العلم
إن من تفصيل الكتاب المنزل أن العلم قد أسند إلى الخالق وإلى المخلوق ، ولنتمكن من تبيان دلالة العلم المسند إلى الله فلا مناص من البدء ببيان العلم المسند إلى المخلوق .
أولا : العلم : للدلالة على الوحي كما في قوله ﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ﴾ مريم ، من قول إبراهيم .
وكان يعقوب ذا علم كما في قوله ﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ يوسف ، أي صاحبه بالوحي إليه .
وكان الرسل والنبيون هم أولوا العلم أي أصحابه كما في قوله ﴿ شهد الله أنه لا إلـه إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾ عمران .
ولقد علم الملائكة وهم في الملإ الأعلى والرسل والنبيون بالوحي ما جعل شهادة كل منهم أنه لا إلـه إلا الله أكبر من شهادتنا نحن عامة الناس .
وكان إسحاق غلاما عليما كما في قوله ﴿ قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ﴾ الحجر ، ومن المثاني معه قوله ﴿ قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ﴾ الذاريات ، إذ هو نبي .
وكذلك قوله ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ فاطر ، يعني الرسل والنبيين كما سيأتي تحقيقه في من بيان القرآن .
وكان صحابة كل نبيّ أو رسول الذين تعلموا منه هم الذين أوتوا العلم بالتجهيل كما في قوله ﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾ القتال ، يعني أن المنافقين لم يفقهوا القرآن إذ لم يتجاوز آذانهم بل سألوا عن معانيه ودلالاته الذين أوتوا العلم وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل القرآن في صدورهم كما في قوله ﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾ العنكبوت ، أي أنهم سمعوا القرآن وتجاوز آذانهم واستقر في صدورهم لكن دون مرتبة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي نزّل على قلبه أي علم ما فيه من العلم .
ويقع العلم على البينات لما في الكتاب المنزل من عند الله كما في قوله ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ عمران ، أي أن اليهود لم تختلف إلا من بعد ما جاءهم الرسل ببينات التوراة وهـكذا اختلفوا أكثر لما جاءهم عيسى بالبينات .
ثانيا : العلم : للدلالة على المشاهدة بالعين كما في قوله :
ـ ﴿ فرددناه إلى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ﴾ القصص
ـ ﴿ أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هـذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ البقرة
ولقد أوحي إلى أم موسى بقوله ﴿ إنا رادوه إليك ﴾ القصص ، وهو وعد من الله ، وكانت تؤمن بأنه وعد حق ، ولكن علمت برأي العين لما ردّ إليها وقرّت عينها به أن وعد الله حق .
وكان الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها يؤمن بأن الله سيحييهم بعد موتهم يوم البعث ، وعلمه لما رآى مثله في الدنيا .
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن ما علّمك الله فهو بالكسب والتجربة كما في قوله ﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾ النحل ، ويعني أن السمع والبصر والذاكرة هي أدوات التعلم بالكسب .
ومنه قوله ﴿ وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّموهن مما علّمكم الله ﴾ المائدة ، يعني الجوارح من الطير والكلاب يعلّمها الناس الصيد بالترويض والكسب والتجربة ومن زعم أن تعلمها للصيد هو من الوحي الخارق المعجز فهو أحمق ، وإنما الصيادون يعلّمونها مما تعلّموا هم أنفسهم بالكسب والتجربة أي مما علّمهم الله . ومنه قوله ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله ﴾ البقرة ، أي كما علم شهادته بالمشاهدة والسماع .
ومنه قوله ﴿ واتقوا الله ويعلّمكم الله ﴾ البقرة ، وليست التقوى شرطا لزيادة العلم وحصوله من غير تعلم وكسب ولو كان كذلك لما كان من فرق بينه وبين قولنا "واتقوا الله يعلمكم الله" بجزم الفعل أي بإسكان الميم في يعلمكم على جواب فعل الأمر اتقوا وعلى نسق المتفق عليه في قوله :
ـ ﴿ فاتبعوني يحببكم الله ﴾ عمران
ـ ﴿ ذروني أقتل موسى ﴾ غافر
ـ ﴿ فقل تعالوا ندع ﴾ عمران
ـ ﴿ قل تعالوا أتل ﴾ الأنعام
ـ ﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ﴾ يوسف
وقد تم جزم الأفعال الواقعة في جواب فعل الأمر الواقع في موضع الشرط .
