عقد المطران الكسيس مجمعاً في ديامبر، حضره (813) شخصاً من كهنة النساطرة وأعيانهم الذين انضموا في ذلك العهد إلى الكنيسة الكاثوليكية، وأحدث ذلك المجمع قوانين جديدة لنساطرة الملبار المتكثلكين، أدخلت في مؤلفاتهم الدينية القديمة، ولم يكتف المطران الكسيس بذلك... بل أمر أن تحرق جميع الكتب الطقسية التي كان يستعملها النساطرة في تلك الأمصار، ثم قرر في المواد (14 ـ 15 ـ 16) من أحكام مجمع ديامبر، ما ملخصه.... فلنحرق كتب فروض المجيء والميلاد التي مزّقناها قطعاً قطعاً، ومن حوى مثل هذه الكتب، ولم يرسلها إلى المطران خلال شهرين منذ اطّلاعه على هذا الحكم... فإنه يسقط في الحرم.
الكتاب ضحية الإرهاب الفكري في العصر الحديث...
كما ذكرنا... أن كُتب الفكرِ الإنساني وقعت في أزمات عديدة انتهت إلى الحريق وغالباً ما كان وراء حرقها النزعاتُ السياسية التي تُلبس لباسَ الدين تقرباً من السُّلطة.
ونستطيع القول إن مدرسة التحريم كما سادت قديماً سادت حديثا،ً إنها المدرسةُ نفسُها التي هاجَت على شبلي شميل وفرح أنطون، وعلى طه حسين في كتابه (من الشعر الجاهلي) فابن رشد أُحرقت كتبه في قرطبة بعد أن أوغر علماءُ السوء صدرَ السلطان عليه في موجة التعصب الأعمى وإلغاء الآخر التي اكتسحت فقهاءَ عصره الجاهلين الذين لا هم لهم إلا إرضاءَ السلطة ولو ذهبت كرامةَ العلم والعلماء وكانت حُجتهم.. أن ابنَ رشد كفرَ في بعض كتبه فصارت إلى ألسنة اللهب تلتهمها، وكذلك حلَّ بكتب ابن حزم وابن عربي وابن المارستانية وغيرهم كثير.
ولكن وللأسف.. مع كل التنوير العلمي الذي حصل مع تطور الحياة ونمو الفكر الإنساني.. إلا أن الظلاميين ما زالت تنهمر فتاويهم على كثير من كتب المفكرين المتنورين، هؤلاء يَحسبونَ أنفسَهم أنهم وَكلاءُ الله على الأرض، فيحكمون على هذا بالكفر وعلى ذاك بالتفريق بينَه وبين زوجته، وهذا إلى الجنة وذاك إلى النار.
نسي هؤلاء أن مدرسة التحرير والتنوير تنطلق من تقدير الاجتهاد الفكري والبحث العلمي النزيه (حتى وإن أخطأ)، معتمدة على مبدأ... للمجتهد أجران إن أصاب، وأجراً إن أخطأ.
هذه المدرسة هي التي تقبلت مقالات إسماعيل أدهم (لماذا أنا ملحد) التي نشرها في مجلة الأمام 1937، وردت عليها بمقالات محمد فريد وجدي رئيس تحرير جريدة الأزهر حينذاك بمقالات (لماذا أنا مؤمن) 1937، كما رد عليه أيضاً محمد زكي أبو شادي برسالة أخرى عنوانها (لماذا أنا مسلم).
ودارت مناظرة واسعة شارك فيها فليكس فادي المسيحي الماروني.
لم يرفع أحد سلاحَ التكفير والإلغاء في وجه إسماعيل أدهم الذي بادر في رسالته بالقول: (لماذا أنا ملحد؟) وكلَ ما فعله الآخرون... أن شرحوا وجهة نظرهم والتدليل عليها لماذا هم مؤمنون؟
ومن أمثلة قمع المفكرين والكتاب والمبدعين، الذين ذهبت مؤلفاتُهم ضحية للإرهاب الفكري... في العصر الحديث، وهي كثيرة، وكثيرة جداً.. سأذكر مثالاً واحداً فقط، وهو قصة الدكتور المفكر السعودي عبد الله محمد الغذّامي...
د. عبد الله محمد الغذّامي
تعرض الناقدُ الغِذامي السعودي بسبب أحدِ مؤلفاته إلى محنة كبيرة كادت أن تودي بحياته من قبل مُجتمع مُتشنج لا يُقبلُ الخروجُ من حالته، ولا التطور ولا الانفتاح..
إن من تابع كتاب د. طه حسين في الشعر الجاهلي، وكتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم، وما دار حولهما من لغط، منذ صدورهما حتى يومنا هذا يُلاحظ أن كتابَ الغِذامي وصاحبه قد تعرض لما هو أشدُّ من ذلك وأخطر.
الخطيئة والتكفير
نشر الغذامي في عام 1985 كتاب (الخطيئة والتكفير)، ودخل إلى الساحة الثقافية السعودية حاملاً مصطلح الحداثة، فأحدث هزة عنيفة للعرف الأدبي والثقافي الذي يمنع التجديد، ولم يُحارب من قبل رجال الدين وأوصياء التقوى فقط، إنما حُورب من قبل زملائه في الجامعة، ومنهم من كان متخصصاً في الحداثة، ومع ذلك استمر الغذامي في عطائه، فهو يُصدر الكتاب إثْرَ الكتاب، ومع ذلك فمؤلفاته كلها لا تمر دون أخذ ورد عبر الصحف والمجلات والمنابر الثقافية، فأصدر بعد الخطيئة والتكفير كتاب النقد الثقافي وكتاب المرأة واللغة.
تُهم.....
مما اتُهم به الغذامي... بالماسونية، والخيانة الوطنية، والعلمانية، والتغريب، وكل ذلك صدر من نقاد وأدباء وكتاب ووعاظ مساجد، فمثلاً (د. سعد البازعي)، درس في أميركا، وقدم نفسه على أنه حداثي، لكنه لم يتورع أن يصف زملاءه الحداثيين بالخونة، وبأن فكرهم هذا يعد خيانة وطنية، ومنهجيتهم خيانة ثقافية، كما وصفهم بيهودية الفكر، و(محمد عبد مليباري) يعد نفسه رأس المحافظين، والناطق الأول باسمهم، ومدشن المعركة ضد الحداثيين.
فقد كان يقول هو وأمثاله... بضرورة النموذج التقليدي، ويربطانه بالدين والوطنية، وربطوا الحداثة والفكر باليهودية وخونوا دعاتها.
وبهذا الشكل صدر حول كتابه أكثر من مئتي دراسة، وعدة كتب، وصارت خطب الجمعة تتناوله، فانتشرت أشرطة الوعظ التي تخونه وتخرجه عن الدين.
وقد سئل مرة الصحفي البارز ـ رضا لاري ـ عن الغذامي... فقال... إنه زعيم الحداثيين.. لكنه يصلي.
هذا الجواب فيه إشارة إلى أنه لم يحن قتله بعد.
وعندما أراد من أحدهم أن يعمل عنده عملاً احتاجه، ذهب إلى أحد الشيوخ وسأله عن العمل عنده... هل هو جائز شرعاً، فأجابه الشيخ يجوز قياساً على معاملة أهل الذمة.
ـ سعيد الغامدي يصفه بحاخام الحداثة
أصدر الداعية سعيد الغامدي عام 1988 شريطاً انتشر بصورة رهيبة بين الناس وشباب ما يسمى بالصحوة، وفيه حملة تهييجية ضد الحداثيين، الذين اتهمهم بأنهم خارجون عن الدين، وأنهم خونة للوطن، وهم عملاء للأجنبي لنشر الإلحاد في البلاد، وطالب بالمجتمع وعلماء الدين بأن يضربوا على أيدي هؤلاء، وأخيراً وصف الغذامي بحاخام الحداثة.
(أليس في كلامه هذا دعوة لقتلهم ولممارسة الإرهاب ضدهم!
ـ الغذامي عبد الشيطان
وصفه أحد خطباء الجمعة بعبد الشيطان وليس بعبد الله.
ـ النقد الشرشوري والنظرية الغائطية.
وصف زميل له نقده بالنقد الشرشوري، أما نظرياته فسماها النظرية الغائطية.
ـ وأرسلت رسائل لوالده تصف ابنه بالملحد والمفسد، حتى أن بناته تعرضن للمضايقات في مدارسهن من معلماتهن، وكيف لا...؟ وأبوهن كافر، هكذا سمعوا من الدعاة.
المليباري والغذامي
المليباري يعترف أنه لم يقرأ الكتاب، فقد حرَّم قراءته على نفسه، ومع ذلك... بقي ينشر مقالات ضده، من عام 1985، حتى عام 1990، وهي مقالات يحرض من خلالها الدولة ورجال الدين ضده، حتى صار الغذامي موضوعاً للدعاة وأهل الإفتاء والوعاظ، في خطبهم ودروسهم ولقاءاتهم، كما أن ملصقات المساجد صارت ضده وكثرت أشرطة الكاسيت في مهاجمته، والكتب والفتاوى.
المليباري هذا... الذي نصَّب نفسه حامياً للثقافة التقليدية، وقاضياً على من يخالفها... هو نفسه كان يدافع عن الشعر الحديث... لكن بعد صدور كتاب الغذامي تحوَّل بقدرة قادر إلى مهاجم شرس، وهو أول من اتهم الغذامي بالإلحاد والماسونية، مع أنه اعترف بأنه لم يقرأ كتابه.
د. عبد الله منَّاع
صحفي ليبرالي متفتح، لكنه تصدى لكتاب الغذامي الخطيئة والتكفير، ورأى أن نظريات الكتاب قد ألبست ثقافتنا غير لباسها.
فهو منزعج منه لأنه تعرض لأحد رموز الثقافة المحافظة وشرَّحها، الشاعر حمزة شحاته.
ودعا من خلال مقالاته هذه... إلى قتل الغذامي وسحقه معنوياً ورمزياً.
ـ كتب ضده
صدرت عدة كتب ضده، وكلها خرجت عن النقاش الموضوعي، الذي يتحلى به أهل العلم والنقد، ومن هذه الكتب..
ـ أصدر عوض القرني في عام 1988 في القاهرة كتاباً وهو عبارة عن ترديد لما جاء في شرط الغامدي من تهم وسخافات، وقد صرح القرني أنه باع منه في الأسبوع الأول ثمانين ألف نسخة. (مشروع تجاري مربح، البعض يعرف من أين تأكل الكتف، فيحسنون المتاجرة بعواطف الناس).
ـ وأصدر د. عدنان النحوي كتاب (الحداثة من منظور إيماني)،
خصص فيه فصلين للغذامي، وفصلاً لأدونيس، وفصلاً لكمال أبو ديب،
وخلاصة الكتاب (دعوة لإثارة الفتن، ودعوة للتكفير، أكثر مما هو كتاب علم موضوعي).
فتوى ابن باز
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أدان عبد العزيز بن باز في مقدمته لكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) كل أعلام الحداثة العربية، ووصفهم بالكفر والإلحاد والعمالة للشيوعية والماسونية واليهودية، وقد ضم هذا الكتاب قائمة طويلة بأسماء الحداثيين من مفكرين، روائيين وشعراء وفنانين تشكيليين وموسيقيين ومؤرخين، حتى كُتَّاب السيناريو.
النهاية
وهكذا بقي الغذامي لخمس سنوات يتعرض لحروب نفسية وعقلية واجتماعية، حتى أن من كان يدخل إلى غرفته بالجامعة، يُحارب لأجله، ويُغضب عليه، وإذا أشرف على رسالة لأحد الطلاب أوقفوها، لألا يتكرر أمثال الغذامي في الجامعة، وعندما يئس أعداؤه منه، التجأوا إلى وسيلة أخرى.. ألا وهي دعوتهم لنفيه عن الوطن، ورفع الحصانة المعنوية عنه، وختمه بختم الخيانة ومحاكمته.
وأخيراً...
هذه بعض المحطات المؤلمة التي مر بها الكتاب عبر كل العصور وعند كل الشعوب،وهذا غيض من فيض فالتاريخ مليء بمثل هذه المصائب.
هذا البحث أُولقي محاضرة بمديرية الثقافة في مدينة درعا /2011
ونُشر في مجلة فكر العدد المزدوج/114/115
******************************
الجزء الثالث من محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب عبر العصور
--------
ـ محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب في العصور الوسطى في أوروبا....
.... منذ العصر القديم، كان حرقُ الكتب وسيلة مرغوبة للتخلص من الكلمة المكتوبة، ولإرهاب المؤلف والناشر والبائع والقارئ في وقت واحد.
في العصر الوسيط في أوروبا، طُبعت كتبٌ أزعجت الكنيسةَ والحكومات، ووصفوها بالكتب الإلحادية والمعادية للدولة، ولرجال الدين، خاصة أن الكنيسةَ كانت تَخافُ كثيراً من الكلمة في ذلك العصر. وأكبرُ خطر كان الكتَّاب الليبراليون، لذلك لوحقوا وأُحرقت كتبُهم، ومن أهم ما أحرقوه الكتب اللوثرية، ومن هذه الأمثلة نذكر:
1 ـ محاربة (جير ولاموسافونا رولا) للكتب والفن...
من فيرنسا (1452 ـ 1499)
فقد كان يعتبر أن الكتب مسؤولة عن فساد العالم، وكان يدعو في خطبه النارية إلى العودة إلى أصول المسيحية، ويرفض كل ما أوصل الكنيسة والمجتمع إلى تلك الحالة الأخلاقية البائسة في ذلك الوقت. (طبعاً من وجهة نظره) لذلك كان دائماً ينتقد الكتب التي في رأيه أنها سيئة وغير أخلاقية، كما ينتقد أعمال الفنانين مثل اللوحات التي تبرز الجسم العاري للإنسان، والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، لذلك اندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء في فيرنسا ليجمعوا اللوحات والكتب، وليضعوها في الساحة الرئيسية للمدينة، حيث كانوا يجمعون أكوام الحطب ويلقون فوق ألسنة النيران وسط صراخ الحشود كتب أوفيدا وبوكاشيو وغيرهم من الكتاب الذين يعتقدون أنهم غير مهذبين، وقد تكررت هذه العملية مراراً، وأطلقوا عليها اسم (حرق الأباطيل).
نهاية (سافونا رولا)...
ورد عنه أنه كتب بالاستناد إلى أفلاطون الذي كان مع ضرورة منع الأعمال الشعرية التي تفسد الشباب... ما يلي:
[لماذا لا يصدر الحكام القوانين التي تنص على الطرد من المدينة لهؤلاء الشعراء الكاذبين، وترحيل كتبهم، وكتب المؤلفين القدماء التي تتناول أموراً فاضحة، وتمجد آلهة كاذبة، فمن الأفضل بكثير التخلص من هذه الكتب لكي لا تبقى إلا الكتب التي تشجع على الفضيلة....].
ـ لكن الوضع تغير، فقد حكم مجلس المدينة على سافونا رولا بالموت عام 1498م، فأحرق مع جسده في تلك الساحة بالذات كلُّ ما كتبه طيلة حياته.
كما أننا لا ننسى عمليات حرق مؤلفات مارتن لوثر وتلامذته، وبالمقابل إحراق اللوثريين كتب الكاثوليك، وإحراق كتب جون ميلتون، وباسكال، وفولتير، وجان جاك روسو، وبومارشيه، وماركانتون وغيرهم من أعمدة النهضة في أوروبا خلال العصور الوسطى، وبداية عصر النهضة.
================================================== ============
يتبع-----------------------------------------------------------------