كان ذلك في أواخر شهر أيار من العام 2000 بُعيّد انتصار المقاومة المدوّي، يوم ركبتُ الـ(فان) المتّجه إلى جنوب لبنان المحرر.

هي عدوى أصبتُ بها ملأتني تحفّزاً وحماسةً وأنا أرى أمواجاً مختلطة من البشر تتزاحم، إمّا سيراً على الأقدام، أو استماتةً للحصول على مقعد أو مكان في وسيلة نقل تأخذهم إلى الجنوب.
بعد لحظات امتلأت السيارة عن آخرها وانطلقنا عبر مساحات قاحلة ومكشوفة.
الدهشة تتملكني والسؤال يصطخب في ذاكرتي.. كيف استطاع المقاتلون المقاومون عبور المسافات القاحلة هذه على الأقدام، وتحت أثقال ما يحملون؟ ينفّذون مهماتهم، ويعودون، يحققون النصر، ويصنعون المعجزة، ولا تجدهم، أو ترصد تحركاتهم تلك المعدّات التكنولوجية المكّومة في ترسانات العدو فوق قمم التلال، وأبراج القلاع العملاقة، ولا تستطيع أن تتناوشهم المناظير المتطوّرة، ولا الرادارات، ولا الأشعة فوق البنفسجية ولا أرقى وسائل الاستكشاف والتحسس عن بعد، ناهيك عن المراقبة بالعيون المجرّدة.!
كيف ذلك، وأنا من مكاني هذا، على قمّة التل الذي تقوم عليه القلعة، أستطيع أن أميّز بسهولة، إذا ما قصدت المراقبة، وعن بعد شاسع، بين إنسان وقط.!
الشاب النحيل الجالس بسكون إلى جانبي، يكاد لا يتحرك، ولا يرمش له جفن.. (يبحلق) في الفضاء المترامي حولنا، شعرت أنه يختلس النظر نحوي، بعد لحظة لكزني بكوعه: - هل تعرف قلعة شقيف.؟
وقبل أن أجيب وأقول بأنني لا أعرف غير اسمها، ولا أعرف مكانها بالضبط رغم أنني سمعت عنها الكثير، انبرى سائق «الفان» ذو الوجه المربع دائم الابتسام: - نصِل إليها بعد ربع ساعة.. وقد أدرك أن ركاب سيارته يزورون المنطقة للمرة الأولى، وجدها فرصه ذهبية لاحت أمامه للحديث دون توقف، وشرح أدق التفاصيل، مؤهلُهُ الأول أنه ابن المنطقة: - بعد أن نخرج من النبطية، تظهر عن بعد القلعة المنتصبة فوق نهر الليطاني، إنها تتوسط الجنوب، وتشرف على شريط القلاع المتناثرة هنا وهناك، هونين وتبنين.....، وعلى البحر والسهول والتلال والقرى والمدن.. أرنون الفوقا والتحتا، القليعة، النبطية، وبرج قلاوي، وبانياس، ومرتفعات جبل عامل وحرمون وأعالي الجولان وهضاب صفد ووادي الأردن.
«قلعة شقيف»، كأنها حارسة للممرّ الجنوبي الذي يربط شاطئ صيدا وصور بالبقاع، حتى دمشق.. في اللحظة نفسها بدأت حجارة القلعة تبدو لنا عن بعد.. أكوام مهترئة من الحجارة المعفّرة بالشظايا، المقتلعة عنوة، تاركة مكانها فجوات تعلوها قناطر حديدية، كأنها أضيفت على عجل لتحمل أجهزة الرصد، أو الرشاشات الثقيلة.
جدران ناقصة ليس لها سقوف، متهالكة لكنّها قائمة على علو شاهق، على قمّة مرتفع مخروطي، جنباته شديدة الانحدار.
يمسكني الشاب الأسمر، يقول لي هامساً: - أنا ابن إبراهيم الحاج، الشهير بالغوراني.! لم يستطع أحد إخراج جثة والدي من تحت سقف برج قلعة شقيف المنهار.
ثلاثة أيام وهو صامد وراء الدوشكا، يحمله من مكان إلى مكان، يقاوم، لم يستسلم، ولم ينسحب.. أخيراً قامت طائرات معادية كثيرة بهجوم شامل ومركّز، أطلقت قذائفها الدخانية الملوّنة، وصواريخها الثقيلة.. انهار سقف برج القلعة على «الغوراني»، والرجال القلائل الذين صمدوا وأوقفوا تقدم العدو، هم كلّ من كانوا حماةً للقلعة.
في هذه الأيام، في ذكرى انتصار المقاومة في جنوب لبنان على العدو الصهيوني البغيض، يوم خرج العدو في عتمة ليل يجرّ أذيال الخيبة، ويتخلّى عن الخونة زبانيته، أشعرُ بكثير من الاعتزاز والفخر، وأنا أستعرض الانتصار الأهم والأكبر في تاريخ العرب الحديث، وأزداد يقيناً أن طريقنا للحرية والسيادة والتحرّر من كل صنوف الاستعمار والمستعمرين، هو في نهج المقاومة.. المقاومة وحدها اللغة التي يفهمها العدو، ويفهمها العملاء.