أوهام العولمة و خصوصية الإبداع



15/4/2008م
وانغ فينغزين ترجمة د. علي محمد سليمان
في حقبة ما بعد الحرب الباردة حدثت تغيرات كبيرة في ذلك الفضاء الذي يسمى تسميات متعددة منها الجنوب أو العالم الثالث. أحد أهم تلك التغيرات هو أن الرأسمال العابر للقارات و الحضارة الغربية نفسها قد بدأت تحتل موقع المنتصر في ذلك الفضاء المتنوع.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

يسمي البعض هذه الحقبة عصر إعادة إستعمار المستعمرات القديمة أو عصر استقطاب جديد بين الشمال و الجنوب. كل الأحداث التي اجتاحت العالم في هذه الحقبة في الاتحاد السوفييتي السابق و جنوب أفريقيا و الشرق الأوسط و البلقان تشكل إحالة ساخرة من مقولة مارشال ماكلوهان الذي زعم في بداية الستينيات أن وسائل الاتصال الحديثة ستكرس أخوة و وحدة النوع البشري. لقد احتفى ماكلوهان بظاهرة القرية الكونية و العالم الواحد المنسجم، و هذا بلا شك احتفاء بظهور عالم ما بعد الحداثة.‏
لكن المفكر الفرنسي جين بودرلير يصف ما احتفى به ماكلوهان بأنه مجرد تشابهات و تناظرات الحقيقة المتفرعة. إنطلاقاً من نظرية ديفيد هارفي في "شرط ما بعد الحداثة" يمكننا القول أن ما بعد الحداثة إستجابة تاريخية لأزمات عدة منها السيطرة الشديدة لثقافة السلعة و الاستهلاك و فقدان المرجعية و إنقطاع الرابط بين العلم و الأخلاق و سيطرة الصورة بدلاً من السرد و سيادة ظواهر التشرذم بدلاً من وحدة مفاهيم الحقيقة و الواقع. و يطرح هارفي مثلاً عن ما سماه قمة المشهد الما بعد حداثي مشيراً إلى ظاهرة رونالد ريغن في الحياة الأمريكية. يجسد هذا المثال حسب هارفي الممارسة الشعائرية للإقتصاد و صناعة الصورة في عهد ريغن حيث التشرد، البطالة، الفقر المتزايد، و الضعف كلها تبرر باللجوء إلى القيم التقليدية و خرافات الإمكانيات و التفوق الفردي و أخلاق العائلة و الدين و الاقتصاد المنفتح بالمطلق على المبادرات الفردية.و هكذا أصبحت مشاهد البؤس و الفقر و التشرد و المدن المحطمة بفقرها خلفية للمشهد الإعلامي و صوراً لجماليات التواصل و علامات رمزية لهوية الآخر و المختلف. يعرف جين فرانسوا ليوتار الشرط الما بعد حداثي بأنه إكتمال مشروع الحداثة. مناقضاً هابرماز الذي أدان ما بعد الحداثة لأنها تناقض قيم عصر التنوير في العلم الموضوعي و الأخلاق الكونية و القانون و استقلالية الفن، يرفض ليوتار الرؤية الهيغلية المطلقة للعالم معتقداً أنها تقود إلى وهم بالوحدة العضوية التي تؤسس بدورها لسلطة الدولة المطلقة. و بمعنى آخر تبدو الحداثة بالنسبة لليوتار معادلاً لقمع الفرد. و لكن من هو المعني بهذا الفضاء الثقافي المتغير و بهذه الإشكاليات التي يفرضها ما يسميه المثقفون الغربيون شرط ما بعد الحداثة؟ بالنسبة للكتاب و الفنانين و المثقفين في العالم الثالث ما زالت الثقافة تشكل جزءاً أساسياً من ثقافة شعوبهم. و كما أوضح لنا إدوارد سعيد، إن على هؤلاء المبدعين و المثقفين أن يخلصوا لأدوات تعبيرهم الخاصة و أن يبدعوها و يطوروها إنطلاقاً من خصوصية ظروفهم و ثقافاتهم و ذلك بهدف مقاومة أشكال التنميط و التصوير التي يمارسها الغرب الإستعماري على ثقافاتهم و شخصيتهم الإنسانية. و كما قال فرانس فانون، تولد ثقافة الأمة في حالة صراع. في سياق العلاقة الإشكالية الجديدة بين مثقف العالم الثالث و بين ظاهرة العولمة الثقافية، يتطرق فريدريك جامسون إلى بعض نقاط التمايز بين عمل المثقف و المبدع في إطار الحضارة الغربية من جهة و بين عمل نظيره في الفضاء الواقع خارج هذه الحضارة. و لعل في تمييز و تحليل جامسون إضاءة لحقيقة ذلك الإغتراب الواقع في علاقة المثقف في العالم الثالث مع الشرط الثقافي الكوني الذي يحتفي به صناع الثقافة في الغرب و يصدرونه على أنه شرط كوني قادر على التعبير عن حقائق كونية. و يعالج جامسون هنا نموذج الأدب كفاعلية إبداعية تظهر الخصوصية الثقافية للمبدع و إغترابه عن ثقافة و جماليات ما بعد الحداثة المسيطرة الآن بفضل وسائل الإتصال الحديثة. يوضح جامسون أن النصوص الأدبية التي يكتبها مبدعون خارج الحضارة الأوربية، حتى و إن كانت تحتفي بالخاص و الفردي و الجواني، فإنها و بشكل دال تعكس بعداً سياسياً للوجود الإنساني يتجلى بواسطة الترميز. إن قصة و مصير الفرد في تلك النصوص الأدبية هي دائماً محاولة للتدليل على معادل ما في الواقع السياسي و الإجتماعي. في الغرب يختصر الإنفصام الكلي بين الخاص و العام كل التجارب إلى ظواهر ذاتية أو سيكولوجية، بينما تدفع التناقضات و المعاناة في مجتمعات العالم الثالث الذاتية و الفردية إلى تشابك معقد مع نسيج من الظواهر و الصور التي لا يمكن فيها الفصل بين الخاص و العام أو الفردي و الجمعي. في هذا التشابك لا يمكن تحديد الفردي و الخاص إلا من خلال ديناميكية علاقته مع العام و الجمعي و لا يمكن مقاربة الذات كوحدة إلا من خلال تموضعها ضمن وسطها الإجتماعي. و هكذا فإن المثقف و المبدع في هذه الحالة هو بالضرورة مثقف سياسي لأن عملية الإبداع تتطلب إشتباكاً مع الواقع السياسي للجماعة في كل لحظة من إنتاج و توزيع و استهلاك العمل الأدبي أو الفني. و عطفاً على الأفكار التي عرضناها في عجالة، لا بد من القول أن الحياة الثقافية المعاصرة تعج بالمتناقضات بحيث يتعذر قراءة نظرية واضحة فيما يتعلق بتنوع مفاهيم الحداثة في ثقافات عالمنا، و لعل إشكالية تصدير مفاهيم و نظريات و جماليات ما بعد الحداثة إلى فضاءات إجتماعية و سياسية لم تنجز حداثتها بعد و لاتزال في بعض المواقع فضاءات ما قبل حداثية تعتبر من أهم المشاكل التي يجب على المثقف و المبدع مواجهتها في دول العالم الثالث.‏
مفكر و باحث صيني يكتب باللغة الإنكليزية. هذه المقالة جزء من بحث نشر في مجلة الأدب الجديد الأمريكية.‏



http://thawra.alwehda.gov.sy/_print_veiw.asp?FileName=47172728820080415103004