منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    احمد ميشيل عفلق اديبا/كان استاذي يوما...

    احمد ميشيل عفلق اديبا
    كان استاذي يوما ما..وكنت احترمه ايما احترام لجزالة تعليمه وقوة مخزونه الثقافي...
    غير ذلك لم يكن لي به علاقه...
    لكني كنت اكن له كل الاحترام وهو مع بهجت البيطار الذي لايذكر معه غالبا وللاسف هما كانا الشعله في مداسينا وقدما هذا النموذج السياسي معا...
    ادين لهما بقوة لغتي وعطائي الادبي...
    هذا ماقاله لي والد زوجتي: المحكم الدولي: عبد الاله الخاني حفظه الله وعافاه.
    مقال مقتبس:
    بسم الله الرحمن الرحيم

    ميشيل عفلق أديباً
    فؤاد الحاج
    معظم إن لم نقل كل الذين يعرفون الأستاذ ميشيل عفلق إنما يعرفون عنه الاتجاهات الفكرية السياسية وأنه المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي، ولا يعرفون عنه المربي والفيلسوف والمفكر الاجتماعي والشاعر والأديب الذي كتب العديد من القصائد الشعرية ومن أهمها قصيدة (عاصفة) التي نشرت في مجلة (الرسالة) العدد 168 مجلد 3 في 7/10/1935، - تجد نص القصيدة في نهاية هذا البحث - إضافة لتأليفه لعدد من المسرحيات منها القصة الحوارية (موت السندباد) التي نشرت في مجلة (الطليعة) العدد الخامس السنة الثانية سنة 1936، وكذلك عدد من الروايات التي تعالج الأوضاع الاجتماعية، ومنها (إنسان جديد) – نشرت في جريدة (الأيام) 16 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1934- و(رأس سعيد أفندي) – نشرت في جريدة (الأيام) في 21 حزيران/يونيو سنة 1935، و(الصفعة) – نشرت في جريدة (الأيام) في 21 أيار/مايو سنة 1935، وقصة (شيطان نصف الليل).

    في هذا البحث نتناول ما كتبه زهير المارديني عن روايات وقصص الأستاذ ميشيل عفلق، لأن الحديث عن ميشيل عفلق في مطلع حياته الأدبية حديث طويل، متشعب الدروب، ومتعرج المسالك.. ولكن قبل أن نترك سيل قلم زهير المارديني ليكتب عن روايات الأستاذ عفلق كما أوردها في كتابه (الأستاذ قصة حياة ميشيل عفلق)، لا بد من الإشارة إلى بعض ما قاله رواد العروبة الأوائل عن الأستاذ عفلق مثل "جلال السيد، مدحت البيطار، بديع الكسم، عبد الحميد دركل، سامي الدروبي، شاكر مصطفى، نزيه الحكيم، مظهر وصفي، عبد الله عبد الدائم" كما ورد في كتاب زهير المارديني الذي صدر في بريطانيا عام 1988 عن دار الريس للكتب صفحة 88، وغيرهم، من الرواد الذين رافقوا الأستاذ ميشيل عفلق منذ بدايات تأسيس البعث العربي، إضافة للأستاذ صلاح الدين البيطار الرفيق الدائم للأستاذ ميشيل عفلق، والذي "كان صديق الدراسة في باريس، والرفيق لكل خطوة خطاها عفلق، فقد كان معه في التعليم بعد التخرج، وكان معه في الإقصاء عن التعليم، وكان معه في المعارضة وإلى جانبه في السجن"، كما كان معه في الإبعاد والنفي.. "فقد رأت هذه الطليعة المتقدمة.. أن تاريخ ميشيل عفلق الحقيقي، هو تاريخه الفكري، لقد التقى فيه على الانسجام والوفاق أخصب تيارات الفكر الإنساني من (ماركس) إلى (نيتشه)، ومن (جيد) إلى (دستوفيسكي) و(اهرنبورغ) مع أعمق الوعي للتراث العربي"، وللحضارة العربية وتاريخ العرب عبر العصور.. كما وصفه أحد أوائل البعثيين في سوريا، في محاضرة في النادي العربي بدمشق بقوله: "... إن الأستاذ ميشيل عفلق من أبرز أولئك الرواد الذين أقاموا الجسر بين الفكر العربي المتنامي في سورية، وبين القيم الإنسانية في الفكر، فهو من أعمق أولئك القادة الذين أعطوا النضال القومي العربي معناه الثوري المثالي، وإذا كانت الثورة المؤمنة بالعروبة، والحرية قد قادها في سورية الأساتذة، فالأستاذ ميشيل عفلق أستاذ الطليعة الأولى، إنه في تاريخ البعث الحديث ظل ممدود، لا تكفي في تعريفه عدة ريش تنسل من جناحه"..

    ولو ألقينا نظرة عامة على بعض الكتابات المناهضة لفكرة القومية العربية في بعديها الحضاري والاجتماعي نجد أن الذين كتبوا تلك الكتابات كانوا دائماً يحاولون تسفيه الفكرة القومية ويحاولون إلصاق تهمة الهشاشة بهذه الفكرة ويربطونها بفكر الأستاذ ميشيل عفلق، وللتوضيح هنا نقول أن "مفهوم الهشاشة وإلصاقه بالفكر القومي بشكل عام وبفكر الأستاذ ميشيل عفلق بشكل خاص يعود إلى نفر من الكتاب الذين جاهروا بالعداء للقومية والعلاقة بين العروبة والإسلام".. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عز الدين دياب في كتابه الذي يحمل عنوان (مقاربة من مفهوم الدور الحضاري في فكر ميشيل عفلق) الذي صدر عام 2000 عن دار دياب للنشر في القاهرة وبيروت، صفحة 55 وذلك رداً على هؤلاء الكتبة "أما ما يقال عن هشاشة فكر الأستاذ تجاه المسائل الاجتماعية، فهي هشاشة ذلك النفر من الكتاب والمنظرين، لأن هناك مسائل لا يقطع فيها الفكر العلمي، لأن الحتميات عنده غير موجودة في صورتها المطلقة"..

    ويضيف الدكتور عز الدين دياب في كتابه: "ويرى الأستاذ في العمل الحضاري مستوى معيناً من اليقظة.. ولأن اليقظة لها وجهة وهدف وهي عنده في الحضارة العربية "... الانطلاق في العمل وفي الإنتاج لا يقتصر على الإنتاج وإنما يجب أن يذهب إلى أعماق النفس إلى أعماق الشعور بمعنى وجود الإنسان.. لماذا هو موجود على وجه البسيطة؟ لم يوجد عبثاً – له رسالة – هناك معنى لوجود الإنسان ولوجود الشعب وعندها تكون النهضة أصله".. والإنسان عنده هو القوة الفاعلة في الأرض والزمن. غير أن الفعل له شروط مادية وذاتية، ويحدده الأستاذ في الإرادة والإيمان ودوافع ذاتية أخرى..
    مما تقدم نجد أن انطلاقة الفكر الأدبي لدى الأستاذ ميشيل عفلق ومنذ بداياته كان همه الإنسان والواقع الاجتماعي من خلال الانقلاب على واقع حال الأمة آنذاك، ضد الاستعمار العثماني والفرنسي – البريطاني، وهذا ما عمل على تحقيقه من أجل النهوض بحال الأمة والواقع العربي منذ ما قبل الإعلان عن تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي انتشر ليس في سورية فحسب، بل في الأقطار العربية المجاورة، وخصوصاً في العراق والأردن ولبنان ومن ثم في باقي أرجاء البلاد العربية من المشرق إلى المغرب. وقد كان الرواد الجدد ومعظمهم من خريجي الجامعات الذين يلتفون حول الأستاذ ويصغون إليه بصمت واحترام وهو يردد: "لست أصدق أن القرن الكامل من السنين يعجز عن إنتاج أكثر من فرد، أو فردين يمثلون الإنسانية، لقد طال الأمد على الناس وهم يعتقدون الحياة فرنا وحشيا توقد فيه الملايين لاستخراج حبة من الذهب، أني أفكر بكل الذين يتململون في زوايا القبور من ثقل الآمال التي لم يتح لهم المجتمع تحقيقها، ومن كنوز الخير والمحبة التي ما تسنى لهم إظهارها. ما نظرت إلى الاشتراكية يوما كواسطة لإشباع الجياع، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعا، بل للممكنات الموجودة فيه، والتي يحول الجوع دون ظهورها، وإذا سئلت عن تعريف الاشتراكية فلن أنشده في كتب (ماركس) و(لينين)، وإنما أجيب إنها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت.).

    هذه العبارات التي لم تكن مدونة آنذاك في كتب أو نشرات دورية، أو غير دورية، فقد حفظها الرواد عن ظهر قلب وهم يصغون إلى الأستاذ وهو يرددها بأسلوب فريد، ومقنع في أن واحد.
    يقول زهير المارديني عن القصص الأدبية للأستاذ ميشيل عفلق "لم يكن له الكثير من القصص الأدبية، إذ ليس له سوى قبضة من الصور القصصية ما تزال غافية في أوراق الصحف الأدبية القديمة التي يعبث فيها الغبار، لم يجمعها أحد، وحين كنا نسأل الأستاذ عن أسباب إهمالها يفتر ثغره عن ابتسامة حائرة، ويصمت..

