-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني
الغرب طوال تاريخه علماني وثني وثنية بشرية! (1)
أحد الأصدقاء طلب توضيح ما ورد في منشور سابق لي: بأن الغرب طوال تاريخه علماني!
العلمانية واللادينية هي الأصل في تاريخ الغرب؟!
إن الغرب من حيث المبدأ هو علماني طوال مراحل تاريخه، يقول أرنست كاسيرر: أن "الشواهد الإنثروبولوجية والإنثولوجية، تجد مناطق كثيرة من الحياة الحضارية البدائية تتمتع بالملامح المشهورة التي توجد في حياتنا الحضارية، وما دمنا نزعم تخالفاً مطلقاً بين منطقنا ومنطق العقل البدائي، وما دمنا نعتبر المنطقتين مختلفتين نوعاً متضادتين أصلاً، فليس من السهل علينا أن نعلل لذلك التشابه في الملامح الحضارية. حتى لتجد دائماً في الحياة البدائية نفسها منطقة دنيوية أو أرضية خارج المنطقة المقدسة، وهناك موروث دنيوي يتألف من قواعد العرف أو القانون يُعَين الطريقة التي تسير بها الحياة الاجتماعية"
أما الآلهة الإغريقية والرومانية لم يكن لها علاقة بتنظيم شئون حياة الناس، والجانب الدنيوي كان شبه منفصل تماماً عن الجانب الأخروي أو المقدس، يقول محمد أسد عن آلهة الرومان: نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية "لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية لقد كانت أشباحاً سُكِتَ عن وجودها حفاظاً للعرف الأجنبي ولم يكن يُسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية".
ويؤكد ذلك (سيسرو) الذي عبر عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله: "لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغى إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة". وذلك ما أكده الراهب (أوغسطين): "إن الروم الوثنين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل".
بل إن الفيلسوف الروماني أبيقور (4 ق.م) أعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة: "إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، لأن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح! ويقول: "إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا. هم لا يعيروننا بالاً فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا"! يعني كانت آلهتهم شكلية كزينة أو ديكور!
فكارل ماركس عندما قال: دعونا من معركة السماء وأن معركتنا هنا على الأرض، أو معركتنا ليست في السماء ولكنها هنا على الأرض. كان يعيد أوروبا إلى وثنيتها الأولى، وتلك العبارة قالها أبيقور: أن الآلهة في السماء تتصارع فيما بينها ولا تهتم بنا، فدعونا من ماذا تريد وما لا تريد، ولنرى نحن ما نريد!
ولأن آلهة الإغريق والرومان لم تكن تشرع لهم شيئاً، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، لذلك أله الفلاسفة الإغريق العقل، وبرز إلى الوجود (القانون الروماني)، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة، إن وجدت، فكانت أبيقورية محضة.!
لذلك علينا تصحيح الفهم الخاطئ عن مفهوم العلمانية والدين في المجمعات الشرقية والغربية، فالأديان البدائية والآلهة في المجتمعات الشرقية وغيرها لم تلغي الجانب الدنيوي في الحياة الإنسانية، ولم يسيطر الفكر الديني على جميع مناحي الحياة في تلك المجتمعات، وكانت تترك منطقة دنيوية للإنسان حق التصرف فيها بما يراه مناسباً لصلاح حياته، ويمكنه من خلالها أن يلعب دوراً في تنظيم شئون حياته الدنيوية.
أما الأديان في المجتمعات الغربية، لم تكن الآلهة تتدخل البتة في شئون حياة أتباعها، وكانت تعيش تلك المجتمعات ومازالت حياة علمانية لا دينية بكل ما تعني الكلمة من معنى، والدين أمر شخصي تعتقد أو لا تعتقد ذلك أمر خاص بالفرد! بمعنى معاصر؛ أن الغرب عرف فصل الدين عن الحياة، أو العلمانية (اللا دينية)، منذ عصور وجوده الأولى.
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب طوال تاريخه علماني وثني وثنية بشرية! (2)
سأل الأخ الكريم في تعليقه على المنشور السابق: رغم أن الفكر والفلسفات الأوروبية منذ زمن الإغريق والرومان وآلهتهم لم ينبثق عنها نظم تنظم شؤون حياتهم، وأن الملوك في كل العصور حتى آخرها تحالف الكنيسة مع الملوك كان الأثر الواضح في حياة الناس والعلاقات هو الدين، فكيف تفسر هذا الأثر للدين في حياتهم واجتماعهم؟!
قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ". (الروم: 30).
الدين والمعتقد سواء كان ديناً سماوياً أو وضعياً هو الذي يمثل جوهر حياة الإنسان، والموجه الرئيس لأفكاره وآرائه ومواقفه، وهو المحدد الرئيس أيضاً لعلاقاته بغيره. فالدين مقوم أساسي من مقومات فطرة الإنسان، لأنه يستحيل وجود جماعة بدون ديانة! ويقر ألبرت كريس موريسون أن الدين فطري في الإنسان فيقول: "إن كون الإنسان في كل مكان ومنذ بدء الخليقة حتى الآن، قد شعر بحافز يحفزه إلى أن يستنجد بمن هو أسمى منه وأقوى وأعظم يدل على أن الدين فطري فيه". ويقول تولستوي: "والدين يوجد الرابطة بين المرء وبارئه الأعلى، ويهدي الناس طريقاً مستقيماً، وينير بصائرهم في أعمالهم، ولولاه لأصبح الناس في مصاف العجماوات بل أحط منها مرتبة". كما يقول هنري برجسون: "لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة".
لذلك يقول مالك بن نبي: "أنه عندما يرجع إلى التاريخ يجد أن الدين يقف وراء كل المنجزات البشرية، وأنه كلما أوغل المرء في الماضي، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو المراحل البدائية، وجد سطوراً من الفكرة الدينية، ولقد أظهر علم الآثار دائماً ـ من بين الأطلال التي كشف عنها ـ بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أياً كانت تلك الشعائر".
ولم يضل الإنسان وينحرف، ولم تسود الوحشية والدموية، العالم إلا بعد أن سادت بعض الفلسفات البشرية التي ترفض الإيمان بإله، يقول معجم (لاروس): "إن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية... إن هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد". لذلك كان الأوروبيين شديدي التمسك بدينهم في العصور الوسطى على الرغم من شدة ظلم الملوك والأمراء ورجال الكنيسة لأتباعهم، وتحول الكنيسة إلى أكبر الاقطاعيين بزعم التفويض الإلهي للبابا، لأن الفطرة السليمة تؤمن بإله، وقد وجدوا ذلك الإله في النصرانية!
