مقالي الجديد:
صدم السوريون بالمشهد النسائي في جامع الأموي عشية انتخاب بشار الأسد، حيث تجمع بالفعل آلاف النساء لدعم الانتخابات، وعلى الفور تتالت الاتهامات على القبيسيات بالارتزاق والماسونية والعمالة، ليتم بعد ذلك تصنيف هذه المجموعة على أنها إحدى دواعش النظام في الجندر النسائي.
وقد كنت أحجمت عن الكتابة عن القبيسيات لولا أنني وقفت على مقال فظيع للدكتور عبد الرزاق عيد، وهو كاتب جدلي عنيف، وقد اختار إحالة المشهد كله إلى تفسير جنسي مثلي في اتهام لا يليق أن يصدر من رجل علم، ولن تخطئ في قراءتك مقاله هذا مبلغ الكراهية التي يكنها العلمانيون لكل ما هو إسلامي.
من المدهش أن الخطاب نفسه وبعبارة أشد انحطاطاً استخدمه عدد من أشد مؤيدي النظام، خلال السنوات الماضية وكذلك فقد تعرضت هذه الجماعة لهجوم عنيف من السلفية بمختلف اشكالها في السعودية والكويت بشكل خاص، واعتبرت عقيدة منحرفة ضالة، وكتب في ذلك عشرات المقالات، معظمها يجافي الواقع والمنطق.
ومع أنني أكن للدكتور عيد احتراماً خاصاً، حيث جمعني به حوار عميق أشرفته عليه دار الفكر السورية ضمن حوارات لقرن جديد، وكذلك أقدر للرجل تاريخه النضالي في مقاومة الاستبداد، وحين كان يقاوم بشجاعة وصلابةً لم نكن أبطالاً، ولكن هذا التفوق النضالي الذي يمتلكه لن يخوله احتكار الحقيقة.
والغريب أن أشد نقد أسود تعرضت له القبيسيات قد ورد من أكبر داعمي النظام، وبشكل خاص من الصحفي نبيل فياض، ومن الشيخ أسامة السيد (جماعة الأحباش) وكلاهما استعملا تعابير السيد عبد الرزاق عيد نفسها في الإشارة إلى العناء الجنسي المزعوم الذي تشارك الثلاثة في اتهام القبيسيات به، ولست أدري ماذا صنع الرجلان بكتيهم النقدية القاسية بعد أن قامت القبيسيات بالاصطفاف مع النظام، حيث كتبا طويل الصفحات لإثبات أن القبيسيات مؤامرة خطيرة مرتبطة بالصهيونية العالمية، يجب مقاومتها بشتى الوسائل، وأن وجودهن دليل على الوجود الصهيوني والإسرائيلي في سوريا!
إنه دليل آخر أن الموقف الحدي الانقلابي الانفعالي لا يقدم معرفة متوازنة، وأن النزاهة الموضوعية تواجه تحدياً خطيراً حينما تدخل طاحونة السياسة.
القبيسيات تسمية أطلقتها المجموعات الدينية القائمة في سوريا على هذه الحلقة العلمية التي نشأت مع السيدة القديرة منيرة قبيسي في السبعينات من القرن الماضي، وقد بدأت منيرة القبيسي التي تقارب الآن ثمانين عاماً في حلقات الشيخ أحمد كفتارو، وتميز نشاطها بالضبط الإداري، وحسن توظيف الطاقات والجهود، وكما هي عادة الجماعات الدينية في ممارسة الاستبداد فقد قاموا بمنابذة هذه السيدة الناجحة العداء، وبالفعل تعرضت لسلسلة من المضايقات اختارت بعدها الاستقلال عن جماعة الشيخ كفتارو دون أن تقطع صلتها بالشيخ نفسه الذي كان في الحقيقة أستاذاً لوالدها وعمها السيد أبو الخير القبيسي الذي يعتبر أحد أبرز تلاميذ الشيخ كفتارو.
وكان انفراد العمل النسائي عن الجماعات الدينية السائدة يثير استهجان الجميع ولكن الحاجة منيرة أظهرت صلابة وإدارة فريدة وحافظت على خطوط من الوداد مع المشايخ، وبعد أن حققت سلسلة نجاحات على الأرض في الدعوة عادت بسهولة لتكون محل احترام الجميع، وتسابق المشايخ في احتضان مؤسساتها ودعمها، وصارت معظم الجماعات الدينية في الشام تدعي الجماعة لنفسها أو تفاخر بأنها حاضرة ومؤثرة في هذا التجمع النسائي الفريد.