    وكانت عباراته القليلة المنتقاة مملوءة نداء ودعوة، كانت تحدث العابرين عن لذات أخرى غير التي تعود الناس عليها في الأدب؟ كانت تعكس لدينا نحن الذين سمعنا بآندريه جيد، وسيمون دي بوفوار، وسارتر ولم يسعفنا الحظ بملاقاتهم، بينما الأستاذ قد سبق له، أثناء الدراسة في باريس، أن حاورهم، كانت تعكس متعاً في الفكر والفن تحسبها هاربة من عالم مسحور!
    (لا يفهمنا إلا المتألمون)! هكذا كان يردد، فنسمع في صوته بعض أصوات الرهبان.

    ولم يكن يكتب في الجو الباهر المزوّق، ولكن القيم الجديدة التي عبّر عنها كانت كالجنات المجهولة تغري بالمغامرة.. ومع هذا فليس لنا هنا إلا الحديث عن الأديب ميشيل عفلق.

    والحديث عنه حوالي سنة 1934- 1936 حين كان النضال عنده نضال الكلمة، لم يكن قد اختار طريق الشوك بعد، ولا تحدد لديه الهدف العملي، ولكنه بالنسبة إلى مريديه كان فيضاً من المثل الجديدة، كله، وجرحاً على الأدب التقليدي، ولا يدرك الهزة التي أدخلها على الجو الأدبي، إلا من قرأ آثاره يومذاك، كانت مملوءة نداء ودعوة.

    كان يقول فيسمع مريدوه في صوته بعض أصداء المصلحين.
    كتب يدعو (نحو حياة مفجعة) – مقال في مجلة (الطليعة) العدد الأول من السنة الثانية آذار/مارس 1936.. "هؤلاء العقلاء- الذين تجسم فيهم الضعف فصار عقلا- لا تسمع لهم، يريدون أن تهرب معهم (من الحياة). زعيقهم ليس خوفا عليك، بل خوفا منك، لأنك تخيفهم بوقفتك وحيدا تصارع العاصفة. ولم لا تكون الحياة فاجعة، وتكون أنت شهيدها؟ إن السادة (العقلاء) آثروا التفرج على التمثيل، والهدوء على النضال، (مع أنك) ترتفع إلى أسمى المعاني في الدقيقة التي تقبل فيها أن تدخل ضمن الدائرة، في قلب الحياة، وتعرض، في هذه المقامرة الإلهية، كل نفسك للخسارة، هذا لا يدخل في حساب العقل، والعاقلون تمنعهم فضيلتهم من الجلوس على الموائد الخضراء! لندعهم وشأنهم، لأنهم موتى من قبل ما ولدوا، ولنتطلع دوما إلى البطل الذي لا يحب الحياة بل يحترمها، لا يشتم القدر بل يحاربه، ويرى في الفشل سر بطولته...).
    وقال: "إن سعادة البؤس خرافة، يتلمظ بها الأغنياء لتهدئة وجدانهم القلق، فالذي لا يملك أن يأكل لا يستطيع المحافظة على إبائه، إن النظام الاجتماعي لم يسلب أكثر البشر قوتهم، بل نفوسهم أيضا.. ويقولون أن للبؤس قيمة فنية، كأنما الفن وحش قذر لا يتغذى إلا من أوساخ الفقر ونتن الفحش، إنّا نطلب إنسانية خالصة من البؤس". – من مقال (خرافة البؤس) عن مجلة الطليعة العدد الأول السنة الأولى 16 آب/أغسطس 1935..

    ورأى في الشعر رأياً كان صفعة لكل شعر الناس: "وجد الشعر ليرجع الإنسان في بضع كلمات مسحورة إلى عهد الوحشية العريق، في القدم وحيدا على الأرض، وحيدا بين الجبال التي تتحفز، والبحار والكواكب. وأبلغ الحالات التي يصل إليها الشاعر هي التي تصبح عبارة عن كلمات معادة أو علامات تعجب واستفهام، وأصوات لغو وإبهام مثل أصوات الحيوانات". من مقال (آراء في الشعر) الطليعة العدد الثاني السنة الأولى 23 آب/أغسطس 1935 - أي فضيحة في هذا الرأي، لكل شعر؟!.
    وما كان بإمكان ميشيل عفلق أن يضرب بقدميه مستنقع الفكر التقليدي دون أن يثير ركوده الكبير. على أنه كان من الجرأة، ومن الثقة بقيمه الفكرية بحيث مد رداءه للأنياب التي أثارها، بذاءة الرجعية، عضة الغوغاء، تهم الإلحاد والمروق، حتى حجارة الرجم.. كل ذلك عرفه عفلق وهو بعد على الصعيد الأدبي.. فالقليل الذي نشره، ووصية (الكلمتين) التي كان يوصي بها تلاميذه أن "أخلصوا لأنفسكم" كان كافيا لأن يكشف خطر الأدب الذي في ضلوعه.

    على أن كل يوم يمض كان يسكت في ميشيل عفلق كلمة ويحيي فيه رغبة في عمل، أخذ يشعر بعدم جدوى الكلمة، إنها ترن وتفتن، ولكنها لا تناضل! إنها إلهية جميلة ولكن بينها وبين الإخلاص الحقيقي خطوة، هي: أن تعاش! وهكذا جعل يتحول منذ سنة 1937، عن الإنتاج الأدبي إلى التربة القومية، أراد أن يعيش فكره ويمتحن آراءه بين مد الحياة والجزر.
    وكسب العمل القومي شيئاً فشيئاً هذا الفكر الخصب، وأوغل به في كل مذهب، بينما ابتعد ما بينه وبين الأدب من سبب، وابتعد... كأنما لم يكن الجو الأدبي بالنسبة إليه، سوى مرحلة التأهب والتلمس، والكشف عن أصالة التيار وصدق التجاوب معه!

    وماذا عن القصة عند ميشيل عفلق؟

    لا تستطيع أن ترى له تلمذة معينة على علم معين من أقطاب القصة، ولكن كتب (جيد) و(دستويفسكي) كانت كتب (المخدة) عنده، ولم يكن يجد في أدب العرب الحديث ما يغريه.

    ولقد سئل في ذلك مرة فقال:

    "قلما أقرأ القصص العربية لأني لا أجد فيها ما يتجاوب مع نفسي ويروي ظمأ فكري.. فإذا ما قرأت قصة لتيمور مثلا أجد فيها أشخاصا ظرفاء، نادرين، يضحكونني تارة ويستثيرون دهشتي تارة أخرى. ولكنهم لا يستفزون حماستي ولا يدخلون إلى قلبي لأني لا أجد فيها الإنسان".



    "أما إذا اشتقت أن أسمع صدى نفسي، فالغريب أني لا أنشده في قصة عربية، بل في قصة روسية أو افرنسية. هكذا تصور لي كتب (دوستويفسكي) و(جيد) نفسي بصدق وأمانة أكثر من الأدباء الذين أعيش وإياهم في بلد واحد، وأشعر بنفس الشعور".. (من استفتاء جريدة (الأيام) عدد الربيع أيار/مايو سنة 1935).

    ونستطيع أن نستشف مفهوم القصة عند الأستاذ عفلق من قوله: "منذ أن بدأ الأدباء في العالم العربي يعالجون القصة، نظروا إليها كشيء طريف خاص يقصرونه على حوادث الحب أو على وصف بعض الحالات الاجتماعية الخاصة (كحياة القرويين أو المتآمرين...) فهم في ذلك يسعون وراء الموضوع القريب الشيق ولا يهمهم الموضوع الإنساني الصادق... إن الأدباء لم يعترفوا بعد أن القصة يجب أن تشمل كل نواحي الحياة وتنفذ إلى اعمق أعماقها كالشعر والفلسفة، ولا أعتقد أن القصة العربية تنجح إلا إذا بطلت تلك الفكرة السائدة بأنها نوع خاص من الأدب، وأصبحت شاملة لكل حياة الإنسان، تدخل في السياسة والاجتماع والفلسفة معا فلا تعود تقرأ للذة والطرافة، بل لاستشفاف الحياة الإنسانية العميقة". (الاستفتاء السابق نفسه).

    "والفن القصصي في سورية ما يزال في دور المحاولة، ولكن القصصيين يتراوحون بين نزعتين: نزعة خيالية تبعد عن الواقع حتى لتكاد تصبح غريبة عن الحياة، ونزعة واقعية تقتصر على أخذ صورة جامدة من الحياة.. لا حياة فيها! والمفصلة هي أن يبقى القصصي ضمن الواقع ويحفظ في الوقت نفسه حرية خياله وقوة شعوره".

    الأستاذ عفلق، بهذا التعريف، يصحح مفهوم القصة لدى الناس، وهي لما تزل في حبوها الأول: لقد بكرت في الضياع عن صراطها الصحيح إذ ظنها الكتاب أشرافا من خارج الحياة، على الحياة، فجاء يردها إلى قلب الحياة الإنسانية نفسها.