ولأنه يستحيل أن ترضي الإنسانية بموت إلهها، يقول جوستاف لوبون: إن "أول المسائل الأساسية في الأزمان الغابرة، وفي الأزمان الحاضرة المسائل الدينية، ولو أن الإنسانية رضيت بموت جميع آلهتها لكان هذا الحادث أعظم الحوادث التي تحدث فوق وجه الأرض منذ ظهور المدنيات الحديثة". ذلك في إشارة إلى رفض إعلان الفيلسوف نيتشه "موت الإله" وانتصار الإنسان (العقل)! وأعلن العقلانيين المعاصرين ما حاجة الإنسان للإله في عصر التكنولوجيا والتقدم العلمي وغزو الفضاء، فالإنسان أصبح قادر على صناعة الإله الذي يريد!
أما عن علاقة الغرب بالإسلام على الرغم من أنهم غالبيتهم أصبحوا لا دينيين، لخصها الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد بقوله: "ومن العجب أن هذه الحضارة الأوروبية حين تمت لها الجولة على الكنيسة وارتدت إلى أصولها الوثنية وأحيت تراث اليونان والرومان الحديث أخذت تتعامل مع العالم الإسلامي بروح هي خليط من هذه المتناقضات فكانت ملحدة في كل شيء إلا مع المسلمين فهي صليبية تتحالف فيها الدولة العلمانية مع الكنيسة ويقوم فيها الرجل الواحد بدور المنصر، والعالم المستشرق والجاسوس المحترف في آن واحد أحيانا".
ذلك لأنهم يدركون أن الإسلام هو الدين الوحيد على وجه الأرض الذي يملك ثقافة منهج حياة شامل يلبي كل احتياجات الإنسان، والقادر على أفشال كل مخططاتهم ضد الإنسانية وعامة البشر، فإنهم يبذلون كل جهدهم في تشويهه ومنعه من النهوض وقيادة العالم، لكن الله خير الماكرين، والله غالبون على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب طوال تاريخه علماني وثني وثنية بشرية! (3)
سؤال آخر من الأخ الكريم: يبقي سؤال هل ممارسات الغرب وأمريكا قاطرة المشروع الغربي لها ابعاد دينية توراتية في بلاد المسلمين؟ أسئلتك قيمة ومهمة وتنم عن وعي ومعرفة بالتاريخ الاجتماعي الغربي وتطوره، بعد إذنك نستكمل الموضوع لتتضح الرؤية لمن يتابع وإجابة سؤالك هي الحلقة الأخيرة.
تحالف الوثنية البدائية والنصرانية المُوَثَنة:
عندما خشي الإمبراطور قسطنطين على إمبراطوريته من التفكك وضياع سلطانه، أعلن اعتناقه للدين الجديد (النصرانية)، ودعا لعقد أول مجمع مسكوني نصراني هو مجمع نيقية سنة 325 م، وأعلن فيه أن النصرانية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية. والذي جمع بين الكنيسة والإمبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير!
يقول المؤرخ الأمريكي دابر: "إن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين النصراني والوثني؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما". وعلل المؤرخ الإنجليزي ويلز اعتناق قسطنطين للنصرانية وإعلانها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ إمبراطوريته المتضعضعة من التفكك والانحلال، وهو ما قال به جيبون من قبل.
ذلك بالنسبة للإمبراطور، أما الذين اعتنقوا النصرانية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في الحياة، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى (الأب والابن وروح القدس) محل (جوبتير ومارس وكورنيوس). ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: "أن (المسيحية) لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة".
يقول المؤرخ الأمريكي (برنتن): "إن (المسيحية) الظافرة في مجلس نيقية – العقيدة الرسمية – في أعظم إمبراطورية في العالم مخالفة كل المخالفة لـ(مسيحية المسيحيين) في الجليل، ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة (المسيحية) لخرج من ذلك قطعاً لا بأن (مسيحية) القرن الرابع تختلف عن (المسيحية) الأولى فحسب، بل بأن (مسيحية) القرن الرابع لم تكن (مسيحية) بتاتاً". ويقول ويلز: "من الضروري أن نستلفت نظر القارئ إلى الفروق العميقة بين (مسيحية) نيقيا التامة التطور وبين تعاليم يسوع الناصري".
الأصل في النصرانية هو فصل الدين عن شؤون الحياة:
الوضع الصحيح للعلاقة بين الدين والدولة في النصرانيةدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). مجمع نيقية كما وثن العقيدة النصرانية، فإنه علمنها أيضاً، وفصل بين العقيدة والشريعة، بين الدين والدولة وقسم الحياة البشرية لدائرتين مغلقتين:
الأولى: دينية من اختصاص الله ويقتصر محتواها على نظام الاكليروس والرهبنة والمواعظ وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.
والثانية: دنيوية من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوى محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ونظم الحياة العامة.
ويقول الدكتور "وليام تامبل" أسقف كنيسة كنتربري وحبر أحبار إنجلترا، حيث يقول: "إن من الخطأ الفاحش أن نظن أن الله وحده هو الذي يقدم الديانة أو القسط الأكبر منها". والسبب الذي أوقع الكنيسة في ذلك هو نظرتها القاصرة إلى الحياة الدنيا. يقول أحد المؤرخين الغربيين: "إن المسيحيين الأوليين لم يعمدوا إلى شيء من الإصلاح في المجتمع الروماني الذي نبتوا فيه برغم ما هو معروف من تحريمهم لكثير من العادات والطقوس القديمة، ولم تكن لهم فلسفة في الدولة وأصول الحكم ولا الايمان بتجديد المجتمع من طريق الانشاء والتنظيم، ذلك أنهم أيقنوا أن الدنيا متاع الغرور والشرور وتعلموا أن الانسان طريد جنة الخلد وحق عليه العذاب المقيم"!
مجمل القول: أن النصرانية لم تكن دين إلهي سماوي نقي من العقائد الوثنية والأهواء البشرية، ولكنه كان دين خليط من جميع المعتقدات والأفكار والفلسفات التي كانت منتشرة في ذلك الزمن. وقد تم علمنة النصرانية عقيدة وسياسة، لأنها لا يوجد فيها تشريعات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية...إلخ، يمكن أن تكون نظام حياة ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وعلاقة المجتمع النصراني بغيره من المجتمعات الأخرى ...
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب طوال تاريخه علماني وثني وثنية بشرية! (4)
على الرغم من أن مجمع نيقية عام 325م فصل في الاختصاصات بين الإمبراطور والكنيسة، "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، إلا أن الكنيسة سعت إلى السيطرة على جميع شئون الحياة في الغرب، وأن تصبح لها الكلمة الفصل والمطلقة على الجميع حكاماً ومحكومين. ولم تدع الكنيسة جانبا من جوانب الحياة دون أن تمسكه بيد من حديد، فهيمنت على المجتمع من كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها.
وقد توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيل، حيث كانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة ألد وأخطر أعدائها (المسلمين) أثناء الحروب الصليبية التي بدأت تلوح علامات هزيمتها فيها، ففكرت في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية، فكانت تلك الوسيلة (صكوك الغفران)! حيث أصدر المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة 1215م، قرار يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين! يقول ول ديورانت: "أن صكوك الغفران كانت توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين".
