نبوخذ نصر في أسفار التوراة
دخلت شخصية الملك البابلي نبوخذ نصر التاريخ العالمي بفعل ما أنجزته من إنجازات كبيرة سواء تلك العسكرية منها أو العمرانية وكذلك بفعل انتشار ما كتب عنها من روايات وأساطير وأخبار متضاربة في كتب التاريخ وفي أسفار الديانات وتفاسيرها في الفترة التي تلت سقوط بابل عام 539 ق.م وحتى تاريخ قريب . وامتازت اغلب هذه الروايات بالعداء الشديد لهذه الشخصية وبمحاولة طمس حقيقتها وتجريدها من مزاياها ، ومما ساعد على ترسيخ هذه الأفكار التي حملتها تلك الروايات هو إنها اتخذت شكل إشاعات تراثية وتوارثتها الأجيال جيل بعد أخر , نظراً لعدم وجود مصادر تاريخية دامغة , تستطيع أن تقدم ما يفندها في تلك الحقبة
شغل الملك البابلي نبوخذ نصر مساحة واسعة من أسفار التوراة ، فقد جاء ذكره (91) مرة في اسفار العهد القديم فتناولته سبعة أسفار هي :
( الملوك الثاني ، أخبار الأيام الأول ، أخبار الأيام الثاني ، عزرا ، نحميا ، ارميا ، دانيال )
كما وردت بعض الإشارات إليه في أسفار أخرى مثل سفري استير وحزقيال، وورد فيها بأربع صيغ :
الأولى:
( נבוכדנאצר – نبوخذ نئصر ) في(20) مرة في المواضع الآتية :
الملوك الثاني 24: 1، 10، 11، 25: 1،8 ،22
ارميا 27: 6، 8 ، 20 ، 28: 3 ، 11 ،14 ،29 :1،3
دانيال 1: 7
أخبار الأيام الثاني 36 :7 ، 9، 10، 13
الصيغة الثانية:
( נבוכדנצר – نبوخذ نصر ) وردت( 38) في:
استر 2: 6
دانيال 1: 8 ،2: 1 ، 28 ، 46 ،3 : 1، 2، 3 ،5 ،7 ،24 ،31 ،4 :11،25، 28 ،34، 3: 2 ،9 ،5 :18
عزرا 2 :1 ،5 :12 1: 7 ،5 :14 ،6 : 5
نحميا 7: 6
الصيغة الثالثة :
( נבוכדראצר – نبوخذرئصر ) وجائت في (33) موضع من اسفار التوراة وهي :
ارميا 21 :2 ، 7 ،22 :25 ،29 : 21 ، 44: 30 ، 32 : 28 ،46 : 26، 24: 1 ،25: 9 ،35 :11 ، 37 :1 ،39 :1 ،5 :11 ، 43 :10 ،46 :2، 13 ،49 :30 ، 50 ، 17 ، 51: 34 ،52 :4، 12، 52 :28 ،34: 1 ،25 :1 ، 32 :1 ، 52: 29 ،30
حزقيال 30: 10
الصيغة الرابعة :
(נבוכדראצור – نبوخذ راصور) جائت في سفر ارميا 49: 28 وتقرأ
( נבוכדראצר ) من دون حرف الواو(1 ) .
وتتفق جميع أسفار التوراة على معاداة نبوخذ نصر ومحاولة الانتقام منه وتشويه صورته
و امتدت تأثيرات أسفار التوراة وما احتوته من افتراءات عن الملك البابلي نبوخذ نصر إلى عدد من المؤرخين الذين اقتبسوا الكثير من قصص التوراة واعتمدوها كمصدر لمعلوماتهم عن البابليين وعن نبوخذ نصر لهذا كانت مكانة نبوخذ نصر مكانة غير سامية في كتب التاريخ العربية والإسلامية ، إلا أن من المؤرخين من انتبه إلى هذا الأمر وقال :
(( أكثر الإخباريين والقصاص يغالون في أخباره ويبالغون في وصفه )) (2 ) .
فمن المؤرخين من شكك حتى في وجوده وفي كونه شخصية حقيقية عاشت في ارض بابل في يوم من الأيام ، وادعى بأنها نسج من خيال الشعوب لا يمت إلى الواقع بأية صلة ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى البحث عن البراهين لإثبات وجود نبوخذ نصر ، فهذا الملك يشهد أعدائه بوجوده لأنه حاربهم وأزال ممالكهم ، كما إن كل حجر في بابل القديمة نقش عليه اسمه لهو دليل على وجوده وعلى أثاره التي خلفها من بعده لتخلد قرون طويلة (3 ) .
وتبنى بعض المؤرخين موقفاً يشكك باسمه وبأصله ونسبه ، فذهب جل المؤرخين أن نبوخذ نصر هو بخت نصر واشتقاق اسمه من كلمتي ( بخت ) بمعنى ابن و ( نصر) اسم صنم من أصنام العرب ( 4) .
وجاءت النصوص المسمارية المكتشفة في بابل وغيرها لترد على المؤرخين الذين لم يكونوا دقيقين في تناولهم لتاريخ نبوخذ نصر من حيث الوجود والتسمية والنسب ولترد على التوراة وأسفارها ، فهو بحسب هذه النصوص الابن الأكبر لمؤسس السلالة البابلية الحادية عشر نبوبلا صر ، ومن أهم النصوص المسمارية المكتشفة نص يشير الى بناء برج بابل العظيم والى إشراك نبوبلاصر ولديه نبوخذ نصر
ونابو شوم في بنائه مثل عامة الناس ، فيقول نبوبلا صر في هذا النص المسماري :
(( إني نبوبلا صر ، صاحب السلطة في بابل , ملك بلاد السومريين والاكديين ، أحنيت رأسي أمام سيدي مردوخ وحملت فوق رأسي الطين وأنا في ردائي الملكي ، وأمرت بعمل سلال الأجر من الذهب والفضة , وجعلت نبوخذ نصر الابن البكر ، الكبير , حبيب قلبي يخلط الطين ، والشراب والزيت والإعشاب ويحمل المواد مثل بقية الناس ، وجعلت نابو شوم ليشير أخاه الصغير ، زهرة قلبي يمسك بالمر والمسحاة ووضعت فوق
رأسه سلة الاجر ....الخ )) .
واكتشف سجل تاريخي في وادي برسا ونهر كلب في لبنان منحوت على صخرة يذكر جميع أعمال نبوخذنصر العمرانية في بابل والمدن الأخرى إضافة إلى ذكر انتصاره على الأعداء الذين فرقوا سكان لبنان وأبعدوهم عن أماكنهم فجمع شملهم وجعلهم يعيشون بسلام. وقد قام بترجمة هذين النصين العالم الالماني ( فايسباخ ) (5 ) .
فضلاً عن وجود الكثير من الرقم الطينية المدونة بالخط البابلي الحديث التي تتحدث عن أعمال نبوخذ نصر وإنجازاته سواء في ميادين الحرب ام ميادين البناء والعمران ، إضافة الى النصوص القضائية والإدارية والاقتصادية التي تعطي صورة واضحة عن رقي بابل ومجدها في عهده ، وكل هذه الألواح وغيرها تفند بشكل قاطع ما ذهبت إليه بعض كتب التاريخ التي تجنت كثيراً على شخصية قائد كبير وعلى نسبه وأعماله متأثرة بالإسرائيليات التاريخية وقصص أسفار التوراة ، فنجد ان بعض إخبار نبوخذ نصر قد اقتبست بشكل كامل من أسفار التوراة ، والعداء التاريخي بين اليهود ونبوخذ نصر معروف وجلي ( 6) .
وكان اليعقوبي أكثر من تأثر بهذه الإسفار حينما تحدث عن نبوخذ نصر حيث قال إن نبوخذ نصر قد مسخه الله بصيغة بهيمة أنثى ، فلم يزل ينتقل في أجناس البهائم سبع سنين ، ثم يقال انه تاب إلى الله "عز وجل " فأحياه بشراً ، ثم مات "( 7) وهذه القصة مأخوذة بشكل تام من سفر دانيال4: 28-34( وفيما كانت الكلمة في فم الملك اذ وقع صوت من السماء إن لك يقال يانبوخذ نصر الملك زال عنك : فتطرد من بين الناس وتكون سكناك مع وحوش الصحراء وتعلف العشب كالثيران وتمر عليك سبعة أزمنة إلى أن تعلم إن ألعلي يتسلط على ملك البشر ويجعل له من يشاء) ومعروف العداء التاريخي بين اليهود ونبوخذ نصر والذي يجعل اعتماد التوراة كمصدر تأريخي وحيد للحكم على نبوخذ نصر وأعماله أمر لا يتفق والدقة التاريخية فلا يمكن ان يعتمد كلام الخصم لتقييم لخصمه فالتوراة التي دونت بعد عودة اليهود من السبي البابلي الذي قاده نبوخذ نصر قد جعلت منه هتلر العالم القديم.
فكري ال عيسى
1. אבן שׁושׁן ، אברהם ، קונקורדציה חדשׁה לתורה נביאים וכתובים .כרך שׁני . עמ" 1363
2 . المسعودي, ابي الحسن علي بن الحسين بن علي . مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج2 .ص251
3. د. سوسة , احمد , تاريخ حضارة وادي الرافدين ,.ص150
4 . ابن الاثير . الكامل في التاريخ . تحقيق ابي الفداء عبدالله القاضي . مج 1. ص198 والزبييدي , مرتضى. تاج العروس من جواهر القاموس , ص529( وقد اكد الزبيدي ان سيبويه نفى هذا البناء)
5. العلوجي , عبد الحميد.شخصية نبوخذ نصر الثاني, ص37
6 . د. علي , جواد .المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام , ج1, ص 276
7 . اليعقوبي . احمد بن ابي يعقوب . تاريخ اليعقوبي . المجلد الاول . ص 66