    أما في تاريخ القصة فهي نماذج الطليعة الأولى، وعلى الرغم من أنها عسيرة على التلخيص إلا أننا يمكن أن نلم بأجوائها في السطور التالية:

    إنسان جديد

    في صباح يوم من أيام الربيع خرج الأستاذ شاكر إلى الروض ليستريح، لا يذكر الروض أنه رأى الرجل أكثر من مرتين أو ثلاثا.. قلع نظارته وهو يمشي ثم رمى بها ولكنه عاد فالتقطها ومسحها ووضعها في جيبه وجلس على العشب يفكر بموضوع محاضرته عن (الأخلاق عند شوبنهور)، ولكن عصفورة زرقت على ورقته فغضب، ثم عاد فأسلس القياد وتدحرجت العصفورة أمامه:

    - يا سيدي الأستاذ لقد أضعت حياتك!

    وأغضبته الفكرة ولكن الساقية ناصرتها. وأطار النسيم طربوشه فاستسلم للربيع واستلقى على الأرض تاركا نفسه نهب النسيم والساقية وأشعة الشمس، فتح صدره للهواء وتنهد، فكأنما أصبح صدره مضخة سحبت بهذه التنهدة من شخصه كل حياته الماضية وملأته بحياة جديدة.

    قد تكون العصفورة على صواب وأنه ليذكر أن شيئا في صدره كان في صباه يصرخ ويتقد، قلقا لجوجا كالسؤال، ولكنه كان يؤجل الجواب عليه من يوم إلى يوم ومن سنة إلى أخرى حتى فقد حرارته، وخرجت ضفدع تنقنق:

    - انظرن يا أخواتي.. إنه جميل رغم بلاهته!

    وقفزت إلى الماء، وانحنى على الماء بوده لو يخنقها ولكنه وجد صورته مترنحة مع مويجات الماء السكران.. صورة غريبة لم يعرفها، أهي المرة الأولى التي ينظر فيها إلى صورته في حياته؟

    - نعم إنه جميل.
    ونهض يسير.. وأحس بحرارة فخلع معطفه وقميصه، وسار عاري الصدر، ورفع ذراعه بملء قوته، وتأمل عضلاتها وعروقها، ثم ضمها إلى صدره كمعشوقته.

    وسمع استغاثة فركض، وأخرج من النهر فتاة تكاد تغرق، ولكنه شعر وهو يضمها سائرا بها إلى ضفة النهر، أنها حياة جديدة تتسرب إلى دمه ملتهبة كالخمر، سريعة كالسم.

    في اليوم التالي تلقى زميل شاكر في المدرسة، كتابا يخبره إنه الآن يعمل على ظهر إحدى البواخر الإيطالية، يبدأ حياة جديدة، بتر الماضي من كيانه، وقال: (لينشد أولادي طريقهم.. أما طريقي أنا فوجدتها... هي تلك الجزر العجيبة التي أتخيل أني سأحط فيها رحالي عند المساء)..

    ولقد عينه قبطان الباخرة طاهيا، لأن لحيته تدل على أنه طاه ماهر!..

    رأس سعيد أفندي

    خرج سعيد أفندي من بيته مستأنسا بالظلام، فكل نور يطفأ في الشارع كأنه عبء يسقط عنه، كان شديد الرغبة في العزلة فاستأنس بالطريق الموحشة والحوانيت المغلقة والبيوت النائمة.

    لم يكن يقر لها بأي قيمة من قبل وهي الآن أشياء حية تؤنسه.

    توقف وبصق، وذلك عنده علامة التفكير. إنه أمام مفصلة.. كانت كل حركة في الشارع تثيره وبصق مرة أخرى يفكر: كيف يهرب من فكره؟ لم تخطر له المشكلة من قبل ولكنها تبدو معقولة جدا!

    وأطل القمر، فامتد لسعيد أفندي ظل بعيد في الشارع، أخذ يدلف معه، يتسلق الجدران تارة ويزحف على الأرض أخرى كأنما يهزأ منه.. وتضخم رأسه حتى بدا غريبا عنه، وتمنى لو يخلص منه، وهربت الحياة إلى قدميه فأخذ يسرع، ويتنقل من شارع إلى شارع لعله يهرب من ظله ورأسه... وكاد سعيد أفندي يجن، وأمسك رأسه بين يديه كأنما هو قنبلة تكاد تنفجر.. وخطرت له فكرة الخلاص: السكر! لم يكن قد ذاق الخمر بحياته، ولكن الخمر تنسي كما يقولون، ودخل الحانة فعل ثم نهل، وشرب مغمض العينين كمن يشرب الدواء، ولكن فكرته ظلت تنسجم في كل ما حوله... وحين خطر بباله أنه أتعس إنسان استراح قليلا.. ولكن حديث بعض السكارى حوله أهاج فيه الشوق للجريمة، فنظر إلى يديه يريد أن يتبين فيهما آثار الدماء... كان أحدهم- وهو البدين الضاحك- يقول:

    - .. وفتح الباب ووجد زوجه مع عشيقها! فماذا فعل؟
    قتلها؟ قتله؟ قتلهما وانتحر؟.. لا بل صرخ ماذا يقول الناس لو عرفوا ذلك؟ وانتصب سعيد أفندي وسط حلقة السكارى يصرخ:

    - بأي حق تتكلم بهذه الوقاحة عن الآخرين؟
    وأمسك بعنق المتحدث فأمسك رفاقه به وانهالوا عليه.. وحين أفاق سعيد أفندي من إغمائه كان أول ما عاد إليه رأسه، ومع الرأس الماضي، ومع الماضي... الفكرة، وشعر بلهفة إلى صفعة تثيره.. ويدخل الحانة اثنان في تلك الأثناء، يقول أولهما:

    - يشغلني الآن كتابي عن (الاسكندر)، إني أبحث فيما إذا دعي ذا القرنين لأن امرأته كانت تخونه أم...

    واهتز سعيد أفندي ثم أسرع يدفع حسابه وانصرف... ورأسه ما تزال تؤلمه.. وتذكر كلمة البدين (قتلهما وانتحر...) وبما أنه لم يقتل أحدا فلم يبق إلا أن ينتحر... ولكن أين؟

    مرّ الظل معه أمام نهر المدينة فقفز للضفة الأخرى ثم مرّ أمام صيدلية مفتوحة، فزحف على الأرض كي لا يدخلها، ثم وجد نفسه أمام حي المومسات.. وبين يدي إحداهن، في الظلام، استراح من ظله ولم يعد سعيد أفندي يشعر بوجود رأسه.

    الصفعة
    عوني بك مدرس منذ تسع وعشرين سنة، طبعته الوظيفة بطابعها فهو يكاد يكون مجموعة قطع خشبية لحم بعضها إلى بعض، من فوقها كرة مشوهة تشبه رأس إنسان وفيه بقايا إرادة تفتح فمه ليتقيأ منه الدروس... يعرف من سيماه أن الوظيفة مرت عليه كما يعرف مرور العدو في الأرض الخراب، تعود أن ينحني ويرفع يده بالسلام لرؤسائه، وأن يتجمع كالكوز في حضرة الوزير أو المفتش، فهو يرفع يده بالسلام دون سبب ويتكوز، حتى في غرفته، وإذا كان بعض الموظفين ينتفخون بالوظيفة، ويتلقون الشتيمة من الرؤساء ليردوها أضعافا للمرؤوسين، فعوني بك ليس من هذا النوع! وإذا كان استمر في الوظيفة فليس ذلك لرغبته بها. ولكن لرغبة زوجته الحسناء صفية.

    تزوجها وهو في الخامسة والعشرين فذهل بها عن كل شيء، وكانت ابنة ضابط قديم، يزهو والدها كلما رأى طبائعه العسكرية تظهر في ابنته، فما مضى بعض الوقت على الزواج، حتى كان الزوج أمامها أشبه بقلعة مهدمة الأسوار، كان أبوها يعاونها على تهديمه.. ولقد كان عوني بك كبير الآمال يحلم أن يكون مخترعا كبيرا... فانتهى بأن يكون أستاذ رياضيات له لقب بك و14 ليرة في نهاية الشهر.

    أما عند صفية فلم يكن عوني بك أكبر من آلة تأتيها بهذا المبلغ آخر كل شهر، وكل عطفها عليه إنما كان لأنه آلة تنتج، فإذا سألته عن صحته شعر كأنها مزارع يستفهم عن حالة أرضه، ويبتلع طعامه كما تمتص الآلة الزيت وينام كما تهدأ الآلة في الليل...

    خيوط الإرادة التي كانت تفتح فمه في المدرسة بالدرس، كانت تتعطل في البيت خوفا من الصفعة التي تنتظره عند كل معارضة. بدأت الصفعة له مداعبة، ثم صارت عادة، ثم حين عجز عن مقاومتها أصبحت جزاء وانتقاما، ثم أصبح يلتذ بها لذة وحشية غريبة كأنها موجهة إلى شخص يكرهه، إلى الشخص الذي ضحى مستقبله من اجل امرأة.