وقد مثل ذلك ذروة الطغيان الكنسي ضد الفقراء والأمراء على حد سواء، جاء في البيان الذي أعلنه البابا نقولا الأول قوله: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة؛ بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاماً كانوا أو محكومين".
أما البابا الطاغية جريجوري السابع فقد أعلن أن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً، خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه، بصفته خليفة الله في أرضه، أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم، حسب مقتضيات الأحوال".
ليس موضوعنا التفصيل لكل أشكال الظلم التي مارستها الكنيسة في أوروبا باسم الدين، لكن خلاصة القول: أن الدين لم يكن يحكم في أوروبا في القرون الوسطى لكن الذي كان يحكم هم البشر، رجال الكنيسة والأباطرة والأمراء والإقطاعيين، وقد كان نظام الحكم مقسم بين تلك الأطراف على النحو التالي:
* التنظيم الروحي: ويمثله رجال الدين ومجال عمله الكنائس والأديرة ووظيفته الوعظ والتوجيه للخلاص من "الخطيئة".
* التنظيم الزمني: وتمثله الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية وميدانه شؤون الحياة الدنيوية.
ذلك يعني أنه كان الفصل بين الدين والسياسة موجوداً بالفعل، أي أن هناك نوعاً من (العلمانية الموضوعية) كان يسود الحياة الأوروبية، وذلك أمر طبيعي ما دام الحكم بما أنزل الله غير نافذ في المجتمع.
تلك كانت حقيقة الأوضاع التي كانت عليها أوروبا في العصور الوسطى، وقد كانت الشعوب الأوروبية والملوك والأباطرة ورجال الدين الصغار يضيقون ذرعاً بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شئونهم يتحينون الفرصة لإعلان احتجاجهم والتمرد على سيطرة الكنيسة، لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفات الكنيسة ولا سيما (صكوك الغفران) تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة.
والعوامل التي ساعدت في القضاء على استبداد الكنيسة وتسلطها على أتباعها كثيرة، وسنقصر حديثنا في الحلقة التالية على أهمها وأخطرها ما يطلقون عليهم (حركات الإصلاح الديني) وعلى رأسهم مارتن لوثر!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني الوثني توراتي بثوب نصراني! (5)
قامت عدة ثورات وحركات إصلاح دينية ضد الكنيسة ومفاهيمها الضالة الباطلة، ومن الحركات التي كُتب لها النجاح (ثورة مارتن لوثر) التي كانت أحد أهم عوامل قيام النهضة الأوروبية، وخدعونا وقالوا: أنها كانت ثورة إصلاحية وضد الدين، كما خدعونا وقالوا: أن أوروبا نهضت وتطورت عندما فصلت الدين عن الدولة أو عن شؤون الحياة! ولخطورة ما نتج عنها من آثار مدمرة للعالم وأمتنا خاصة، سأوجز تلك المخاطر في عدة حلقات!
ثورة مارتن لوثر التخريبية أضاعت فلسطيننا!
لماذا الذين يمجدون مارتن لوثر ويرفعون من شأنه ويعتبرون ثورته (إصلاحية دينية) ... لا يقولون لنا أن ما قام به مارتن لوثر هو ثورة تخريبية للدين وليس إصلاحية، وأنها هي سبب نكبة أمتنا في هذا العصر وضياع فلسطيننا؟! لا تندهشوا؛ المذهب البروتستانتي عقيدته توراتية صهيونية قبل أن تكون إنجيلية نصرانية. قبل مارتن لوثر ونشأة المذهب البروتستانتي كانت الكاثوليكية تتمسك بنظرية القديس أوغسطين التي تقول:
التوراة تعتبر مقدمة تاريخية للنصرانية، وأن ما ورد في الكتاب المقدس عن مملكة الله (مملكة أورشليم)، يفسر على أنه قائم في السماء وليس على الأرض. وعلى ذلك فإن القدس وصهيون ليسا مكانين محددين على الأرض لسكن اليهود ولكنهما مكانان في السماء مفتوحان أمام كل المؤمنين بالله. أما فكرة أن اليهود هم (الشعب المختار)، و(أرض الميعاد والعودة إليها)، فقد سقطت في عقيدة الكنيسة بعدم إيمان اليهود بعيسى عليه السلام، وإيذاءهم له والتآمر عليه وقتلهم إياه بحسب العقيدة النصرانية!
لذلك كان اليهود قبل مارتن لوثر في الغرب منبوذون ومحتقرون ومضطهدون، وقد طردوا من كثير من أقطار أوروبا الغربية أيضاً بسبب جشعهم وحبهم للذهب وسرقة أموال الناس من خلال إقراضهم بالربا. وقد جاء مارتن لوثر ليعيد لليهود اعتبارهم وقداستهم ك(شعب الله المختار) وأبناء الله وأحباؤه، إلى درجة أن قال: "علينا أن نلتقط فتات موائدهم لنقتات به"! في إشارة إلى درجة القداسة التي رفعهم إليها في العقيدة البروتستانتية التوراتية الجديد!
وجعل الاعتقاد بما جاء في التوراة والإيمان بخرافاتها عن العودة وإقامة (دولة يهودية) ... الخ شرط من شروط صحة الإيمان البروتستانتي، أي أعاد القداسة لليهود كـ(شعب الله المختار)، وبعد أن كانت (مملكة أورشليم) اليهودية ترمز إلى مملكة في السماء، وأن (مملكة أورشليم الأرضية) هي للنصارى المؤمنين بالمسيح، أصبحت هي لليهود، وأعاد الاعتبار إلى فكرة أن فلسطين هي (أرض الميعاد)، ولم تعد فلسطين والقدس وطن المسيح، والأرض المقدسة التي من أجل استعادتها من المسلمين أعلنت الكنيسة الحروب الصليبية أصبحت وطن اليهود وأرض (دولتهم الموعودة). وأنه على جميع النصارى أن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل إعادة (شعب الله المختار) إلى (أرضه الموعودة) .. لذلك يسمى المذهب البروتستانتي بـ(المسيحية الصهيونية)، كإشارة إلى أنه مذهب يهودي أكثر منه نصراني!
كما وضع المذهب البروتستانتي تفسيرات أخرى تقول بالواقع الأرضي لمملكة الله، وبوعد الله المقدس لليهود، وبوكالتهم عن الله في إقامة مملكته، وبالعودة الثانية للمسيح وشروطها، وبالألفية وحتميتها. وبعد أن كانت الكنيسة التي يمثلها البابا هي صاحبة العصمة في الكاثوليكية فإن العصمة في البروتستانتية أصبحت للكتاب المقدس بجزئية: العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الأناجيل الأربعة والرسائل)!
