السر العظيم


إنه مِلاك كل خير، وجِماع كل الثواب، إنه السر العظيم في السعادة المنشودة في الدنيا فقد وعد الله تعالى أهله في الدنيا بالنصر والتمكين، وفي الآخرة بالجنة، وبين هذه وتلك يعطيهم أجرهم بغير حساب، بل وأخبرنا الله تعالى أنه الخير ذاته، وكل من قلب صفحات كتاب الله تعالى أيقن أن الله يحب أهل هذه العبادة ... إنه الصبر.
الصبر عبادة؛ تنالين بها الثواب في الآخرة والمكانة العالية، وتتمكنين به من ارتقاء درجات النجاح وتحقيق الإنجازات في الدنيا أيضًا، إنه عبادة صفوة الخلق؛ كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
مراتب الصبر:
والصبر كغيره من سائر العبادات والأخلاق المحمودة؛ يتفاضل أهله بين بعضهم البعض على درجات متفاوتة، ولكل فريق من هؤلاء ثوابه بقدر بذله وصبره.
أولًا ـ الصبر الكاذب:
في الظاهر هو صبر، ولكن في الحقيقة هو بخلاف ذلك، فيُظهر الإنسان ثباته وصبره في البلاء، ولكنه من داخله يتسخط على قدر الله تعالى والعياذ بالله؛ فإذا واساه الناس وشدوا من أزره قال لهم: (الحمد لله ـ نسأل الله الصبر ...)، ولكن قلبه متسخط غير راض، فهذا هو الصبر الكاذب.
تعثر في هذه الحفرة رجل أظهر صبره على امتحان الله له؛ فقد ابتلاه الله تعالى بأنه ما يولد له ولد إلا ويموت بعد ولادته بعام أو أكثر قليلًا، وحدث ذلك أمام عينيه عدة مرات، وكلما قال له الناس: اصبر واحتسب، ما كان منه إلا أن يقول: الحمد لله.
ولكن الله أعلم بما في القلوب؛ فقد رزقه الله تعالى بولد أخير بعد من ماتوا، وعاش هذا الولد في كنف والده حتى بلغ سن المراهقة تقريبًا، فرأى الرجل أن ابنه قد نجا من الموت لا كإخوته السابقين.
وجاء الاختبار بعد ذلك، وأُصيب الابن بمرض شديد، فأنفق الأب على علاجه أموالًا طائلة، وذهب إلى شتى الأطباء يطلب لديهم العلاج والدواء، ولكن ما يغني حذر من قدر، فكان قضاء الله النافذ أن يموت هذا الرجل؛ فهل قال: الحمد لله؟!
لقد خرج إلى شرفة منزله عقب موت ولده مباشرة، وأمسك بأدوية ابنه، ونظر إلى السماء كأنه يخاطب الله تعالى، وأخذ يقذف بالأدوية ويقول: (أنت بتعمل في كده ليه؟! أنا عملت إيه؟!) ... فهذا هو الصبر الكاذب [مستفاد من: سلسلة شرح مدارج السالكين، محمد حسين يعقوب].
ثانيًا ـ الصبر الواجب:
هو صبر على الطاعة والبلاء، من القلب ومن اللسان، فاللسان لا يشكو من البلاء، والقلب لا يسخط على المتحان، بل هو صبر وثبات.
ثالثًا ـ الصبر الجميل:
وهو أسمى درجات الصبر، وأغزرها ثوابًا، فتجد هذه الفتاة في البلاء صابرة ثابتة بل وراضية شاكرة على كل ما قضى الله تعالى ويسر، وتجدها في مجال الطاعة صابرة مواظبة بل ومحبة وراغبة في طاعة الله تعالى، وتراها للمعاصي مجانبة ليس صبرًا منها عنها وفقط، وإنما لأنها صارت تكره المعصية أيضًا.
فالصبر الجميل؛ هو صبر على البلاء مع رضا وشكر، وصبر على الطاعة مع حب وإقبال، وصبر عن المعصية مع كراهية وبغض.
صنوف الصبر:
للصبر مجالات وأنواع كثيرة؛ أردت أن أعرضها لكِ مراعيًا الشمول فيها، نجمع بين الدين والدنيا، نصبر فنحقق الثواب والفلاح والإنجاز وصناعة الحضارة؛ فنحوز قصر الخير من كل أبوابه.
أولًا ـ الصبر على الطاعة:
أن تصبري على طاعة المولى سبحانه وتعالى لهو صبر عظيم جميل، فهو أسمى وأرفع أنواع الصبر كما عده العلماء، أن يصبر العبد على طاعة الله تعالى؛ رجاء الثواب من الله والقبول في الدنيا والآخرة.
وللصبر على طاعة الله تعالى ركنان أساسيان يتحقق بهما معًا؛ الأول: المداومة على الطاعة، والثاني: إقامتها وإتقانها كما أراد الله سبحانه وتعالى.
ففتاة الإسلام تراها في مجال الصلاة مداومة عليه مواظبة، وكلما أذن المؤذن بادرت إلى إقامتها وإتقانها، وفي مجال العفة فهي تبادر إلى الحجاب والعفاف في ملبسها، وتصبر في سبيل ذلك راضية بشرع الله تعالى.
ثانيًا ـ الصبر عن المعصية:
لئن كان الصبر على الطاعة هو أرفع أنواع الصبر؛ فإن الصبر عن المعصية هو المحك الرئيس والخط الفاصل بين كثير من العباد، فكما أخبر ابن الجوزي رحمه الله أن البر والفاجر كليهما قد يطيع الله تعالى، كليهما قد يصلي وقد يصوم، ولكن محك التفريق هو اجتناب النواهي والابتعاد عن المحظور، فهذا لا يقوم به فاجر بل هو البر وفقط.
وإن أردتِ الصبر عن المعصية أخيتي فتأملي في عواقبها؛ فكم من غش محق البركة من الحياة؟! وكم من نظرة محرمة جعلت الضيق يعكر صفو الحياة؟! وكم من عقوق أذهب عنكِ من الصلاة خشوعها ومن قراءة القرآن حلاوتها؟! وكم من تفريط في صلاة أو صيام أغلق أبوابًا للخير كثيرة؟! لهذا؛ اصبري عن المعصية.
وإياك والعجلة، فالعاصي قد استعجل مالًا أو شهوة أو منصبًا من غير وجه حق، وإنما من يصبر فسوف يؤتيه الله ما أراد ولكن من طريق الحق وما يرضي الله تعالى.
ألم يأتكِ نبأ يوسف عليه السلام؛ صبر عن نيل شهوة محرمة رغم حاجته إلى الزواج فجعله الله تعالى عزيز مصر، أما امرأة العزيز فلم تستطع الصبر قليلًا عن المعصية فما ملكت نفسها؛ فصار حالها ما أخبرنا به القرآن.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو جهل، كلاهما قد دعى له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِى جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) [صححه الألباني]، ولكن صبر عمر رضي الله عنه فكان فاروق هذه الأمة، ولم يصبر أبو جهل بل أتبع نفسه هواها فكان من ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كنا في وقت قد انتشرت فيه دواعي العصيان، فهذه بشرى من خير الأنام، محمد عليه السلام، لكل من صبر وثبت في هذه الأزمان، حين قال لصحابته الكرام: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ؛ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، قَالَ ـ أي الراوي ـ يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟! قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) [صححه الألباني].
ثالثًا ـ الصبر على البلاء:
وهذه هي عبادة البلاء؛ الصبر والرضا، أن تصبر الفتاة على اختبار الله لها، وترضى بقضائه سبحانه؛ ودومًا ما يكون الجزاء من جنس العمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) [صحح الألباني].
ولكن لنا مع هذا النوع من الصبر وقفة؛ فشتان بين صبر سلبي وصبر إيجابي، شتان بين من يدعي الصبر ولكنه في الحقيقة يائس قنوط، فالصبر يكون مع البذل والعطاء لا الركون والسكوت.
فالفتاة التي لا تجد وظيفة؛ ليس الصبر في حقها أن تجلس صامتة لا تفعل شيئًا وتقول أنا صابرة، وإنما الصبر يكون مع البحث والمتابعة، وإلا فإن أمة الإسلام اليوم تئن تحت وطأة أعادائها فلو صبرنا صبرًا سلبيًّا لما فعلنا شيئًا، ولكن الصبر الإيجابي هو التحمل والثبات مع البذل والعطاء.
أما صاحب الصبر السلبي (فلو سار الناس جميعًا على هذا المنوال؛ لتوقفت الحياة، أيها المصاب لا تكن سببًا في شلل الحياة، وارض بما قدر الله عليك، وتسام على المصيبة واصنع منها إنجازًا وحول الحزن إلى فرح، فما زال في الحياة متسع لكل هذا، وكن من الذي يبقون بعد مماتهم بمساهمتك في البناء وتحطيم اليأس) [رسائل سريعة إلى الشباب والشابات، عبد الحميد البلالي، ص(67)].
رابعًا ـ الصبر على الناس:
وهو الصبر على أذاهم وغضبهم وجهلهم، برد السيئة بالحسنة، والإساءة بالإحسان، ويتأكد هذا الخلق في حق الفتاة الداعية، التي تدعو صويحباتها وصديقاتها إلى طاعة الله تعالى.
فقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم على غضب الناس؛ فقد رزقه الله تعالى حلمًا وسعة صدر، يروي لك أنس رضي الله عنه موقفًا عجيبًا لصبر النبي صلى الله عليه وسلم على الناس يقول: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء) [متفق عليه].
وصبر على جهلهم كثيرًا؛ فمن ذلك لما دخل الأعاربي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبال فيه، فقام إليه الصحابة يمنعونه ولكن صبر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ)، فتركوه حتى بال، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) [متفق عليه].
والصبر على الناس ليس فقط فائدته الثواب بل (إذا تعلم الشاب آداب الحوار، وعلى رأسها قبول الاختلاف مع الآخرين، والصبر على الاستماع فإنه بذلك يحمي نفسه من أمراض نفسية كثيرة، على رأسها الانطواء والعنف)
[شباب بلا مشاكل رحلة من الداخل، د.أكرم رضا، ص(211)].
ويتأكد هذا النوع من الصبر في حق مرحلة المراهقة؛ لأن (المراهق بسبب تكامله العضوي والعقلي يملك ما يملكه الكبار من أنواع الانفعالات ... لكن المراهق تنقصه الخبرة والتجربة، فهو من حيث النمو يعيش في أوضاع وسمات جديدة، ومن حيث البيئة والاكتساب لم تعركه التجربة بعد، ولهذا فإن المراهق لا يستقر في انفعالاته؛ فهو يغضب كثيرًا وسريعًا ولأسباب حقيرة) [المراهقون دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي، ص(24)].
خامسًا ـ الصبر على النجاح:
وهو جزء من الصبر على الطاعة ولكني أخصه بالكلام، لأن بعض الفتيات تظن أن الصبر هو صبر على الطاعة وفقط، وتهمل الصبر على دراستها وعلومها، أو على وظيفتها وعملها، أو على تربيتها وتنشئتها لأبنائها بعد الزواج ... فكل ذلك صناعة لحضارة المسلمين وكل ذلك يستحق الصبر.

أهم المراجع:
1-سلسلة مدارج السالكين، محمد حسين يعقوب.
2-شباب بلا مشاكل ... رحلة من الداخل، د.أكرم رضا.
3-رسائل سريعة إلى الشباب والشابات، عبد الحميد البلالي.
4-المراهقون ... دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي.

منقول للأمانة