إن الجانب الحقيقي الذي أبرز دور منيرة القبيسي ونشاطاتها الكبيرة هو التعليم، فقد قام نظام البعث بمنع المدارس الخاصة والاستيلاء على عدد كبير منها، واعتبر التعليم شأناً حكومياً تتحمل مسؤوليته مباشرة القيادة الملتزمة بالمنهج الاشتراكي القومي، وقد أدى سلوك البعث هذا إلى تعرض التعليم في سوريا لضربة ماحقة، حيث هبط المستوى العام للتعليم وانعدمت المنافسة، وفي النهاية أدرك الجميع بما فيهم البعثيون أن هذا التوجه كان خطأ كارثياً وأنه أدى لتجهيل جيل كامل، وتغييبه عن الجديد في المعرفة حيث انعدمت المنافسة ومارست السياسة احتكار العلم وهو أسوأ أنواع الاحتكار على الإطلاق.
منذ الثمانينات قامت منيرة القبيسي بالانتباه إلى ثغرة هامة في الواقع التعليمي وهو وجود عدد من الرخص القديمة لمدارس خاصة متهالكة، بدأت القبيسيات بشراء هذه الرخص أو استثمارها ومشاركة أصحابها، عبر شبكة علاقات لأزواجهن من رجال الأعمال، وخلال نحو ثلاثين عاما أصبحت منيرة القبيسي وتلميداتها يمتلكن نحو مائتي مدرسة خاصة في سوريا، وتميزت هذه المدارس بالتفوق الكبير على النظام الحكومي على الرغم من تعرضها المستمر للمضايقات من ألاجهزة الأمنية ولكنها استطاعت في معظم الأحوال أن تنجو بمؤسساتها وتتفوق.
وبالطبع فإن المدارس التي أدارتها القبيسيات لم تكن عملاً خيرياً أو إحسانياً، لقد كانت في الواقع عملاً تجارياً رابحاً، وفي معظم الحالات لم تكن منيرة تملك شيئا من هذا المدارس، ولكن الجميع كانوا يرغبون بتعليم أولادهم في هذا النوع من المدارس الذي اشتهر بالصرامة في التربية والانفتاح في التعليم وحقق لطلابه نجاحات واضحة خاصة في اللغات والتكنولوجيا.
مضى أكثر من ثلاثين عاماً والبعث يمنع التعليم الخاص، وباستثناء بعض المدارس المسيحية الخاصة فإن معظم التعليم الخاص صار قبيسياً، أو قل صارت منيرة القبيسي أماً روحية لهذا النوع من التعليم الذي انخرط فيه عدد غير قليل من أبناء المسؤولين الذين كانوا يناضلون اشتراكياً ولكنهم يفضلون تعليم أبنائهم في المدارس الخاصة، وظل النظام يمتنع عن منح تراخيص جديدة للقطاع الخاص في سوريا.
ربما كانت أشبه تجربة بتحربة القبيسيات هي تجربة فتح الله غولن، الذي يقوم برعاية أكثر من عشرين جامعة وعدة آلاف من المدارس الأولى في تركيا، على الرغم من أن هذه المدارس لها أصحابها التجاريون ولكنهم يدرورن في فلك المعلم فتح الله غولن والاستفادة من السمعة والخبرة التربوية الفريدة للرجل الكبير ومؤسساته.
في السياسة لا يوجد للقبيسيات مشروع محدد، وموقفهم هو موقف الشيخ كفتارو والبوطي والجماعات الدينية التقليدية التي تأمر بطاعة الحكام وأولي الأمر، وتنهى الشيوخ عن التدخل في السياسة، وقد قام عميد كلية الشريعة مؤخرا بديع السيد اللحام بتأكيد هذا المنهج الأصم على التلفزيون السوري وقال بصراحة: الإسلام يأمرنا بطاعة أولياء الأمور، اسمعوا وأطيعوا ولو أخذوا أموالكم وضربوا أبشاركم، فإن أربعين عاماً من حكم حاكم غشوم خير من بقاء الأمة يوماً واحداً بلا إمام!!
وخلال خدمتي في مجلس الشعب فقد كنت دائم المواجهة مع المخابرات بشأن القبيسيات، فقد كان المخابرات يرون فيهم خلية إخوانية نائمة، وأن موقفهم المتسامح من الحاكم لا يعني بحال من الأحوال الاطمئنان لعملهن، وبشكل خاص كان لي تجربة مباشرة مع اللواء بهجت سليمان الذي أغلق لهن مؤسسات هامة في كفرسوسة، وقلت له مراراً: لا يصح هذا، إنهن واجهة المجتمع الشامي وحين تقوم الدولة بموقف كهذا لا يستند إلى أي سند قانوني فنحن نكرس مواجهة صامتة يبن المجتمع والدولة، ولن يرى الناس في موقفكم هذا إلا عداء للإسلام ورموزه… وكان بهجت سليمان يصارحني أن ذلك يتم بعلم المعلم وأمره، وأنها أمانة ومسؤولية ولا نستطيع أن ندفع جيلنا القادم في أحضان الظلاميين!!!!
لم يتغير في سلوك المخابرات شيء وظلت الملاحقة تزداد شدة كل يوم على القبيسيات، وقام كتاب علمانيون بمهاجمتهن علناً بشكل مقيت، تحت رضا النظام وسمعه وتحريضه، وأصدر الأحباش المعروفون بولائهم المطلق للنظام السوري كتاباً رهيباً في التحريض على القبيسيات اسمه: القبيسيات التنظيم السري الخطير، وفيه اتهامات مباشرة لداعيات معروفات بأسمائهن بالانحراف في العقيدة والانخراط في أعمال مباشرة ضد الدولة وتحريض مباشر للنظام باعتقالهن وإيقاف نشاطهن.
وكان من الطبيعي لسنوات عدة أن يقوم ضباط المخابرات بتوزيع نسخ وافية من هذا الكتاب على زوارهم بشأن التحذير والترهيب من القبيسيات.
وخلال خدمتي في مجلس الشعب تبنيت مبدأ إخراج القبيسيات من الغموض إلى العلانية، وكان موقفي يستند إلى قناعتي بأن المجموعة هي في الواقع مجموعة تعليمية ناجحة لا تمتلك أي برنامج سياسي وأن ممارسة إرعابها ومحاصرتها قد يدفع كثيراُ من أبناء الحماعة للتطرف، وبالفعل فقد تمكنت من الحصول على عدد من الرخص لشيخات قبيسيات لممارسة العمل العلني في المساجد في سوريا وكان ذلك بداية خروجهن إلى العلانية منذ عام 2005
مع بداية الأزمة في سوريا، كانت المفاجأة موقف الشيخ البوطي رحمه الله الذي اختار موقفاً متطرفاً ضد المتطاهرين، وأدلى بتصريحات متهورة في دعم النظام ومطالبته بالضرب بيد من حديد على المتظاهرين الأمر الذي منحه مباشرة مكانة متميزة لدى قيادات النظام، وحدثني العميد حسام سكر مدير مكتب الرئيس في الأشهر الأولى للثورة بأن الشيخ البوطي هو محور الأداء الحكومي في الشأن الديني، وهذه العبارة أنقلها عنه بالحرف (نعمل وفق توجيهاته!!) ، وكان من الطبيعي أن يقوم الرجل بالتنبيه أيضاً إلى الدور الداعم الذي يمكن أن تقوم به المجموعات القبيسية إذا ما وجدن فرصة للعمل براحة وحرية.
بالطبع البرنامج كلف به وزير الأوقاف الذي قام بإحداث إدارة خاصة للنساء في الأوقاف، واختار قريبة له من القبيسيات سلمى عياش لتكون مشرفة الإدارة النسائية في الأوقاف، وقد رقيت مؤخراً إلى رتبة معاون وزير بمرسوم جمهوري وهذه أول مرة تصل فيها امرأة إلى هكذا موقع في الأوقاف، وخلال سبعة أعوام تقريباً من العمل تم الترخيص لآلاف النساء للقيام بأعمال تطوعية في تحفيظ القرآن الكريم في المساجد، وهذه الرخص تصدر حصراً من المكتب النسائي في وزارة الأوقاف.
ويهمني ان أوضح عدداً من الأمور:
· إن التجمع النسائي الكبير الذي ظهر في الجامع الأموي لتأييد الانتخابات ليس تجمعاً قبيسياً وإنما هو حشد لكل العاملات في الأوقاف، وهؤلاء بالطبع لسن موظفات مأجورات، ولكن من المؤكد أن تراخيصهن في العمل الديني مؤقتة وتحضع للتمديد والتجديد بشكل دوري ومن المؤكد أن غياب أي واحدة منهن عن هذا الحشد يعتبر نهاية ترخيصها ووقف عملها الدعوي، وبالتالي مضايقتها بشكل مستمر وهذا أمر بدهي لدى كل من يعمل في الحقل الديني في سوريا.
· إن ما قامت به الداعيات من مواقف في تأييد النظام ليس خطة قبيسية، بل هو ببساطة السلوك نفسه الذي يمارسه كل موظفي الدولة حين يدعون لمناسبات كهذه في مجتمع لم يقدم له خطابه الديني التقليدي قيم الكرامة والحرية والديمقراطية، وإنما ظل يتحدث بإصرار عن طاعة ولي الأمر وثواب الله ورضوانه في طاعة الحاكم ووجوب الزهد في السياسة ومنع الناس من الخوض فيها.
· إن الحاجة منيرة قبيسي امرأة صالحة على أبواب الثمانين، شغلها العبادة والصلاة، لم يسجل لها حضور عام منذ عشر سنوات، وهي لا تكاد تخرج من دارها ولا تمارس أي دور إداري مباشر، وهذه المجموعات تمارس تقاليد الجماعة في اللباس والوصايا والثقافة وفق السنن التقليدية التي تعرفها سائر الجماعات الدينية في الشام، في حين يكون الارتباط بالشيخة منيرة محض ارتباط أدبي لا صلة له بالعمل التنظيمي المباشر.
· إن لباس القبيسيات ليس موديلاً خاصاً بهن، بل هو في الواقع لباس الأسر المحافظة في الشام، وليس فيه أي تميز، إلا بالقدر الذي تمارسه المجموعات المدرسية والناشطات الاجتماعيات اللاتي يجدن في اللباس صورة للانضباط والنظام.
· إن العقائد المزعومة للقبيسيات ليست إلا عقائد المسلمين السنة الأشاعرة، وهو الموقف الاعتقادي السائد في الشام، ولا يخفى تأثير الشيخين كفتارو والبوطي على ثقافة القبيسيات، والحال يشبه كثيراً حال الرجال من أبناء الجماعات الإسلامية في الشام.
· إن هذا الظهور النسائي الكبير للإشادة بالنظام دون ذكر كلمة واحدة عن الجرائم التي يمارسها جيش النظام في قصف المدن بالطائرات والبراميل، ما تسبب بتهجير ملايين السوريين، والإشادة بمآثر النظام في خدمة الإسلام والمساجد والدعوة النسائية يعتبر أمراً مخجلاً يعكس انهيار الخطاب الديني التقليدي وعجره عن بناء ثقافة الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.
· إن رفضنا لهذا السلوك المتخاذل لا يعني أبداً اتهام نسائنا وأمهاتنا وأعراضنا بما لا يليق ولا يستقيم، فالقبيسيات هن بنات المحتمع السوري، وهن صورة دقيقة عما يعانيه هذا المجتمع من غياب الحرية والعدالة والمساواة.
وأخيراً لا بد من التنبيه على امر في غاية الأهمية وهو أن هذا الظهور الكبير يجب أن يساعدنا في رسم صورة الحقيقة، فالصراع بين الموالاة والمعارضة لا يصح تصنيفه بالبعد الطائفي وحده، فهذه الآلاف من الداعيات في جامع الأموي ليس فيهن علوية واحدة، وكذلك العمائم التي اجتمعت في جامع العثمان كلها عمائم سنية تقليدية، ومن الواجب الاعتراف بأن هناك جزءاً واضحاً من الناس في سوريا يختارون هذا النظام رغباً أو رهباً، وأن على المعارضة الواعية أن تدرك ذلك وأن تحاور على أساس وجود قائم للنظام في الشارع، قناعتي أنه يقارب ربع الناس.
وبعد…. فإن الاتهامات الجنسية التي سوقها عبد الرزاق عيد ضد القبيسيات مرفوضة، وهي اتهام سوقي مخجل لا علاقة له أبداً بالبحث العلمي ولا بالخطاب السياسي المتوازن، وهي تتطابق تماماً مع اتهامات الموالين للنظام قبل سنوات، وهي دليل صارخ على ان الموضوعية العلمية في خطابنا العربي تعيش أزمة حقيقية، وأن الرتبة الأكاديمية وحدها لا تكفي للحكم على الأشياء إذا انغمست في أتون السياسة.
ليست القبيسيات مؤامرة، ولا هن تنظيم ماسوني خطير، إنهن صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وإن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا زال.