وبعد أن كانت عودة اليهود إلى فلسطين في عقيدة اليهود عودة سلمية وبتدخل إلهي، ومثلها عودة المسيح في عقيدة النصارى تحدث نهاية الزمان بإرادة إلهية؛ قد تحولتا في العقيدة الجديدة (البروتستانتية التوراتية الصهيونية)، إلى: أن عودة اليهود إلى فلسطين تسبق عودة المسيح وأنها شرطاً لها، وأنه يمكن لهاتين العودتان أن تتحققا بإرادة وفعل البشر!
لم يقل لنا أحد أن ما قام به مارتن لوثر كان مشروعاً لاهوتياً يهودياً لتخريب العقيدة النصرانية لا إصلاحها خدمة لتحقيق الغايات التوراتية، وأنه كان هو السبب الأول في نكبتنا وضياع فلسطيننا، وتهديد قدسنا وأقصانا اليوم، لأن الجمعيات وأتباع المذهب البروتستانتي هم الأشد تعصباً والأكثر إنفاقاً ودعماً لإعادة بنا (الهيكل الثالث) المزعوم، والأسرع دعماً لهدم المسجد الأقصى. ولأنه بتلك الأفكار فتحت أوروبا أبوابها على مصارعها لعودة اليهود إليها سادة مكرمين، ليفعلوا بها ما يشاءون بزعم أنهم (شعب الله المختار)، ويطالبوا الغرب بمساعدتهم بشتى الوسائل للعودة إلى (أرضهم الموعودة) تنفيذاً لأمر الرب، إلى أن أصبح اليهود اليوم يحكمون العالم ويتحكمون في مصائر شعوبه، كل ذلك بسبب أفكار مارتن لوثر الدينية!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني الوثني توراتيا بثوب نصراني! (6)
لم تكن الثورات الدينية التي قامت في أوروبا ضد الكنيسة تمرداً على الدين كدين أو على الكنيسة لأنها كنيسة؛ بل لأنها (مالك إقطاعي)! يقول ويلز "كانت ثورة الشعب على الكنيسة دينية. فلم يكن اعتراضهم على قوة الكنيسة بل على مساوئها ونواحي الضعف فيها وكانت حركات تمردهم على الكنيسة حركات لا يقصد بها الفكاك من الرقابة بل طلب رقابة دينية أتم وأوفي. وقد اعترضوا على البابا لا لأنه الرأس الديني للعالم المسيحي بل لأنه لم يكن كذلك أي لأنه كان أميراً ثرياً دنيوياً بينما كان يجب أن يكون قائدهم الروحي".
وعليه لم تكن ثورة مارتن لوثر ثورة ضد الدين؛ لكنها كانت ثورة ضد تحالف الإقطاع والكنيسة، وضد ظلم رجال الدين الشعوب باسم الدين، لم يكن الفصل بين الدين والسياسة في الغرب انتقاماً من الدين النصراني، لكنه كان تقويم لما أحدثته الكنيسة على الدين من بدع، دينية وسياسية وغيرها، وتصحيح لعلاقة الدين بالمجتمع والدولة، وإعادة الدين إلى وضعه الصحيح والطبيعي في حياة المجتمعات الغربية، الذي أساسه (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)!
وقد كان أخطر نتائجها ثورة مارتن لوثر:
* إحداث انشقاق ثاني في الكنيسة الغربية أدى إلى ظهور مذهباً دينيا نصرانياً جديداً كان سبباً في تدمير أمتنا وضياع فلسطيننا وهو المذهب البروتستانتي.
* أنها حطمت الوحدة الشكلية للعالم الغربي النصراني، وأضعفت السلطة الكنيسة المركزية بكثرة ما أحدثته من مذاهب وفرق لا حصر لها.
* وضع الأساس الأول والرئيس لنشوء الدول القومية في أوروبا على أساس اللغة والعرق.
* ساعدت على نشوء الطبقة البرجوازية في أوروبا، التي دعمت حركات الخروج على الكنيسة والثورة ضد الإقطاع.
* أدت في النهاية إلى عودة العلمانية اللا دينية الإغريقية - الرومانية إلى الحياة الأوروبية بأبشع صورها، وسيطرة الخرافات التوراتية عن آخر الزمان على عقول الغربيين حكاماً ومحكومين، وتم التعبير عن كل ذلك في تحالف السياسي والاقتصادي في نظام رأسمالي لا أخلاقي متغول يؤمن بأن البقاء للأقوى والأقوى هو الأصلح بغض النظر عن ما يسببه من دمار وهلاك للإنسانية والطبيعة!
ومنذ أن استطاع اليهود تحقيق بعض التقدم في مخططهم بشق الكنيسة الغربية الكاثوليكية إلى كاثوليك وبروتستانت، بدأ اليهود الترويج لفكرة (القومية اليهودية)، أو (الأمة اليهودية)، أو (الشعب اليهودي)، والعمل على إعطاء (القومية اليهودية) مضمون فكري يرفعها إلى درجة الأيديولوجيا السياسية وأنها قومية عرقية (شعب)، قبل قرون من انتهاء الصراع والحروب الأوروبية مع الكنيسة والبينية، وقبل أن تأخذ الأمم القومية والدولة القومية في الغرب شكلها النهائي وتبلور مفهوم وشكل الدولة القومية في أوروبا!
ففي منتصف القرن السادس عشر أعلن الحاخام الأرثوذكسي (ليفيا بن بلايل): "إن اليهودية لم تعد تُعرف على أنها دين، بل على أنها (شعب) وأن أوروبا منذ عصر النهضة لم تعد تتصور شكلاً آخر للتنظيم الاجتماعي سوى شكل (الأمة القومية) و(الدولة)" ويرى بن بلايل: أن المهمة الأولى لليهود هي أن يتكونوا في (قومية) وأن ينشئوا دولة لهم على أراضيهم الخاصة".
وقد يسأل من يقرأ بوعي: ما علاقة ما قاله بن بلايل بالصراع في الغرب بين الكنيسة ومعارضيها؟!
الإجابة: أن الذي يستطيع تحديد شكل وهيكلية النظام الاجتماعي للدولة والنظام السياسي الذي سيقوم في الغرب قبل قرون من انتهاء الصراع والتطور الفكري للأمة والقومية في أوروبا، هو الذي سيقود ويتحكم في عملية التغيير تلك، أو أنه سيلعب دوراً رئيساً فيها وفي توجيه حركتها الوجهة التي تخدم أهدافه وغاياته، ويكون قادراً على التحكم فيها في معظم مراحلها إن لم يكن كلها!