    وكان طيف الصفعة يلاحقه فإذا تذكرها غامت عيناه.
    قضى تسعا وعشرين سنة بين الوظيفة وامرأته، كأنه بين فكي تمساح.. وكان بقي له عدة أشهر قبل الإحالة على التقاعد.. حين ذهب ذات صباح ربيعي إلى المدرسة بعد أن تزود بالصفعة.. وكان يلقي درس الجبر فتذكرها.. لم ينس الدرس ولا غامت عيناه، ولكنه اندفع فجأة يهاجم النظام في المدرسة وينتقد المدير ووزير المعارف، ويذم المفتش والوزير ويتعرض للسياسة فيشتم الحكومة.. كان يتكلم بحماسة مخيفة كأنه مُنوّم أو مجنون.

    واستغرب الناس تسريحه، وحرمانه راتبه التقاعدي، لأنهم ما سمعوا مرة أنه انتقد رؤساءه أو اهتم بالسياسة، وحين عاد مساء يوم التسريح إلى البيت، لم تصدق زوجته أن المعجزة يمكن أن تقع، وتنقلب تلك الآلة إلى شخص حي، كان ينظر إليها بارتياح لا خوف فيه حتى ذعرت... لكنها استعادت شجاعتها وصفعته فابتسم ابتسامة شيطانية، إن الغبي ينتقم منها، ولكنها لن تدعه يفعل، ستعمل على إعادته للوظيفة بأي شكل، على أن عوني بك بدأ في الأيام التالية يهزل ويتحطم، تلك القوة السحرية التي ربطت القطع الخشبية بعضها مع بعض ثلاثين سنة، فارقتها بعد أن أدت تلك القطع رسالتها، كانت الرسالة الانتقام لكرامته... ودب المرض في عوني بك فلم تستسلم المرأة، إن فيها طباع أبيها العسكري الذي لا يستسلم، وجاءته بالأطباء وأرادت أن تجبره على استرجاع الحياة إجبارا كما كانت تجبره في الماضي على قتل كل حياة فيه... ولكنه كان يزداد مرضا رغم ذلك، وهو ينظر هادئا ساخرا إلى جهودها.. سيموت منتصرا..

    ومات! ونظرت صفية إلى وجهه المقدد وساورتها شهوة لا تقاوم، وأوقفت الجثة وصفعتها صفعة وقف لها شعر الميت، وأبرقت عيناه، كأنما عادت إليه الحياة..

    موت السندباد

    هي قصة حوارية: يرفع فيها الستار عن حي من بغداد القديمة، والسندباد شيخ مهترم بالي الأطمار، عاد من رحلته الأخيرة خاسرا كل ثروته فيجد أن أهله ماتوا ومنزله بيع، فيرتمي خائر القوى أمام المنزل الذي لم يعد يملكه، ويجتمع حوله الجيران وصبية الحي، ينهالون عليه بالأسئلة أو بالحصى... ويدور الحوار:

    شاب بغدادي: سندباد قص علينا أخبار البلاد، والصعاب التي لقيت..

    ويقول بعض الشيوخ: تكلم يا سندباد قل لهؤلاء ما يحل بالذي لا يقنع بما قسم الله.. قص على هؤلاء نصيب الذي يعبث بالتقليد والنظام... قل كلمة نافعة، أنكر حياتك وماضيك وانصح هؤلاء الشباب أن يقنعوا بما هو ثابت مضمون ولا يلاحقوا مثلك أطياف المستحيل. السندباد: كلمة نافعة؟ كيف يستطيع النفع من قضى عمره هازئا بما ينفع؟!.
    الشيوخ: يهزأ بالنفع وقد فني في حب المال وفي ملاحقة الثروة؟
    الصبية: انظروا يديه لقد بليتا من كثرة ما جمع، وقدميه فنيتا من طول ما مشى، وعينيه لقد أكلت وحوش البحر عينيه.
    السندباد: لم تبل يداي من الجمع، ولكن من العطاء، ولم يفن المشي قدمي لكنه الشوق والقلق، وما أكلت وحوش البحر ناظري، لكنه وهج الضياء، لكي تتلامس يداي طوقت الأرض بذراعي وسحت من قطب إلى قطب لأسمع صدى صوتي، وركبت أبعد البحار لأنظر لون عيني!
    - لون عينيه؟ لن عينيه؟
    - أردت أن تعبد نفسك فغلبت، إن العين لم توجد إلا لترى الناس.

    الشيوخ: خير لك أن تموت ففي موتك عبرة لهؤلاء الشباب الذين يشوقهم ما شاقك! قل لهم قد عميت من هول الخيبة.
    السندباد: عميت من وهج الحقيقة!
    الشاب: وهج الحقيقة؟ حدثنا يا سندباد عن الحقيقة التي تعمي العيون.
    السندباد: رحلت إلى أبعد نقطة في الأرض لأعرف اقرب نقطة مني لأعرف نفسي!...
    ويستمر الحوار على هذا السبيل، إلى أن يقول بعض الشباب:
    - قل لنا كيف أخذت ورميت وكيف غنيت بالعطاء؟
    شيخ: انظروا الآن غناه، لا يملك غير المال والهواء.
    السندباد: ذهبت أنشد عالما جديدا، من الحرية والجمال، كلمة سؤ جديدة تعيد لأبناء الأرض السعادة، ذهبت باحثا عن نقطة سحرية تعيد للناس الرجاء، عن لفظة؟
    شاب: ماذا وجدت؟ قل! تكلم.
    شيخ: صه لا تتكلم.. لا تقل ما حرم الله!
    الشباب: قل يا سندباد ما هي الكلمة؟ ما هي الحقيقة الوضاءة؟

    ويهم بالكلام فيسقط على الأرض بلا حراك وتخرج من فمه أفعى سوداء ويقول شاب:
    - لقد قتله السكوت، فيقول أحد الشيوخ:
    - لقد أحيانا!
    لم يكن عفلق يهتم بإعطاء القصة السير التاريخي، أو بالتقاطها من الزاوية الحادة، في لحظتها اللاهبة، الطريقان سواء عنده، قد يمشي، مع القصة خطوة خطوة، وقد يلتقط الأزمة، قطاعا مثقلا بالأحاسيس، فيمشي معها إلى النهاية، فالذي يهمه في الحالين، هو التوتر الذي يحمله الحدث ليصبح ذا قيمة إنسانية كبرى. إنه ينقل (التجربة) القصصية من مجرد صورة أو حادثة عابرة، إلى قلب الحياة نفسها، ويحولها إلى تجربة حية، كل قصة، من قصصه، يسلها، ويشد بعضها إلى بعض، خط بياني مستمر الصعود والتركيز حول (أزمة) إنسانية، وكل قصة من قصصه تتجه في تصميم مطرد العمق والسعة، نحو توترها الأعلى، ونحو الموقف الإنساني الذي ينبثق عنها.. لفتات الأسطر، وخفقات الحس، كلها تحشد في الطريق، لا لإيضاح الأزمة- فهي ليست المقصودة- ولكن لتكثيفها وتركيزها حول ذلك الموقف، والأنوار لا تتوجه إلى داخل الأزمة بل تتوجه منها كما تنتشر الأشعة من خلال محرك، وقد تبقى الأزمة غامضة الأسباب والعقد، ولكن ظلالها التي ترتمي وتنعكس، في داخل الأضلاع، وعلى قارعة الطريق، هي التي تكشف قيمة الموقف الإنساني النموذجي الذي تمثله، وتقود، في عنف، إليه.