إن قوله ﴿ واتقوا الله ويعلمكم الله ﴾ لمتفق على قراءته برفع الفعل ﴿ ويعلمكم ﴾ والمعنى اتقوا الله والله يعلمكم ما تتقونه به من الأحكام والتشريع أي أن الله لم يكلف العباد بتقواه كما يتصوره كل واحد منهم ويتخذه دينا لنفسه وإنما الله يبيّن لهم ما يتقونه به وهو مما يعلمهم إذ نزل من عنده في الكتاب وكما في قوله ﴿ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون ﴾ التوبة .
وقوله ﴿ واتقوا الله ويعلّمكم الله ﴾ في آخر آية الدّين ، وقد علّم الله المسلمين فيها وفي ما قبلها من الأحكام والتكاليف الفردية والجماعية وفي سائر الكتاب ما يتقون ـ بامتثال مأموراته واجتناب منهياته ـ عذابه وعقابه .
ولا يخفى أن قوله ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله ﴾ في أول آية الدّين لمن المثاني مع قوله ﴿ ويعلمكم الله ﴾ في آخر آية الدين إذ ما كلّف به الكاتب من الأمانة والنقل وأن يأتي بالشهادة على وجهها هو مما علّمه الله في الكتاب كذلك :
أما الأول ففي قوله ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ﴾ الإسراء .
وأما الثاني ففي قوله ﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ المائدة ، وقوله ﴿ كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ﴾ النساء ، وقوله ﴿ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ المائدة.
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن ما علّم ربنا ملائكته ورسله وأنبياءه هو ما خصوا به من العلم فعلموه تعلما خارقا معجزا من غير كسب منهم وتلك دلالة المثاني :
ـ ﴿ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا ﴾ البقرة
ـ ﴿ وعلّم آدم الأسماء كلها ﴾ البقرة
ـ ﴿ وإنه لذو علم لما علّمناه ﴾ يوسف
ـ ﴿ ذلكما مما علّمني ربي ﴾ يوسف
ـ ﴿ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علما ﴾ الكهف
ـ ﴿ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ﴾ النمل
وتعني أن ربنا علّم الملائكة من غير كسب منهم ولا جهد وكذلك علّم آدم ويعقوب ويوسف والخضر وداوود وسليمان وسائر الرسل والنبيين .
وأما قوله ﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ الأعراف من قول نوح ، وفي يوسف من قول يعقوب فيعني أن كلا منهما علم من الله بالوحي إليه ما لم يعلمه غيره ، فيعقوب قد علم بالوحي أن أولاده كاذبون في زعمهم أن الذئب قد أكل يوسف وعلم بالوحي أنه سيجتمع بيوسف وأن الله سيتم نعمته عليه وعلى أولاده رغم ما سلف منهم مع أخيهم يوسف .
وإن قوله :
ـ ﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾ البقرة والمائدة
ـ ﴿ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض ﴾ الحج
ليعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزّل عليه من قبل في الكتاب مثله فعلمه بالكتاب المنزل عليه .
وإن قوله ﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ﴾ التوبة ، ليعني أن قد نزل مثله من قبل في الكتاب كما في قوله ﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين ﴾ المجادلة ، وهكذا فحرف المجادلة قد نزل قبل حرف التوبة .
وإن قوله ﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ التوبة ، ليعني أن قد نزل في الكتاب من قبل مثل جميع ذلك كما في قوله ﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ الشورى ، وكما في قوله ﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ التوبة ، ولقد نزل في أكثر من حرف قبل سورة التوبة أن الله هو التواب الرحيم .
وإن قوله ﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ﴾ التوبة ، ليعني أن الكتاب من قبل قد تضمن مثل ذلك كما في قوله ﴿ ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم المجادلة .
وإن قوله أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ الزمر ، ليعني أن الناس قد علموا من قبل ذلك رأي العين كما في قوله ﴿ أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ الروم ، ويعني حرف الزمر كذلك أن مثل ذلك قد نزل من قبل في الكتاب كما في قوله ﴿ قل إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ سبأ ، ويعني أن حرف الزمر تأخر نزوله عن الحرفين .
مرتقى أهل القرآن العظيم - المشرف العام الحسن محمد ماديك • مشاهدة الموضوع - العلم في معجم معاني كلمات القرآن [1]