كما أن الدارس لتاريخ الغرب منذ أواخر القرون الوسطى يستطيع تتبع الفكر اليهودي الرؤيوي وتعاليمه الواضحة عن إحياء إسرائيل ككيان سياسي "النظرية التدبيرية وعقيدة الحكم الألفي من وجهة النظر اليهودية". فقد أصبح التقليد اليهودي الصوفي المعروف بـ"القبلانية" وسيلة اليهود لنشر هذا النوع من اللاهوت. ويعتبر (جاكوب أو يهودا هليفي) الذي عاش في أسبانيا ثم استقر فيما بعد في القدس من 1074-1135 أحد القبلانيين الأوائل الذين تبنوا هذا الموقف. وكان لهم تأثير عميق على علماء الفلسفة الإنسانية (المسيحيين) أمثال "جوهانس ريخلين"، و"هيجو غرونيوس"، والمعاصرين كـ"مارتن لوثر"، ولقد حث "ليخرين" لاهوتيي حركة الإصلاح الديني على التأكيد على أهمية دراسة العهد القديم. وقد تطورت البروتستانتية التوراتية في الغرب مرتبطة لاهوتياً بفكرة إقامة دولة يهودية حديثة في فلسطين!
وحركة القبالاه اليهودية الصوفية نشأت في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي في الأندلس ضد تأثير الثقافة الإسلامية على عقائد اليهود العنصرية الاستعلائية، فكرة (شعب الله المختار، والعودة لأرض الميعاد)، ولمحاربة اندماج اليهود في المجتمع الإسلامي، وأخطر ما فيها: أنها ربطت خلاص العالم أجمع من أزماته ومشاكله بالعمل على إعادة اليهود إلى (أرضهم الموعودة) وإقامة (دولة الرب فيها)، وتلك هي عقيدة الاسترجاع النصرانية (البروتستانتية)!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني الوثني توراتيا ونشوء الدولة القومية! (7)
منذ أن تُرجم مصطلح العلمانية وأنصار العلمانية يزعمون أنه مشتق من العلم، في الوقت الذي لا علاقة له بالعلم البتة، وزعموا ومازالوا أن سبب تقدم الغرب ورفاهيته أنهم علمانيين، وعندما تسألهم: ماذا يعني بعلمانيين؟ يجيبونك: لأنهم فصلوا الدين عن السياسة وشؤون الحياة!
لا أريد أن أتحدث عن موقف الإسلام من العلمانية، ولا ما أحدثته العلمانية في وطننا وأمتنا من أزمات، وما جلبته علينا من خراب، لكن هي تذكرة فقط: الإسلام الذي يعتبرونه متخلفاً هو السبب المباشر في حركة النهضة الأوروبية سواء الدينية أو الفكرية أو العلمية، وحركة مارتن لوثر التي زعموا أنها أهم حركات (الإصلاح الديني) في الغرب أكبر مثال على ذلك.
كما تعلمون أنه قبل تلك الحركة كانت الكنيسة تضطهد أتـباعها بناء على احتكارها الحق في تفسير الدين، وحقها في قراءة الأناجيل، وحق رجل الدين فقط في الاحتفاظ بنسخة من الأناجيل، ويمنعون على عامة المواطنين قراءتها أو الاحتفاظ بنسخة أو جزء منها، ويمنعون ترجمتها إلى اللغات المحلية، ويمنعون ...! من أين أتى مارتن لوثر بفكرة أنه من حق كل الناس أن تقرأ الأناجيل وتفسرها وتحتفظ بنسخة منها في منازلها؟
من الإسلام، نعم من الإسلام! لأن القرآن الكريم جميع المسلمين يحتفظون بنسخ منه في منازلهم ومن حقهم أن يقرؤوه، ومن حق أي مسلم أوتي قدر من العلم في أمور الدين أن يفسره أو يعترض على تفسير أو رأي أحد العلماء إذا رأى أن هناك رأي آخر أرجح منه. ذلك الحق في قراءة وتفسير الأناجيل والحرية في التعبير عن الرأي الذي نادى به لوثر أخذها عن الإسلام!
قبل لوثر كانت اللغة الوحيدة التي يُكتب بها كتابي التوراة والأناجيل هي اللغة اللاتينية، ويُحرم ترجمته إلى اللغات المحلية، وقد ترجم لوثر الأناجيل للألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية، تلك الترجمات هي التي ساعدت على نشوء القوميات العرقية في الغرب، وبدأت تؤسس لِما عُرف في الغرب بالفكر القومي، وقد ساعدهم على ذلك تحالف رجال المال والبرجوازية الأوروبية الناشئة مع فكر لوثر ودعمها لأنصاره، لتحقيق طموحاتها المالية التي تطورت إلى فكرة الاستقلال الوطني عن الكنيسة.
وكما استغل اليهود الذين كانوا وقتها هم كبار البرجوازيين والرأسماليين مارتن لوثر في تغيير دين الكنيسة استغلوا الفلاسفة والمفكرين (وكثير منهم كانوا يهودا) والعلماء الذين أيضاً هم في شوق للتحرر من سطوة وجمود وتخلف الكنيسة لتوجيه حركة التغيير في المجتمع الغربي باتجاه ما أعلن عنه الحاخام ليفيا بن بلايل، القومية العرقية وما صاحبها من تعصب عنصري استعلائي، وحثوهم على جمع ما تراكم عبر عشرات السنين من تراث شعبي وأدبي وتاريخي وفكري كُتب بتلك اللغات المحلية، وجعلوا منه تراث تاريخي مشترك يشعرون بأنهم ينتمون إلى بعضهم منذ آلاف السنين، واستغلوه في بلورة شعور وطني وفكر قومي مشترك يميز كل مجموعة عرقية عن غيرها من المجموعات العرقية الأوروبية الأخرى ...إلخ، وأصبح كل الذين يتكلمون لغة واحدة هم قومية عرقية، شعب واحد، وعليهم أن يؤسسوا دولة خاصة بهم مستقلة عن سيطرة الكنيسة ورجال الدين.
كما أن تلك المصلحة التي جمعت بين الأمير الإقطاعي الذي يريد التحرر من سطوة الكنيسة وبين البرجوازي الذي يريد تحرير الأيدي العاملة التي يحتاجها من قبضة رجال الإقطاع، جعلتهم يغضون الطرف عما أحدثه مارتن لوثر من تغيير جذري على العقيدة النصرانية وهدمها لصالح عقيدة دينية أقدم وأشد تخلفا ووثنية، وهي اليهودية! بمعنى أن ذلك التحالف كان نتيجة أو استجابة للظرف التاريخ والتطور الاجتماعي الذي حدث في الغرب، والذي اقتضى التخلي عن عقيدة الكنيسة الكاثوليكية إلى الكنيسة البروتستانتية، والغاية هي الدنيا والمال!
تلك الدول القومية العلمانية التي كانت إحدى ثمار ثورة مارتن لوثر وهي تتلمس سبل نهضتها بما سرقته من علوم المسلمين، هي التي أهلكت الحرث والنسل، واحتلت ثلاثة أرباع العالم، وأبادت مئات ملايين البشر ونهبت ثرواتهم المادية والمنقولة والمواد الخام، وخطفت عشرات الملايين من أوطانهم، توفى منهم ملايين أثناء نقلهم إلى بلاد أخرى، ليستعبدوا فيها يباعوا ويشتروا ويفرق بين الزوج وزوجته والأولاد ووالديهم، ويتم تغيير دينهم (الإسلام) قصراً، وكل ذلك كان يتم باسم الدين الذي يزعم متغربي وطني أن الغرب تخلص منه واستبدله بالعلمانية، في الوقت الذي كان على كل سفينة حربية تذهب لاحتلال أوطان الغير، أو خطف الأحرار واستعبادهم، أو إبادة الملايين أو ... رجل دين يشرعن لهم جرائمهم تلك باسم الرب ...!!!
خدع متغربي وطني وخدعونا وزوروا التاريخ والحقيقة لصالح عدو وطني، والمفترض أن الرائد لا يكذب قومه!!!
مارتن لوثر خرب الدين ولم يُصلحه؛ فهو لم يجدد في الدين ولم يطوره بما يتناسب مع مقتضيات العصر، لكنه انتكس بالدين إلى رجعية وظلامية أسوأ مما كانت عليه، إلى عقيدة دينية أقدم من عصره بأكثر من ألف سنة، جمع فيها بين متناقضات لا يقبلها العقل، بين الإيمان والاعتقاد بأوامر إله اليهود (يهوه) الخاص بهم من دون كل البشر، وبين الإيمان بالمسيح الذي هو (ابن الله) و(إله) لكل البشر؛ الذي قتله أتباع (يهوه) بحسب العقيدة النصرانية؟!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب الوثني النصراني التوراتي البروتستانتي! الحلقة الثامنة
قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أن اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أنى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ أن اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247).
تلك هي حقيقة اليهود عبدة المال والعجل الذهبي، فلا دين لهم إلا المال وجمعه بأي وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، أخلاقية أو لا أخلاقية، إنسانية أو بربرية ... المهم السيطرة والهيمنة على المال وتكديسه في أيديهم ومحاولة استعباد البشر من خلاله. وأفضل من قرأ التغيرات التي حدثت على العالم الغربي نتيجة الانشقاق الكبير الذي أحدثته الأيادي اليهودية في الكنيسة الغربية من خلال مارتن لوثر وجون كالفن وغيرهم، ونشوء المذهب البروتستانتي، عالم الاجتماع الألماني البروتستانتي المذهب ماكس فيبر، فهو أفضل من حلل وشخص بعمق ما أحدثه المذهب البروتستانتي التوراتي من تغيير في الغرب، بل إنه صنع الغرب الحديث وشكل مستقبل العالم إلى نهايته! ونُجمله في التالي:
أنه منذ بدايات عصر النهضة حكم مراحل تطور الغرب وتشكليه ومازالت متلازمات ثلاثة، شكلت المنظومة الغربية عقيدة وأخلاق ونظام حياة ولها طابعها المتميز، وهي:
المذهب البروتستانتي التوراتي الذي حطم سلطة الكنيسة وهيمنتها على كل شؤون الحياة في الغرب عقيدة دينية، بكل خرافاته وعقيدته عن نهاية العالم، الذي ورث العالم كوارث ونكبات لا حدود لها!
النظام الرأسمالي نظاماً اقتصادياً، وقد استغل دعوة المذهب البروتستانتي إلى الزهد في المال رداً على جشع وطمع الكنيسة وسيطرتها على النظام الاقطاعي، ودعوته إلى فريضة العمل والتوسع في الأعمال وزيادة ساعات العمل والسعي لجمع المال وتكديسه، لأن ذلك عبادة ترضي الرب ويتقرب بها العبد إليه، بغض النظر عن الوسيلة، أو مقدار الحاجة له، وذلك رداً على قلة الإنتاج زمن الكنيسة لأن العمل كان على قدر الحاجة فقط، فأصبح بذل الجهد ومضاعفة ساعات العمل لجمع المال نظام حياة في الغرب الرأسمالي/ وحول العلاقة بين الإنسان وكل ما في الكون إلى علاقة صراع وتضاد وتسابق على جمع المال!
وليس أي عمل أو كسب الذي يُعتبر عبادة وتقرب للرب؛ لكنه العمل الذي يعتمد على العقل والتخطيط والاحتكار، أي الممنهج عقلياً ومن خلال مؤسسات منظمة وقوانين تنظمه، وتلك المؤسسات والشركات وغيرها التي تأسست عبر القرون الأخيرة أصبحت هي التي تتحكم في شؤون العالم وتقرر مصير البشر، وكل ما يعانيه العالم اليوم من حروب وأزمات اقتصادية وكوارث طبيعية وفيضانات، وتغيرات بيئية تهديد يتغيير جغرافي في كثير من قارات العالم، سببه جشع تلك الشركات وحرصها على جمع مزيد من المليارات، ما أحدث ثقب الأوزون الذي تسبب في ذلك!
المنهج العقلي تشريعاً ونظام حياة وقد حل محل الدين وألغى سلطة الكنيسة ظل الله على الأرض، والتفويض الإلهي للبابا، وأصبح هو الدين الجديد للغرب. وقد كان الإغريق يؤلهون العقل، لأن آلهتهم لم تكن تتدخل في إدارة شؤون حياتهم!
تلك المنظومة ذات المتلازمات الثلاثة هي التي أنشأت الغرب الحديث عقيدة واقتصاد وأخلاق ونظام حياة، يحاول الغرب عولمتها على العالم بكل شرورها، وعداءها للأديان وللقيم الإنسانية وللخصوصيات الثقافية للشعوب، وتعبيده البشر لتحالف المرابين اليهود العالميين ومن دان بدين (يهوه)!
والمتأمل لمضمون أسفاره العهد القديم بحسب المفهوم الفريسي الصهيوني يجد أنها وضًعت بطريقة تخدم مؤامرتهم وهدفهم المنشود وهو السيطرة على العالم، ويجد أن "كل هذه الكتب تنبأت بقيام مملكة (يهوه) حيث يسيطر اليهود على شؤون العالم (ويرثون الأمم)" إلى أن يقول (إشعيا: 60/20-21): "لا تغرب شمسك عن قمرك ولا نقص لأن الرب يكون لك نوراً أبدياً وتكون أيام مناحتك قد انقضت ويكون شعبك كلهم صديقين وإلى الأبد يرثون الأرض". وترى أسفارهم أن يوم القيامة هو يوم قيام دولة اليهود ودخول مسيحهم (الهيكل) حيث يتم لهم السيطرة على العالم وسحق قوة (الجوييم)".
وتقول "الموسوعة العبرية" أمام كلمة "الإيمان بالأخرويات": "إن تحطيم جيوش يأجوج ومأجوج لا يعني كما قال (ويبر) خطأ إبادة عالم الجوييم عند انتهاء عهد المسيح المنتظر، بل إفناء كل سلطة وبلد تُعارض ملك (يهوه) وتحقيق عهد المسيح المنتظر والشعوب التي ستخضع عندئذ للشريعة ستبقى على قيد الحياة، وهكذا "يكون في كل الأرض يقول الرب إن ثلثين منها ينقرضان ويضمحلان والثلث يُستبقى فيها" (زكريا 13: أما الأرض المقدسة نفسها فلن يسكن فيها أحد من الغرباء"!
وسيأتي مسيح اليهود آخر الزمان ويكون ملكاً للعالم يمتد سلطانه ليغطي كل الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وذلك بعد إعادة بناء (هيكلهم) المزعوم؛ رمز للسيادة والسلطان لليهود الذي يكون مركزه القدس، حيث جاء في (المزمور 68/29): "مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ أُورُشَلِيمَ، لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا". وقد غرهم كثرة المصلين عند حائط البراق ولصنم الهولوكوست، فظنوا أنه زمن سيادتهم على العالم!
وخير من وصف حقيقة العولمة بأبعادها المختلفة روجيه جارودي، حيث يراها محاولة من دول الاستكبار العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة التوراتية لفرض ديانة جديدة على العالم تتحكم في كل العلاقات الإنسانية سواء عالمية أو فردية، ألا وهي (أُحدية السوق) أي عبادة المال، التي لن تكون فقط نهاية التاريخ بل موت للتاريخ ولفكرة الإله التي توجد فيه. والعولمة في نظره هي نقيض العالمية، وأنها عمل إمبراطوري لتسطيح وإبادة ثقافة وعقيدة كل الشعوب، عن طريق أسلحة ودولارات الولايات المتحدة التوراتية.
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي نهضته ونشوء العلمانية السافرة! (9)
العوامل التي ساعدت في القضاء على استبداد الكنيسة وقيام النهضة الأوروبية ونشأة العلمانية السافرة كثيرة، سنذكر أهمها لكن ليس مجرد سرد تاريخي دون وعي بكيفية استغلالها من قِبل الذين صنعوا الغرب الحديث ومازالوا يتحكمون به؛ بل سنوضح لأن غايتنا إحداث وعي في العقل المسلم، أهمها:
العلوم والمعارف الإسلامية، عرفت أوروبا الطريق إلى النهضة بفضل مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطالية وغيرها التي كانت تشع نور العلم والمعرفة، وأيقظت العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير التي تجعله يكد ويعمل في مجال اختصاصه دون وصاية ضاغطة. وقد ثارت ثائرة رجال الكنيسة على الذين يتلقون علوم الكفار (المسلمين)، ويعرضون عن التعاليم المقدسة فأعلنت حالة الطوارئ ضدهم وشكلت محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها، وبذلك قامت المعركة على قدم وساق وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام. ولم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى تبلور النزاع واتخذ شكلاً جديداً:
فقد أصبح النزاع بين النص الذي تعتمد عليه الكنيسة وحججها الواهية وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة. ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي (ديكارت) أول الأمر على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلاً عن الآخر.
وقد اعترف كثير من مؤرخي الغرب ومستشرقيه بفضل الإسلام والحضارة الإسلامية على الإنسانية بما قدمته لها من نتاج فكري وحضاري ضخم، يقول ماكنيك أوف هيومان: "إن علمنا يدين إلى الثقافة العربية بوجوده نفسه". ويقول "محمد أسد": "ولسنا نبالغ إذا قلنا: إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة". أما نيكسون فيقول: "أما المكتشفات اليوم فلا تحسب شيئا مذكورا إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلا وضّاءا في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما أوروبا".
وللعلم كل ما نسب الغرب اكتشافه لعلماء غربيين كان مكتشفوه قبلهم بقرون علماء مسلمين، وأهم النظريات التي لعبت دوراً في زعزعة ثقة الغربيين بالكنيسة:
نظرية كوبرنيكوس (1543) الفلكية، ومكتشفها في الأصل عالم الفلك والرياضيات المسلم الذي صحح نظرية بطليموس أبو الحسن علاء الدين بن علي بن إبراهيم بن محمد بن المطعم الأنصاري المعروف باسم ابن الشاطر (1304 -1375)!
نظرية الجاذبية الأرضية لإسحاق نيوتن (1642)، ومكتشفوها علماء مسلمين كثر في الفيزياء والأحياء والكيمياء والرياضيات وقد وضعوا كل قوانين الجاذبية والحركة قبل نيوتن بقرون، وأولهم الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني (893-945م)، وبعده أبو الريحان البيروني، وأبو جعفر الخازن، وهبة الله بن ملكا البغدادي وابن سينا و...
ونظرية الجاذبية أبهرت عقول الفئات المثقفة واتخذها أعداء الدين سلاحاً قوياً حتى أنها سميت "الثورة النيوتونية" لأنها جاءت مؤيدة بقانون رياضي مطرد، وهي من أعظم النظريات العلمية أثراً في الحياة الأوروبية، فإليها يُعزى الفضل الأكبر في نجاح كل من المذهب العقلي والمذهب الطبيعي. كما أن مذهب الإيمان بإله مع إنكار الوحي، والإلحاد ذاته مدينان لهذه النظرية.
كما أن نشوء الطبقة البرجوازية التي كانت أول ثمرات حركات الإصلاح الديني قد استفادت من ثمار التقدم العلمي التجريبي، وظل دور هذه الطبقة محدوداً حتى بدأ ما يسمى "الثورة الصناعية" حيث أدت إلى تخلخل المجتمع الأوروبي وتغيير بعض ملامحه الثابتة، فابتدأت المدن الأوروبية في النمو وظهرت الطبقة الوسطى البورجوازية كمنافس قوي للإقطاعيين، وقد تمثلت في طبقة تجار المدن الذين كانوا بمثابة الطلائع للرأسماليين الكبار. كما كان لظهور الورق والمطابع العامل الفعال في نشر اليقظة الشعبية ضد تحالف الكنيسة والإقطاع وتوسيع ميدانها، وبظهور الآلات ذات القوى المحركة تسارعت التحولات في المجتمعات الغربية.
كل تلك التحولات آذنت بهبوب رياح التغيير على القارة الأوروبية ومهدت لافتتاح عصر جديد مغاير للماضي في قيمه وتصوراته وأوضاعه، وكانت أحوال فرنسا الثقافية والاجتماعية تؤهلها لافتتاح ذلك العصر. فكانت الثورة الفرنسية عام 1789م. وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت أول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب "وليس باسم الله"، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.
ولأول مرة في تاريخ أوروبا يتم معاملة اليهود كمواطنين فرنسيين ومتساوين في الحقوق بفضل الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية (الإخاء، المساواة، العدالة)، ولم يعد خافياً على أحد أن اليهود هم الذين وقفوا وراء الثورة ومولوها وقادو الدولة الفرنسية بعدا وإلى اليوم!
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي ونشوء العلمانية السافرة! (11)
مهدت نظرية دارون إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد قال عنها أحد العلماء الغربيين "بأن أبوها الكفر وأمها القذارة". ويقول (وليم جيمس) عن الأثر الداروينى في الأخلاق: "إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية وقدمت لنا بدلها معياراً أخر نتعرف به على الخير من الشر وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحسن ما قدر له أن يبقى يظهر ويبقى فهو معيار موضوعي محدد". أي أن المعيار هو: البقاء للأقوى لا للأصلح!
علماً أن أول من تحدث عن فكرة الانتقاء الطبيعي كانوا علماء المسلمين وأولهم الجاحظ في كتابه الموسوعي "الحيوان"، وابن خلدون، وابن مسكويه وغيرهم، ولم يحدث في تاريخنا ما حدث في الغرب، لا العلماء أنكروا دينهم ولا نصوصه، ولا تم محاربتهم واضطهادهم ومحاكمتهم، ولا المسلمون ألحدوا وطغوا مادياً وسقطوا وانحلوا أخلاقياً و... لأنهم كانوا ينفذون تعاليم دينهم الذي أمرهم بالتأمل في أنفسهم وفي الأرض والكون، ويقرؤوا تاريخ العالم والكون لاستنباط التجارب لصالح الإنسانية! لأنهم لم يكونوا يبحثون عن بديل للدين ولا للنص ليستبدلوه بالعقل البشري، لأنه لم يكن للعقل المسلم مشكلة مع النص القرآني، لأن الإسلام رفع من شأن العقل وأهميته في فهم النص واستنباط ما فيه من مضامين مختلفة، لذلك كانت آراءهم في ذلك لا علاقة لها بأصل الكون والخلق لكن باستكشاف سنن الله في الكون والخلق!
أما ما حدث في الغرب فقد أجمله داروين نفسه في رده على سؤال أحد الصحفيين عند نزوله من الباخرة في أحد موانئ استراليا: لماذا تتمسك بنظريتك ولم يثبت صحتها؟! أجاب: لإنها البديل عن الكنيسة!
ذلك ما لا يريد أن يفهمه متغربي وطني، أن الصراع لم يكن ضد الدين إنما ضد الكنيسة وما نتج عن حكمها من ظلم وفساد واستبداد وتخلف وفقر ومحاربة للعلم و... فأرادوا تقويم الانحراف وإعادة الأمور إلى طبيعتها، إلى أُصولها، فالغرب لم يُلحد ولم يكفر بكل فكرة دينية كما يتصور الكثيرين، لكنه عاد إلى وثنيته البدائية التي كان عليها قبل تدخل الباباوات ورجال الدين باسم التفويض الإلهي في حياة الإنسان الغربي، وفرض جدار من الجهل والتخلف والخرافات عليه باسم الدين!
نشوء العلمانية السافرة
وتوالت الأحداث وتعددت الآراء والنظريات والفلسفات اللا دينية وخاصة في القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن نظرية دارون أجهزت على (النصرانية الرسمية)، وأفسحت الطريق لإبعاد الدين بصفة نهائية من التأثير في حياة الغربيين، ومهدت لرفضه رفضاً باتاً حتى في صورته الوجدانية المجردة، إلا أنها لم تُعيد أوروبا إلى العلمانية اللا دينية، لكن اليهود الذين أشرفوا على التحولات التي حدثت في أوروبا منذ إنشاء المذهب البروتستانتي التوراتي الذي لا يعتبر العمل شرطاً لصحة الإيمان، هم الذين أعادوها إلى العلمانية اللا دينية بتنفيذ شرط صحة الإيمان بحرفية ما جاء في التوراة المحرفة وليس تعاليم المسيح!
فاستغلوا نظرية داروين مع نظرية (نيقولا مكيافيللي) في السياسة التي عبر عنها في كتابه (الأمير) وأعادوا أوروبا إلى العلمانية اللا دينية الإغريقية – الرومانية، وأصبحت هي النظام المسيطر في الغرب كله. فقد كان مكيافيللي الذي أُطلق عليه لقب أول المحدثين، أول من تبنى دعوة علمانية ذاتية في العصور الوسطى، ودعا بصراحة إلى استبعاد الدين وعزله عن جانب مهم من جوانب الحياة، وهو السياسة.
ميكافيلي سياسي ودبلوماسي مؤرخ وفيلسوف إيطالي، عمل دبلوماسيا ًلمدة أربعة عشر عاما ًفي جمهورية فلورنسا الإيطالية، وضع في كتابه (الأمير) خلاصة تجربته السياسية وحقيقة مجتمع السياسيين وأخلاقهم، المكر والغدر وعدم الرحمة للوصول إلى أهدافهم، باختصار لا أخلاق في السياسة مهما تظاهر السياسي وتصنع أخلاقياً أمام المجتمع، وقد لُّقب بـ"أب النظرية السياسية الحديثة"!
وانطلاقاً من ذلك وجد علم السياسة الحديث بغيته المنشودة في كتابه (الأمير) الذي نشره قرابة عام 1513م، الذي شكل مصدر الإلهام في العصر الحديث بالنسبة للحكام والمفكرين السياسيين على حد سواء. والميكافيللية باعتبارها منهجاً عملياً للحكم تقوم كما رسمها واضعها في (الأمير) على ثلاثة أسس متلازمة مستمدة من تصور لا ديني صرف هي:
1- الاعتقاد بأن الإنسان شرير بطبعه وأن رغبته في الخير مصطنعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت، وما دامت تلك هي طبيعته المتأصلة فلا حرج عليه ولا لوم إذا انساق وراءها.
2- الفصل التام بين السياسة وبين الدين والأخلاق، فقد رسم ميكافيللي للسياسة دائرة خاصة مستقلة بمعاييرها وأحكامها وسلوكها عن دائرة الدين والأخلاق، وفرق ميكافيللي تمام التفريق بين دراسة السياسة ودراسة الشؤون الأخلاقية وأكد عدم وجود أي رابط بينهما".
3- إن الغاية تبرر الوسيلة: وهذه هي القاعدة العملية التي وضعها ميكافيللي بديلاً عن القواعد الدينية والأخلاقية. فالمعيار الذي تقاس به صلاحية الوسيلة أو عدمها ليس معياراً موضوعياً بل هو معيار ذاتي شخصي، وللسياسي وحده الحق في الحكم بصحة أي لون من ألوان السلوك أو خطئه وبطلانه.
وقد أصبحت المعادلة الجديدة في العرب تقوم على أساس أن:
الميكافيللية وتقول: إن الحق هو القوة!
والداروينية وتقول: إن الوجود هو القوة!
والداروينية نظرية علمية إذن فلتكن الميكافيللية كذلك!
والذي شجع على الإيمان بصحة تلك المعادلة، هو: أن الحياة الأوروبية شهدت في تلك الفترة انهيار نظام اجتماعي وقيام نظام آخر محله، فقد انهار الإقطاع وولدت الرأسمالية. كما أن السياسة ارتبطت بالاقتصاد ارتباطاً قوياً فازدادت بعداً عن الدين والمؤثرات الدينية.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى