كالعادة ....ولكنيوسف
أنس محمد خير
كالعادة... كنت أزور إخوتي وأحبّتي من الموظفين بمقر عملي السابق...
كنت كلّما زرتهم أرى الابتسامة تعلو محيّاهم، والسعادة تغمرهم من كلّ جانب، والترحيب يُرمى عليّ من كلّ حدب، فمن قائلٍ: بشّر؛ لعلّها رجعةٌ أبديّة، ومن قائلٍ: لعلّ عملك استغنى عنك لتعود إلينا، ومن قائلٍ: لعلّك تراجعت عن استقالتك...
كان الصّخب، والذهاب والإياب، والسؤال والجواب يعجّ في كلّ مكان.. حتى النادل لم يتغيّر سؤاله العابر: ألن تشرب شيئاً أيها الزائر..
ولكن هذه المرة... رؤوسٌ مطأطئة.. وخطاً متئدة.. وأهدابٌ نائمة.. وروحٌ ناعمة.. صوتٌ خافت.. وجسمٌ راعد.. لاسلام ولا كلام.. ولا ابتسامات على الدوام...حتى النادل.. بابه مغلق؟!
صوتٌ بعيد.. من جسمٍ قريب.. ينادي بحشرجةٍ مؤلمة.. ونفخة ضيّقة، أحسن الله عزاءك يا أخي؟؟
بدهشة ورعشة، سألته: فيمَن يا حبيب؟!
وبجفونٍ ذابلة.. وصوتٍ بارد.. أجاب: في أخينا إسحاق الكشميري..
ويأتيني اتّصالٌ من صديقٍ قديم: أخونا إسحاق مات!..
لقد ترك عندي قارورةَ ماء قبل نصف ساعة.. وقال: سأعود لآخذَها إلى منزلي.. لم يهنأ حتى بالماء في لحظاته الأخيرة؟
وآخر على الدّرَج ذو جسمٍ ذائب، وأصابع ملمومة، يقول: لقد أخذ منّي خطاباً قبل ساعة ليوصلَه إلى أحد الأشخاص.. ولكّنه في الطريق تعرّض لمضايقةٍ من شاب متهوِّر بالسيّارة؛ ففقد التحكّم بمقودها، واصطدمَ بعمود؛ فأصبحت سيّارته كقطعة عجين، وهو يئنّ بداخلها من شدّة الألم، وينظر بحنان إلى الجمهور، وما إن وصلت سيّارة الإطفاء؛ لتطفئ الحريق وتقطع الحديد؛ حتّى فارق الحياة..
آه يا إسحاق.. لقد كنت رمزاً للكفاح في سبيل تأمينِ لقمة العيش لأهلك وعيالك، لقد كنت تفكّر دائماً بعمل إضافيٍّ لتأمين المال لذويك.. وهذا حالنا..
لم أستطع إكمال الجولة على بقيّة الأصحاب؛ فلا أحد في مكانه، والكلُّ مشغول بالخبر، وذِكرُ اسم المرحوم على كلّ لسان وفي كلّ مقام..
عزّيت من أستطيع.. وبخطاً بريئة انطلقت خارج المقر.. وعدت سارحاً محلّقاً في عالم البرزخ أتساءل عن روح الصديق القريب.. البعيد..
وإذا بسيّارة من أقصى الغرب تعكس الطريق باتّجاهي واتّجاه الشّرق.. بتهور عجيب.. ودخول غريب.. تفاديته بإلهام من الرحمن.. فنظر إليّ وأشار بالسلام.. لم أستطع ردّ السلام .. وقلت في نفسي: ألا تخاف أن يكون هذا الدخول (كالعادة ولكن..)
المقالة منشورة لي في موقع الألوكة