    وتتفاعل هاهنا قيمة الزمان والمكان في القصة، والأستاذ عفلق لا يقيم لهما كبير وزن، وقد يأتي بهما عرضا، بلمسة خفيفة تشيع الواقع المحلي في الجو... غير أنه يفضل الانطلاق في الأفق الذي لا تربطه أية جذور بأرض معينة أو زمن محدود. وإن كان بينه وبين الواقعية خطوة ما تنفك أبداً قائمة!
    وهكذا يخرج (الأستاذ شاكر) في (إنسان جديد) من عتمة المجهول إلينا، دون أي إطار يضعه في مكان وزمان معينين، أو في ملامح واضحة سوى أنه أستاذ، وأن الوقت ربيع... غير أن القصة تسير، في خط سمفوني متصاعد، مطرد التوتر، ينقل (شاكرا) من أستاذ فلسفة في الكلية العربية إلى طاه على ظهر باخرة إيطالية صغيرة، إنه يدخل الروض، في صباح ربيعي فيفاجأ بإحساس بالحياة جديد عليه، فما يزال يتحول من مستوى في الإحساس إلى مستوى آخر، حتى يقرر الدوس على الماضي كله، وبتره من كيانه، وبدء الحياة في إنسان جديد.. كانت حياته في الأربع والثلاثين سنة التي قضاها من عمره، زائفة، ولذلك سهل على دفقة من الربيع أن تجرفها، فتساقطت عنه كأنها أقنعة من الجص المهترىء، ويبدأ خط التوتر بأن يرمي الأستاذ نظارته على الأرض رمية عفوية ما يلبث أن يتراجع عنها فيعود إلى التقاط النظارتين وإعادتهما إلى جيبه، ثم يقرر أنه لا يستطيع إتمام محاضرته فيترك العمل بعد أن تزرق عصفورة على أوراق المحاضرة... ثم تهاجمه فكرة أنه أضاع حياته، وبينما هو يناقشها يلقي النسيم بطربوشه فيستلقي على العشب فيتقاسمه الروض: نسيمه، وشعاعه... فيتنهد تنهد الانقلاب، كأنما حياته القديمة قد استلت من صدره وحلت محلها حياة جديدة، ويتذكر أنه لم يعتبر حياته في يوم من الأيام إلا شيئا مؤقتا، سوف يبدله عند سنوح الفرصة، ويتذكر أن شيئا في صدره كان في صباه يصرخ ويتقد، ولكنه فقد الآن حرارته فهو ثقل فقط! وتذكر أنه جميل، ونظر إلى صورته في الماء فتعرف إلى شكله، كصديق طال اغترابه عنه. وتعرف إلى جسمه حين تعرى، فوجد الدم الحي يملأ عروقه وعضلاته، ثم فوجىء، حين أنقذ الفتاة من الغرق، بحياة جديدة ملتهبة كالخمر سريعة كالسم تهز كيانه... وكما تمزق دودة القز قميصها، حين تتحول فراشة، كذلك مزق الأستاذ شاكر ماضيه... داس عليه كما داس الإنسان الأول على آخر صلة تربط شكله بالحيوان، على ذنبه، وتحول طاهيا.

    وفي (رأس سعيد أفندي) يخرج الرجل مهتريا من بيته إلى الظلام، وهيكل القصة يتسلق كله إلى الهرب ويعكسه، كما يتسلق بعض الهنود الحبل الذي ينصبونه في الهواء، القوة التي تمسك الحبل غامضة والأزمة التي تملأ رأس سعيد أفندي غامضة.. ولكنها ملحة مرهقة: يستأنس أولا بالظلام والطريق الموحشة.. فإذا مرّ بوق سيارة أو عوى كلب بعيد اخترق الصوت رأسه بعنف يثيره.. إنه يفكر فقط كيف يخلص من تفكيره!... كل حركة في الشارع يخشى منها على سره الذي يغلق عليه رأسه.

    ويطل القمر فيبدأ ظل سعيد أفندي بالامتداد أمامه ورأسه بالتضخم، لم يبق له إلا رجلاه تنقذانه بالهرب، فيسرع، ولكن ظله يلاحقه ساخرا كبعض الجن يقفز على النوافذ ويتثنى على الجدران ويستطيل على الأرض ويفرّ.. ويفرّ.. والطرقات تفرّ وكل شيء يفرّ إلا... فكر صغير في رأس سعيد أفندي، صغير كرأس المسمار لا يفرّ... ويمسك برأسه كأنه يلمس قنبلة يخشى عليها أن تنفجر!.. ويتذكر الخمر، ولكنه ينسى كل شيء، بعد الكأس الأولى، إلا فكره. ويشرب مرة أخرى فلا يرى غير فكرته مجسمة في الزجاجة والكأس وفي صاحب الحانة! ويصطدم سعيد أفندي ببعض السكارى الذين يمرحون ويكاد يصطدم باثنين آخرين، إن أصابعه تنبض بالجريمة وقدميه تدفعانه إليها.. وبما أنه لم يتسن له أن يقتل أحداً فلم يبق أمامه إلا الانتحار... ويمر سعيد أفندي مع ظله أمام نهر المدينة ثم أمام صيدلية ثم... يقتل ظله وهموم رأسه عند أول مومس!... في هذا البناء الفني المتوازن، الذي يتسق فيه ويتجاوب، عواء النفس الداخلي مع صلابة الواقع ومقاومة الأشياء المادية، لا يفتح الأستاذ عفلق غير نافذتين على الأزمة تكشفان غامضها: النافذة الأولى حديث السكارى عن ذلك الذي فاجأ امرأته وعشيقها فماذا فعل؟ والثانية حديث المؤلف لصديقه عن الاسكندر ذي القرنين وهل أعطي اللقب لأن زوجته خانته؟ إن الحديث الأول يهيج الجريمة في يدي سعيد أفندي، حتى لتمتزج أنفاسه برائحتها وتنفضه كالمجنون. وأما الحديث الثاني فيدفعه إلى التفكير في الانتحار!...

    وتفتضح الأزمة من هذا الباب الخلفي البارع، فعار الخيانة هو السر في استئناس سعيد أفندي بالظلام، ورأسه الذي كاد ينفجر، كان يلوك مقولة واحدة: كيف يخلص من التفكير في الخيانة والجريمة؟ وذلك الظل الذي كان يرقص حول سعيد أفندي هو... العشيق! إن البراعة الفنية التي حبكت القصة في قطاع نفسي من الهرب استطاعت أن تقول كل شيء في الفاجعة دون أن تقول شيئا!.. استطاعت أن توحي، دون مونولوج، ودون فضيحة، بل دون تعيين أشخاص الخيانة، بكل ما في أزمتها من عنف ومن قسوة شيطانية!

    وتقدم قصة (الصفعة) نموذجاً ثالثاً للوحدة الفنية المتوازنة: إنها تسير أولا في خطين: الخط الأول صورة (عوني بك) الموظف الذي أحالته خدمة الوظيفة تسعا وعشرين سنة، إلى قطع خشبية مضموم بعضها إلى بعض، والذي صار الانحناء والسلام الذليل والتكور أمام الرؤساء عادة عنده يمارسها، ولو لم يكن أمامه رئيس. أما الخط الثاني فزوجته صفية، التي ورثت عن أبيها خصاله العسكرية، والتي طوقت عوني بك بسخرها وأوامرها حتى أضحى كالقلعة المهدمة الأسوار. وقد ربط الأستاذ عفلق بين الخطين برابطة (الصفعة) الصفعة التي تسيّر عوني بك، وفق رغبات زوجته، وحسب الطريق التي ترسم.

    والصَغَار الذي يصل إليه عوني يبلغ دركه السحيق، لا في هيكله المشوه أو إرادته المشلولة أو (صفعته)، ولكن حين لا يكون، في صورته الأخيرة، أكثر من (آلة) يبتلع طعامه كما تمص الآلة الزيت اللازم، وينام مثلما تهدأ الآلات في المعمل في الليل، ويأتي آخر الشهر بأربع عشرة ليرة! إنه لم يعد إنسانا. فالمضغ بين فكي التمساح: الوظيفة والزوجة، جعله نفاية.

    وتجتمع لعوني بك عناصر الانتقام تدريجيا: كانت آماله أن يصبح مخترعا فحولت الصفعة آماله إلى رماد، ثم صار يلتذ بالصفعة لذة وحشية غريبة كأنها موجهة إلى شخص يكرهه ويحقد عليه، إلى الشخص (الآخر فيه) الذي أذلته امرأة، وكان شبح الصفعة يلاحقه وكثيرا ما كان يحسب أن أثرها ظاهر للناس على خده... ووجهه كله! النزاع الوحشي، في وتفتضح الأزمة من هذا الباب الخلفي البارع، فعار الخيانة هو السر في استئناس سعيد أفندي بالظلام، ورأسه الذي كاد ينفجر، كان يلوك مقولة واحدة: كيف يخلص من التفكير في الخيانة والجريمة؟ وذلك الظل الذي كان يرقص حول سعيد أفندي هو... العشيق! إن البراعة الفنية التي حبكت القصة في قطاع نفسي من الهرب استطاعت أن تقول كل شيء في الفاجعة دون أن تقول شيئا!.. استطاعت أن توحي، دون مونولوج، ودون فضيحة، بل دون تعيين أشخاص الخيانة، بكل ما في أزمتها من عنف ومن قسوة شيطانية!

