حلم
( قصة بقلم: محمد صالح رجب )
القبض فورا على كل من يضبط بحوزته أيا من المنتجات الأمريكية..
عندما قرأت الخبر في الصحف ظننت ولأول وهلة أنها مجرد دعابة أو فرقعة صحفية.. كان الخبر منشور في صدر الصفحات الأولى ن وفي التفاصيل ..
"بيان هام"
قررت السلطات القبض فورا على كل من يضبط بحوزته سلع أمريكية المنشأ من مواد غذائية وملابس وسيارات وخلافه سواء للاستخدام الشخصي أو بغرض المتاجرة، ومصادرة هذه السلع على الفور وإحالة المذكور إلى النيابة لاتخاذ اللازم بشأنه.
والسلطات إذ تهيب بالمواطنين ضرورة التعاون معها وعدم التعامل مع كل ما هو أمريكي، تحذر في الوقت ذاته بأنها سوف تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه التحايل والالتفاف أو الخروج على هذه التعليمات.
" انتهى"
لم أتمالك نفسي من الضحك عندما قرأت الخبر بتفاصيله، فكل شيء لدينا أمريكي.. المبلس والمعدة والسيارة، حتى الأكل والشرب .. فالوجبات السريعة والمياه الغازية تغص بها شوارعنا ويتهافت عليها شبابنا .. ناهيك عن القمح وما أدراك ما القمح..!! والقائمة طويلة ويصعب حصرها ..
الأمر إذن مجرد دعابة وإلا فالشعب كله مصيره إلى.. النيابة !!

وكعادتي كل صباح نزلت إلى الشارع في طريقي إلى عملي، ومعي لفافة طعام اعتدت أن أخذها معي يوميا، عبارة عن خبز وبه قطعة جبن فلاحي، وقد لفت بورق صحف ووضعت في كيس بلاستيك..
كانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف، شد انتباهي أن المحلات لا زالت مغلقة على غير العادة، وأن الشوارع التي كانت تكتظ بالبشر والحافلات في مثل هذا الوقت شبه خاوية إلا من أفراد يهرولون هنا أو هناك..الأمر يبدو غريبا ..
حاولت أن أستوقف أحدهم واستفسر منه، لم يتوقف لي وواصل الجري فزعا، حاولت مع أخر، لم يعرني اهتماما.. ولما وجدت الجميع يجري هربا، أطلقت العنان لساقي وانطلقت أنا الآخر أجري في نفس الاتجاه، لكن..لا قدرة لي ، وما لي أنا والجري وفد انقطعت عن الرياضة منذ زمن بعيد .. فالحياة ولقمة العيش الصعبة ومصاريف الجواز والأقساط الشهرية كلها أخذت كل وقتي وأخذت معها نصيبا وافرا من عافيتي ، لم أستطع الجري سريعا ، أمسك بي رجل أمن ما شاء الله طول في عرض ، وجذبني جذبة هرب معها الدم من عروقي تسمرت في مكاني ، وشعرت بعدم القدرة على المشي ، أشار إلى اللفافة متسائلا عم بداخلها ، ولم يعطني فرصة للإجابة ، فقد سبقني وتناولها بالفتح ، ثم هز رأسه مبتسما ., عيش .. أمريكي !!،
تذكرت على الفور المقال الذي نشر بالصحف فانتفضت نافيا:
لا.. لا ، هذا عيش بلدي .
فرد ساخرا :
والدقيق.. بلدي هو الآخر !؟
والله ما لي دخل.. الحكومة هي من استوردته..
رمقني بنظرة ارتعدت لها فرائصي وخرست لها حواسي ، شعرت بعدها أنني دخلت في الممنوع فسكت على الفور.
صادر اللفافة وتحفظ على وسلمني إلى زميل له كان قد اقترب لتوه، وانصرف هو لمواصلة عمله..
انتظرت مع العسكري وقتا ما، حاولت أن أحادثه، أمرني بالسكوت.. كانت الشمس قد غزت المكان وبدأ العرق يتساقط على وجهي، حاولت أن أقنعه أن نجلس تحت ظل شجرة قريبة نهرني وأمرني بالتزام الصمت..
ولما بلغ مني الإرهاق مبلغه ، رحت أؤنب نفسي واتساءل :
لماذا لم آخذ الموضوع على محمل الجد ؟ ما الضرر لو استغنيت عن الخبز ؟ لن أموت جوعا .. البديل موجود .. ما عيب الأرز والطماطم!!؟.. ولكن.. قد تكون البذور إسرائيلية !؟ وماذا في ذلك ؟ الحكومة منعت الأمريكي فقط ولم تمنع الإسرائيلي.!!
لقد تعبت ، أضناني الحر والتفكير .. ليس أمامي إلا مفرج الكوب .. يارب نجني ، لقد استوعبت الدرس جيدا .. سوف أزرع أرضي بالقمح ، فأنا أجيد الزراعة ، وأطحنها على الرحاية وأخبزها بيدي في بيتي ..
قطع على التفكير سيارة شرطة قد توقفت أمامنا وشد انتباهي أنها غير أمريكية فتأكد لي أن الحكومة تأخذ الموضوع موضع جد..
رأيت العسكري وقد ارتبك وراح يعدل من بذلته وهو يسرع بتقديم التحية إلى شخص ما بداخل كابينة السيارة ، ثم جذبني وألقى بي داخل " البوكس " وجلس إلي جواري وانطلقت السيارة ..
ولم أعرف ما حدث بعد ذلك، فقد استيقظت من النوم فزعا، نظرت إلى الساعة، وقد تعدت الثامنة والنصف، أسرعت بتحضير لفافة الطعام المعتادة، تذكرت الحلم، غلبتني ابتسامة وأنا أطالع اللفافة، تساءلت في نفسي وأنا أهم بالخروج: هل يمكن أن يكون الحلم حقيقة ؟
أومأت برأسي وانطلقت مسرعا إلى عملي ..
( تمت )