اللطيفة القرآنية التي نتكلم عنها في سلسلة اللطائف القرآنية , نتناول فيها قضية هامّة , إنها قضية الرّزق,هذه التي شغلت الناس في كل زمان ومكان. احتلت حيّزاً لا يستهان به من الفكر والقلب,والكثير من الناس قد فهمها فهماً سلبيّاً, فعاد عليه ذلك بمزيد من القلق والاضطراب, مما أبعده عن الطاعات والفرائض,وسخر كل ما أوتي من قوى وإمكانات ومواهب لاهثاً وراء الرّزق , وهو يعلم أن ما كتب الله له من رزق لابدّ أن يناله , عندما يأخذ بأسباب تحصيل الرّزق , والتي مهما تنوّعت ترجع إلى العمل . متوكّلاً على الله عزّ وجلّ ,معتمداً عليه وحده , لأنّ شِأن الزرق راجع إليه وهو من بحر جوده وكرمه . لكن , عندما نعلم الحكمة من التفاوت في الرّزق , يطمئن القلب وتهدأ النفس ونحوز القناعة . مع الآية ذي الرّقم (27) من سورة الشورى نتعايش قدراً من الوقت, لنعلم بعد جهل ,و نصحح ما علق بأذهاننا من فهم قاصر بل خاطئ للقضية . يقول الله تعالى ذكره : ( ولو بسط الله الرّزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزّل بقدر ما يشاء إنّه بعباده خبير بصير . ) إذا وسّع الله عزّ وجلّ على عباده في الرّزق ورغد العيش ففاض المال في خزائنهم وامتلكوا العقارات بأنواعها من أرض يزرعونها أو يتخذونها لبناء القصور العالية وإشادة المصانع, أو يجعلوا منها حدائق ذات بهجة,ويلبسوا الفاخر من الثياب ويأكلوا ما لذّ وطاب من ألوان الطعام تعمر بها موائدهم,ومن ثم أوتوا الولْد الكثير ونعمة الجمال والصحة , وتعددت أعمالهم , واتسعت تجاراتهم وتنوّعت وتشعّبت وركبوا أفخم أنواع السيّارات,لتمخّض عن ذلك التكبّر والإفساد في الأرض بطراً, وبغى الناس على بعضهم استيلاء واستعلاء, وهذا هو الغالب. وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى كميّة أو كيفيّة . أمّا عن كون بسط الرّزق موجب للطغيان فقد ورد في تعليل ذلك وجوه :
الأوّل : أن الله تعالى لو سوّى بين الكل في الرّزق,لامتنع أن يكون بعضهم محتاجاً إلى بعض. وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح .
الثاني : أن الآية خاصة بالعرب فإنّهم كلّما اتسع رزقهم ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن العشب والكلأ ما يشبع مواشيهم أقدموا على الغارة والنّهب. وهذا تخصيص للآية بدلالة الواقع وهذا لا يصلح هنا مخصصاً لأنّ ذلك الواقع قد عفا عليه الزمن وزال فبقي النص عاماً.ومن ثمّ ليست هناك ضرورة تلجئ إليه.
الثالث : أنّ الإنسان متكبّر بطبعه فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى أصل خلقته وهو التكبّر , وإذا وقع في شدّة وبلاء انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة . ومن أجل المحافظة على الاستقرار وحدّاً من البغي ينزّل الله أرزاق العباد بقدر ما يكفيهم , فهو تبارك وتعالى لو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم جميعاً لهلكوا.والإضافة في لفظة ( لعباده ) إضافة تشريف وتكريم بالنسبة للمؤمنين , وإضافة قهر وإذلال للكافرين والملحدين الفاسدين والمفسدين. وقيل: إنّ الآية نزلت في أهل الصفّة تمنوا سعة الرّزق. وقال سيّدنا خبّاب بن الأرتّ : فينا نزلت,نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة, وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت. وقال عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ولباساً بعد لباس ومركباً بعد مركب. المأمول أن أكون قد قدّمت في هذه اللطيفة القرآنية ما يحصل به النفع وتعمّ به الفائدة.
** المرجع المعتمد : تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه. لفضيلة العلاّمة الشّيخ محمد علي طه الدّرة. طبعة دار الحكمة. دمشق – بيروت.ط 1 1990- 1411 .
( خاص بمنتديات فرسان الثقافة)