    وتقدم قصة (الصفعة) نموذجاً ثالثاً للوحدة الفنية المتوازنة: إنها تسير أولا في خطين: الخط الأول صورة (عوني بك) الموظف الذي أحالته خدمة الوظيفة تسعا وعشرين سنة، إلى قطع خشبية مضموم بعضها إلى بعض، والذي صار الانحناء والسلام الذليل والتكور أمام الرؤساء عادة عنده يمارسها، ولو لم يكن أمامه رئيس. أما الخط الثاني فزوجته صفية، التي ورثت عن أبيها خصاله العسكرية، والتي طوقت عوني بك بسخرها وأوامرها حتى أضحى كالقلعة المهدمة الأسوار. وقد ربط الأستاذ عفلق بين الخطين برابطة (الصفعة) الصفعة التي تسيّر عوني بك، وفق رغبات زوجته، وحسب الطريق التي ترسم.
    والصَغَار الذي يصل إليه عوني يبلغ دركه السحيق، لا في هيكله المشوه أو إرادته المشلولة أو (صفعته)، ولكن حين لا يكون، في صورته الأخيرة، أكثر من (آلة) يبتلع طعامه كما تمص الآلة الزيت اللازم، وينام مثلما تهدأ الآلات في المعمل في الليل، ويأتي آخر الشهر بأربع عشرة ليرة! إنه لم يعد إنسانا. فالمضغ بين فكي التمساح: الوظيفة والزوجة، جعله نفاية.
    وتجتمع لعوني بك عناصر الانتقام تدريجيا: كانت آماله أن يصبح مخترعا فحولت الصفعة آماله إلى رماد، ثم صار يلتذ بالصفعة لذة وحشية غريبة كأنها موجهة إلى شخص يكرهه ويحقد عليه، إلى الشخص (الآخر فيه) الذي أذلته امرأة، وكان شبح الصفعة يلاحقه وكثيرا ما كان يحسب أن أثرها ظاهر للناس على خده... ووجهه كله! النزاع الوحشي، في أعماقه بين شخصيه: شخصه الذي (قولبته) الوظيفة والمرأة، وشخصه الآخر الذي يريد أن يمزقه في سكون، وكان يزيد التمزق شدة وقسوة كلما تأكد عوني بك أنه ليس عند زوجته، أكثر من آلة إنتاج وأن سؤالها عن صحته، إن سألته، لا يحمل من العطف أكثر مما يحمل استفهام المزارع عن حالة أرضه...

    وفجأة، ثار الشخص الثاني في (عوني بك)، عند ذكرى الصفعة الأخيرة.. كسر الأقنعة والمواصفات التي تكلست حول شخصه تسعا وعشرين سنة وثار... ولكنها كانت الثورة الذليلة السلبية، لم يطلّق زوجته، ولم يستقل من الوظيفة ولكن صبّ غضبه عن طريق آخر... شتم الوظيفة والوزارة والوزير والحكومة والسياسة! ثار نصف ثورة وعاد إلى البيت ليتلقى الصفعة من جديد، ولكن بارتياح رهيب وابتسامة شيطانية.. انتقم! فقد سرحته الحكومة، وحرمته راتبه التقاعدي الذي يجعله آلة منتجة.. وشعرت الزوجة أن هذه (الآلة) أصبحت الآن تشبه إنساناً حيا، فيجب أن تعود آلة، يجب أن يعود الزوج إلى الوظيفة! ولكنه يبدأ في الانحلال والهزال... والمرض.. تلك القطع الخشبية التي كانت تشكل (عوني بك) كانت لها رسالة تؤديها: أتنتقم لكرامته، فلما أدتها فارقتها تلك القوة السحرية، تراخت الخيوط التي كانت تربطها فانهارت بسرعة مريعة، وتحاول الزوجة أن تقاوم المرض فيه، ولكنه يستسلم للمرض، ويصل انتقامه إلى أوجه حين يتمكن من... الموت! إن الزوجة لن تستطيع أن تظفر من حطام هذه (الآلة) المفككة بغير (صفعة)!

    ومن يقرأ ما نشر من قصص الأستاذ ميشيل عفلق وما لم ينشر يدرك أن شخصياته في القصص ليست شخصيات مادية، محدودة الخطوط والملامح، إنها مواقف إنسانية.. كل كلمة حولها، كل صورة، إنما هي للفكرة التي تتصور فيها، وإنما هي باب من الصلة والتجاوب بين الشخص وأزمته، من جهة، وبينهما وبين القارىء من جهة أخرى.. والأستاذ عفلق يبني شخصياته في داخل القصة، لأنه إنما يبني بذلك الموقف الإنساني الذي يريد، ويبنيها بالقدر الذي يحتاجه من الملامح (المادية والنفسية) ومن التفاعل الكامل مع (الأزمة)! فالقصة هي (الشخصية) من خلال أزمتها الراكضة! ولا تأتي العواطف والمناظر إلا كجزء من تلك الشخصية، كشيء لاصق بها، كعضو من الأعضاء له وظيفته في جوقة القصة، وعلى الرغم من أن قصص عفلق قائمة على مهاد نفسي، فأن (المونولوج) الذي يلجأ إليه الكثيرون، في تحليل الحاضر أو كشف الماضي يكاد يغيب عنها، فليس ثمة من لحظات يقف فيها (البطل) على مسرح القصة ليتحدث.. إن حركاته، وصور العالم الخارجي من خلاله، هي التي تتحدث عنه!

    وهكذا فشخصية (الأستاذ شاكر) لا نعرفها إلا تارة بعد تارة، وفي مواضع متفرقة من (إنسان جديد) نعرف أنه يدرس الفلسفة وأنه في الرابعة والثلاثين وله لحية سوداء وزوجة وأولاد... ولكن لكل من هذه التفاصيل انعكاسه ومعناه في القصة، وفي الوقت نفسه لا يظهر (الروض) الذي يسير فيه الأستاذ شاكر إلا من خلال أزمته: فالربيع لإثارته، والعصفورة لتزرق على الورق، وتحرك لديه المشكلة والنسيم ليرمي طربوشه، والضفدع والغدير تذكره بجماله، والحر ليعري صدره، وإنقاذ الفتاة ليذكر الدم في عروقه.. وتتحقق ثورته على حياته الماضية، دون أي مونولوج يكشف ثورة نفسه، ذلك الحشد المتتابع من الأحاسيس، بعضها وراء بعض، كان كافيا لنتقبل، التقبل المنطقي، هربه إلى حياة أخرى وتحوله إلى (إنسان جديد).

    وأما (سعيد أفندي) فإنا لا نعرف من ملامحه أي شيء.. ولا لون عينيه الثائرتين! وليس لدينا أي فكرة عن علاقاته الاجتماعية، ولا حتى عن أزمته، ليس من حديث يكشف لنا هموم ذلك الرأس.. وإنما نبني فكرتنا كاملة عن تلك الهموم، من خلال الظلام والوحشة وتضخم الرأس، ومن خلال الظل الذي يطول ويقصر، والكأس والخمر وحديث السكارى.. وتكمل القصة، بناء وأزمة وموقفا إنسانيا، دون أن يكون سعيد أفندي أ كثر من (رأس).

    وبالعكس من ذلك (عوني بك) فأن شكله الخارجي (الخشبي) وحركاته (الآلية) إنما صورت لتحيله من إنسان إلى كاريكاتور إنسان، كانت وظيفتها أن تمهد لإعطاء (الآلة) شكلها الملائم. أما زوجته فلا نعلم عنها إلا ما يكفي لإعطائها القوة على توجيه الصفعة لعوني بك! لا نعلم أكثر من أنها ورثت الطباع عن أبيها؟ وثورة (عوني بك) إنما كانت غلطة لحظة، جاءت غير مقصودة تماما، وجاعت متناسبة مع إرادته المنهارة.. كل ما مهد لها أنه كان يحس بضرورة الانتقام من شيء فاندفع يشتم الحكومة.. ولكنه لم يحدث نفسه مرة كيف وممن ينتقم، وظل بعد انتقامه بل بعد موته، يتلقى صفعته التقليدية بالبلادة التي تعودها طوال عمره.

    على أن الأستاذ عفلق قد يفسر شخصياته أحيانا على قول آرائه. وإنك لتشعر أنها تتمرد، لا على روحها، ولكن على الطريقة التي ألقيت فيها عليها.. ينسى الأستاذ نفسه فيسترسل، ليس مع الشخصية، ولكن مع رأيه.. يظهر ذلك خصوصاً في قصة (شيطان نصف الليل)، وفي ذلك الحوار الممتع عن الحرية والانتحار، والذي لا تغفر له متعته وقوته، المكان الذي وضع فيه. أنه يظل لصيقاً بجسم القصة لا بد من تشذيب ذيوله وتقصيرها قبل أن يندمج فيها.

    وأهم من هذا أن في شخصيات الأستاذ عفلق، شيئا ما، يباعد ما بينها وبين الواقعية، إن هذه المسافة القصيرة التي تفصل ما بين ردود فعلها وبين ردود الفعل المألوفة لجميع الناس، تبعد ما بينها وبين أغذية الأرض! تلك المواقف الإنسانية المثالية التي يمثلها الشخوص، وذلك التوتر النفسي العالي الذي يضجّ في كيانهم، يكاد يكون شذوذا، في الأحوال العادية، وإن كان في مستويات ت الفكر العليا، أمرا منطقيا، مقبولا، ليس من أستاذ فلسفة هرب ليكون طاهيا، وإن كان الكثيرون يتمنون الهرب.. والهرب مصير إنساني معقول وقابل للوقوع كل لحظة.. و(عوني بك) نرى، في كل زاوية من الدوائر الحكومية، مئات النسخ منه ولكنه يتميز عنهم في أنه انتقم، بينما بقية المئات قد بلغت من شلل إرادتها أنها لا تفكر في شيء يزيد عن القيد الحيواني! ولقد يقود التفكير في الوجود، عند بعض المفكرين، إلى الانتحار (كما قاد سليما في قصة شيطان نصف الليل)، ولكنا نعد ذلك، في الحياة العامة، جنونا أو نوعاً من الجنون!

    و(سعيد أفندي) يهرب من فاجعته بشدة، وكثير من مثله يهرب. ولكن الحل الذي وجده خاص به. وقلائل أولئك الذين ينسون – على طريته - فاجعة الخيانة في حياتهم، بخيانة مثلها مع مومس، ويصلون – على طريقته أيضاً - إلى أن الإنسان، في الحساب الأخير، عبد الغريزة الحيوانية!. وهذه العبودية التي لا مفر منها هي التي تغفر له.

    مثل هذه الشخصيات، تحتاج إلى عالم أكثر نبلاً تعيش فيه، وإلى مستوى من النظر والفكر لا توقفه آفاق الواقع القريب! ذلك هو (الشيء) غير الواقعي فيها.
    يعتمد عفلق كثيرا على اللقطات الجانبية والصور التي تغني الحدث، وتوحي بكل تعاريجه.. أن أسلوباً كأسلوبه لا يمكن أن يقوم بدونها! هي التي تربط عنده، في الواقع، بين الشخصية وأزمتها.. وتضع الشخصية في قلب المشكلة. كما أنها هي التي تزج القارىء في الوقت نفسه، داخل الموضوع، داخل تجربة القصة، ليحياها..

    إنها جزء من هم الأستاذ عفلق في أن تحمل قصته أكبر دفقة ممكنة من الإيحاء: وهذه هي وظيفته: رمي النظارة واستعادتها من قبل الأستاذ شاكر، وتوسيخ العصفورة لأوراق المحاضرة، ورمي النسيم للطربوش في (إنسان جديد). ووظيفته التحية والانحناء والتكور عند عوني بك في (الصفعة). ووظيفة مرور السيارة وعواء الكلب في الشارع المقفر، وركض الظل وتلويه، وأوضح من كل ذلك وظيفة الحديثين اللذين يجريان في الحانة، ويكشفان بصورة غير مباشرة عن أزمة (سعيد أفندي). وندر أن تأسر الفكرة الأستاذ عفلق فتجعله يتدخل في أسطر القصة ببعض الملاحظات الجانبية الزائدة، كحديثه عن الوظيفة: (..بعض الناس، بعكس عوني بك، يسمنون من الوظيفة وينتفخون لأن اللذة التي يجنونها وهم يأمرون وينهون تزيد من الألم الذي يشعرون به وهم يخضعون لرؤسائهم، وهناك من يلتذون بالشتيمة يسمعونها من آمريهم لأنهم سيردونها أضعافاً إلى المأمورين) هؤلاء هم أسعد الموظفين.

    وحديثه، في مكان آخر من القصة نفسها، عن الذين لا يعرفون عدوهم الحقيقي فيصوبون النقمة على أنفسهم، تلك لقطات معدودة!.. وموضوعات الأستاذ عفلق لا تستقي من مشاكل المجتمع، ولا تتحدث عن الحب ولا تصف مظاهرة أو تعكس بؤس عامل كادح، القضايا الاجتماعية أو الخلقية أو السياسية لا تهمه إلا بمقدار علاقتها بما هو أهم منها: حياة الإنسان.. فالإنسان أولا، والموقف الإنساني هو ما يجب أن تعبر عنه القصة.. وهو يعالج مشاكل التمرد، الشرف، الكرامة الحقيقية، الحرية من خلال الحياة الإنسانية.. ويشرف على الأفق الميتافيزيقي لمشكلة الحقيقة أو الحرية، بالسهولة التي يشرف بها الكتاب الآخرون على أحداث الحياة العادية، ذلك السر الذي تتلفف به مسرحية (شهرزاد) لتوفيق الحكيم، ليس بأعمق ولا أقوى روعة فيها منه في هذه القطعة الصغيرة عن (موت السندباد) وبعض صفحات (الفتيان) أو (الحائط) لسارتر قد لا تحمل، في التحليل الأخير، من مشكلة الوجود والحرية، اكثر مما تحمل قصة (شيطان نصف الليل)!

    وهو لا يقارب تلك الموضوعات من جانبها الفكري، ولكن من جانبها الإنساني الذي عاشه هو نفسه في أعماقه.. إن عفلق لا يكتب في الواقع قصصا ولكنه يكتب (اعترافات)، وإذا كان الكثيرون من غيره يعكسون تجارب حياتهم المادية في إنتاجهم فالأستاذ عفلق يعكس تجربته الفكرية، ومغامراته فيما وراء الكلمة الحية! وقصصه، بل قلمه من الشفافية، والصدق، بحيث لا يستطيع أن يخفي خلجات نفسه الحساسة.

    كان يضح قلبه كله على الورق. القيود التي واجهها حوله كانت تورثه شعوراً عميقا بمأساة الإنسان في بلده:

    قيود في الفكر (صه لا تفه بكلمة لا تقل ما حرم الله أن يعلم) في (مسرحية موت السندباد).
    وقيود في المجتمع والتقاليد، وقيود في السياسة... وقيود من القدر، حتى في انطلاقهما تظل ذراعاي مقيدتين بسلاسل القدر.. ألا تسمع صلصلة هذه السلاسل، إنها ملء أذني..).. (من قصة شيطان نصف الليل)..

    وليست القيود بالرهيبة ولكن تطامن الناس للقيود هو الرهيب.. إنهم

    لا يخافون الحياة الخصبة فقط، ولكنهم يخافون من يحاولها أيضا (كالسندباد)، تلك هي المشكلة.. ولقد كان يرى إلى التيار كيف يحاول أن يجرفه من قلب الحياة العرم إلى أطرافها الخاملة، فالأخلاق التقليدية تعصر روحه (سعيد أفندي) والفكر التقليدي يقطع عليه الطريق كما قطعها على (السندباد)، حتى الحياة التي بدأها في التدريس هي حياة مستعارة لم يعتبرها في يوم من الأيام، إلا شيئا موقتا (الأستاذ شاكر)، ونظر في المدى البعيد، فرأى في نهاية طريق الوظيفة صورة (عوني بك) وفي قفاه (الصفعة) بل وجد في نهاية الطريق نفسها شبح (سليم) الذي لم يستطع أن يختار لحظة موته.. في قصة (شيطان نصف الليل).

    هكذا بدأ كل شيء يصبح مشكلة عنده، وتجسمت المشاكل فإذا بها مشكلة واحدة.. وحدة من القيود يجب أن تقابل بموقف إنساني موحد: التمرد! كان التمرد، هو الأمر اليومي في السياسة يومذاك، ولكن التمرد الذي دعا إليه عفلق، كان أشمل وأعمق.. كان التمرد المبدع الذي يقود الحياة إلى توترها الأعلى، ويستنزف كل خصبها. كان عفلق يلوك المشكلة بفكر يريد أن يطلق كل إمكانات الوجود الإنساني معا، ويتألم حتى لأولئك الذين واراهم القبر قبل أن يستطيعوا بذل ما لديهم لزيادة (ثروة الحياة).. من مقال (ثروة الحياة)..

    فالتمرد ليس على الحياة ولكن على الأقنعة والقوالب والأصبغة التي تجفف ينابيع تلك الحياة، على القيود التي تقف في طريقها، وتنزل بالحياة الإنسانية إلى حياة القطيع. هكذا جاءت قصص عفلق، كلها، دعوة عنيفة مستمرة إلى التمرد، إلى أن نعيش الحياة المليئة، إلى أن نتصل بالحياة، في قفزة بطولية فاجعة (من مقال نحو حياة مفجعة)، نتمرد فيها على مفاهيم الأخلاق الموروثة (سعيد أفندي)، وعلى العمل الرتيب الذي نكره (الأستاذ شاكر).. حتى ولو كنا في آخر الحياة فأن باستطاعتنا أن نتمرد (عوني بك). إن الانتحار لا يحل المشكلة (شيطان نصف الليل).. ولكن الاتجاه نحو الحياة، الحياة (المفجعة)، هو الطريق. وماذا يهم إذا انتهى الإنسان في النهاية إلى الدمار (موت السندباد) انه يكون قد وصل إلى (الحقيقة) التي كانت منذ الأزل في العيون! يكون قد أخذ من الحياة ما وسعت يداه.. أخذ ورمى.. أخذ وأعطى.. حتى صافحت يداه كل الأشياء وضم صدره جميع الأحياء (موت السندباد).

    إن قيمة هذه الصرخة الإنسانية تتبدى بأفضل صورها إذا نحن وضعناها في مكانها الفكري، والسياسي والاجتماعي من سنة 1935. ولقد كانت هذه الدعوة بالنسبة إلى الأستاذ عفلق، مرحلة من مراحل فكره، ولم تكن غايته الأخيرة.

    كانت الكتابة- والقصة بالذات- وسيلة تعبير وبث وتبلور، لا عنفوان أدب، الكلمة كانت تنتزع منه انتزاعا، ولم تكن بالنسبة إليه قلقا وهما. كانت حركة تكوين لا نضجا ينتهي بسقوط الثمر في السلال. ذلك أن قلقه كان يتجاوز الكتابة، في آفاق وراءها. كان يومذاك، يفتش عن الحل، عن الطريق. وإذا كتب، فما لإيمانه بأن الكلمة هي السبيل، ولكن لتلمس قوة الكلمة، ولإطلاقها، هي بدورها، في البحث عن الطريق. ولهذا كانت دعوة التمرد عنده نداء ذاتياً قبل أن تكون دعوة للناس.. كانت صرخة كيانية إلى الانطلاق في كل الدروب، لعل دربا منها يقود.. لم يكن بعد قد اختار النضال القومي فكان يقول لنا:

    (... لينشد أولادي طريقهم في الحياة أحراراً، أما طريقي أنا فقد وجدتها هي ألوف الطرق التي المحها في أفق البحر الواسع. هي تلك الجزر العجيبة التي أتخيل أني سأحط فيها رحالي عند المساء، وتلك الوجوه التي أتصور أنها ستعترض حياتي فتدخل عليها أشهى المفاجآت.. ولقد تكون على خلاف ما أتصور فيكون ابتهاجي بها أعظم)..

    وقد كانت دعوة التمرد مطلع الطرق عند عفلق لأنها وجدت سبيلها القومي في العمل، ولأنه مدها حتى كانت فلسفة قومية شاملة.

    على أن قصص الأستاذ عفلق وإن كانت حدثاً عابراً في حياته إلا أن قيمتها تتجاوز بكثير، الحدث العابر.

    لقد كانت أول النماذج الأدبية التي تخلصت من الأسلوب الرومانتيكي، سواء في فهم الحياة أو في التعبير عنها.. الآهة، والنظرة الفاجعة، والعبرات من ظلم القدر، انتهت فيها.. وبدأت، على العكس من ذلك، روح من المغامرة والتمرد ومواجهة الحياة.

    لقد عبرت بذلك عن انتقال الناس، في سورية سنة 1935 من مرحلة الانفعال والسلبية، أمام الحضارة الغربية، إلى مرحلة الفكرة والتمرد، من السلبية المدافعة إلى الإيجابية والهجوم (الحياة المفجعة) لم تعد مأساة بل بطولة، ومن هنا كان فجر التحرر عند عفلق.

    ثم أن هذه القصص كانت فتحاً جديداً في الأدب، وفي القصة بوجه خاص..

    إنها النماذج الأولى التي أثبتت أن القصة يمكن- بل ويجب- أن تكون، جماع الأدب كله.. كانت التعبير العملي عن المفهوم الحديث للقصة الأدبية التي (تشمل كل نواحي الحياة وتنفذ إلى أعمق أعماقها، كالشعر والفلسفة) وتشف عن الإنسان العميق. ولقد كان اللون الإنساني، إلى هذا غريباً على القصة وعلى الأدب العربي كله.. كان اتساع القلب والعاطفة والنظرة بحيث تشمل الإنسانية كلها من خلال فرد منها، شيئا جديدا غريب الرأي، على الناس.. ولهذا كان طلاب الأستاذ عفلق يعجبون- يومذاك- من ذلك العالم (السندبادي) الذي يحيك من مداه البعيد سطوره.

    أكان الأستاذ عفلق فيما كتب، سابقاً لعهده؟

    لقد نكون أقرب إلى الصواب إذا قلنا أنه احتضن كل تلك العواصف التي كانت تعصف بقمم الثقافة في سورية سنة 1935 وعبر عنها وعن الموقف الإنساني البطولي الذي وقفته، في تلك القصص والمقالات المعدودة التي كتب.

    هذه بعض قصص الأستاذ ميشيل عفلق، التي لخصها زهير المارديني حيث يعترف كم يشوه التلخيص منها، وكم يمحو لا من الأسلوب الرفيع الملون فحسب، ولكن من خصب تلك الأعماق التي تطوف فيها..

    لأن القصة لدى الأستاذ ميشيل عفلق، ليست حوادث تمتد إلى عقدة الختام، وليست في الوقت نفسه، إشعاعا نفسيا يعزل ويملأ بالتوتر والأحاسيس الصغيرة، ولكنها (حدث) ذو قيمة نفسية كبيرة، إنها قصة (الفكرة) بكل ذلك المهرجان من التوتر النفسي الذي يهزج، لها ومعها، في الأعماق".

    وأخيراً لا بد الإشارة إلى أن الأستاذ عفلق كان يكتب قصصه بعفوية صادقة معبرة عن تطلعاته التي برزت لاحقاً في آرائه التي أبرزها في الوحدة والحرية والاشتراكية من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي، هذه القصص التي كان يكتبها، وبينما أسنان المطبعة تنتظر، حيث كانت القصة تستقيم وتتكامل، وتلقى إليها ورقة ورقة، إذ ليس بإمكان هذا النوع من الكتابة أن يجري ضمن مخطط هندسي الأطراف والطريق، لأن هيكل القصة عند عفلق هو ابن اللحظة التي توضع فيها على الورق، ولهذا فأن قصصه تمثل التقنية العفوية، ومنطق الذوق وحده ولواقعية هي التي كانت تشيع فيها الوحدة الفنية وتمنحها التوازن العميق الآسر.

    عاصفــة
    قصيدة الراحل الأستاذ ميشيل عفلق التي أعيد نشرها في مجلة (الرسالة) العدد 168 مجلد 3 في 7/10/1935 وقد قدمت مغناة لأول مرة في الاحتفال الذي أقامته القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في بغداد في الذكرى السادسة لرحيل الأستاذ.

    "اعصفي يا رياح!"
    واهزأي بالسماء
    من يكن ذا جناح
    هل يهاب الفضاء
    حبس الغاب وادلهم فما يبسم
    إلا عن الرعود البوارق
    فمشى السر توغلا في ثناياه
    مصوناً من الدجى بفيالق
    وتداعت جهم الغيوم ثقيلات
    حبالى بشائبات الصواعق
    ذعرت في الفلاة آمنة الوحش
    فراحت تمشي كمشية سارق
    وسرى الماء لائذا بحمى الظل
    ملماً ببعضه متعانق
    أمعنت في الغناء
    قاصفات الرعود
    ذاك ضحك الفضاء
    من قيود العبيد
    ذاك ضحك الفضاء
    من قيود العبيد
    اعصفي اعصفي يا ريح حتى
    ترقصي من دويك الأجبالا
    واضحكي كم يثير ضحكك
    عند الحشرات النواح والأعوالا
    أوصدت وكرها الثعالب حسرى
    لابسات من ضعفها أغلالا
    وانبرى الليث ناعم البال يمشي
    حاشداً تحت نابه الآجالا
    ودعك النصر احمليني يا ريح
    إلى حيث لا جناح تعالى
    اغسلي يا سيول!
    زائف الأصباغ
    السما كالطبول
    زمّرت بالفراغ!
    يا سيول افتحي لنفسي مجرى
    أنا نهر حيران لم يلق بحرا
    تهت عن غايتي ولكن تيهي
    ينبت الخصب كلما حال قفرا
    أنا برق في قوتي والتهابي
    في وميض أحيا وادفن عمرا
    أنا ليل يفنى اشتعالا وحبا
    لتوشي دماؤه الحمرا فجرا
    أنا زهر أطارت الريح أوراقي
    فأفعمت واسمع الجو عطرا
    أعطشتني الرغاب
    فشربت النجوم
    وحداني الشباب
    فامتطيت الغيوم
    من ذرى هذه السحائب ارمي
    فوق هام الورى رفيع ازدرائي
    قدما في السماء اركز جذلان
    وأخرى على جبين الفضاء
    لم يعد لي في الأرض منزل حر
    واسمع مطالبي وعال إبائي
    أحرقت بيتي الصواعق لكن
    غسلت لي قلبي بذوب الضياء
    مزقت ثوبي الرياح ولكن
    نسجت من دم الشموس ردائي
    اعصفي يا رياح!
    واهزأي بالسماء
    من يكن ذا جناح
    هل يهاب الفضاء؟
    --~--~----~--~----~------------~-------~--~----~

  2. #2
    لقد مر الدكتور ذوقان قرقوط في كتابه عن ميشيل عفلق على تأثره بأندريه جيد، وحاول
    أن يستفيد من كتابات د. سامي الجندي في توضيح ذلك التأثر.

    وللاستزادة في هذا الموضوع ممكن الرجوع لكتاب ذوقان قرقوط الصادر عن المؤسسة العربية
    للدراسات والنشر (طبعته الأولى كانت 1993)

    تقبل احترامنا أستاذنا أبو فراس

المواضيع المتشابهه

  1. عولمة الفقر - ميشيل تشوسودوفيسكي
    بواسطة راما في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-12-2014, 03:21 PM
  2. الكلمات والأشياء – ميشيل فوكو
    بواسطة جريح فلسطين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-17-2013, 06:02 PM
  3. كن منصفاً ميشيل كيلو
    بواسطة محمد إقبال بلو في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-18-2012, 08:07 AM
  4. في رد الى استاذى نزار (قصيده كامله)
    بواسطة علاءالشريف في المنتدى محاولات شعرية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12-06-2008, 09:55 AM
  5. دوما نسافر للافق .. ديوان جديد للشاعر احمد السرساوى
    بواسطة ابراهيم خليل ابراهيم في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-24-2008, 11:46 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •