مقتل العقيد القذافي جريمة حرب لا تليق بايةِ ثورة
إن أسوء ما يرافق أية ثورة ويجعلها عرضة للمخاطر ويضع أمامها أكثر من علامة إستفهام هو إطلاق العنان لمشاعر الانتقام والثأر وتصفية الحسابات التي عادة ما تكون مصحوبة بجرعات زائدة من الحقد والكراهية. ومع الأسف الشديد أن الثورة في ليبيا, رغم تضارب الأخبار والمواقف والتصريحات من قبل قادتها, لم تخلُ من كلّ ما ذكرنا. وتأتي النهاية المأساوية للعقيد معمّر القذافي, الذي أعدم دون شك وهو مُصاب وأسير, لتضيف الى سجل هذه الثورة, التي لطّخت سمعتها طائرات وصواريخ ومدافع حلف الناتو وسرقتها من أهلها الحقيقيين, الكثير من السلبيات والغموض.
باستثناء العرب, حكاما ومحكومين وساسة وأناس عاديين, فان دول وشعوب العالم الباقية لا تعيش فقط على المشاعر والعواطف والأهواء خصوصا في حالات الغليان والتمرّد والثورات. وكم ثورة حدثت لتغيير نظام وإسقاط سلطان دون أن تلجأ بالضرورة الى تدمير الوطن وتحويله الى خرائب وأطلال. وكم من رئيس أو ملك أو حاكم فقد سلطته وعرشه دون أن يكون الثوار أو الحكّام الجدد بحاجة الى قتله أو إعدامه خصوصا إذا وقع أسيرا في المعركة. ومهما كان العقيد القذافي أو نظامه المستبد الجائر فليس ثمة حاجة, إن لم تكن حاجة إشباع غريزة الانتقام والثأر, للتعامل معه بالطريقة التي رأيناها ورآها العالم أجمع.
لقد طالب مجلس الأمن الدولي وكذلك مؤسسات دولية أخرى بفتح تحقيق لكشف ظروف وملابسات عملية إعدام العقيد معمّر القذافي. لأن الانسان في نظر غالبية دول وحكومات العالم, ربماباستثناء الدول العربية, يبقى إنسانا بغض النظر عن موقعه أو منصبه أو نوعية النظام الذي يمثّله إذا كان حاكما. فضلا عن هذا إن العملية برمّتها لا تُبشّر بخيرا لا للشعب الليبي, الذي ينتظر بفارغ الصبر إنتهاء هذه الحرب المدمّرة وفتح صفحة جديدة, ولا حتى لحلفاء حكام ليبيا الجُدد.
ثم ما هي الحكمة والمنفعة والمكسب, إن لم يكن التشفّي والشماتة واذلال الضحية, في عرض جثة العقيد القذافي على المواطنين وجعلها موضوعا"شيّقا" للتفرّج؟ أم أن ثوار ليبيا, وأغلبهم من التيارات الاسلامية, تناسوا بسسب غشاوة الحقد التي غطّت أبصارهم وبصائرهم بان أسلافنا المسلمين كانوا يصلون على قتلى أعدائهم ويدفنونهم بما يليق بالبشر؟ وكيف يمكن للمرء, أزاء مثل هذه التصرفات وغيرها من الانتهاكات الموثّقة لدى مؤسسات دولية مختصّة,أن يؤمن بان مباديء الديمقراطية والمساواة وحقوق الانسان سوف تعمّ بوع ليبيا الجديدة ؟
ما زال البعض منّا, مع الأسف الشديد, يشكّل إمتدادا للجاهلية الأولى. فنحن كشعوب وساسة وحكّام لا نؤمن بالخصومة السياسية كما هي حال معظم أو جميع دول العالم بل نؤمن بالعداوة التي لا تزول عن النفوس والقلوب الاّ بسفك الدماء. وإن مبدأ "الاجتثاث" سيء الصيت والسمعة والمضمون متجذّر في دواخلنا. ولهذا السبب وغيره من الأسباب المماثلة لا يوجد في البلدان العربية, باستثناء لبنان, رئيس دولة أو حكومة سابق يعيش كمواطن شأن بقية المواطنين. وسواء كان البعض منّا في السلطة أو في المعارضة فان الأمر لا يختلف كثيرا. لأن مبدأ العداوة الجاهلية, وليس الخصومة السياسية, يبدو ساري المفعول على الطرفين حتى وإن تبدّلت الأدوار.
ومن الغريب أيضا أن الكثير من قادة ليبيا الجُدد, وبعضهم عاش في دول متحضرة يحكمها القانون والمؤسسات, ما زال يُطالب الجزائر وغيرها بتسليم عائلة العقيد القذافي. وكأن الثورة الليبية لم تكتمل بعد ولم تحقّق أهدافها الاّ باعتقال بضعة نساء وأطفال وبقية أبناء القذافي. بالرغم من أن لدى ثوار ليبيا وحكامها الجدد الكثير الكثير من العمل والجهد والنشاط لبناء بلد ساهموا بانفسهم في تدميره وإشاعة الخراب في ربوعه. وكيف يمكن لدولة مهما كانت متخلّفة وغير مسؤولة أن تسلّم مَن لجأ اليها طالبا النجاة الى حكّام أو ثوّار طبّقوا عدالتهم "الثورية" في الشوارع بسحل الضحايا والتمثيل بجثثهم وعرضهم على شاشات التلفزة؟
لقد كان العقيد القذافي مطلوبا من قبل محكمة الجنايات الدولية مع إبنه سيف الاسلام بسبب تُهم موثّقة من قبل نتلك المحكمة والمنظمات الدولية الأخرى. والسؤال هو, لماذا قام الثوار باعدامه, مع كل ما رافق هذه العمل من إنتهاك وغموض وتناقض في التصريحات, بدلا من تسليمه الى تلك المحكمة أو محاكمته في ليبيا؟
فمن المعروف حتى لأبسط الناس, وقوانين بعض الدول تنص على ذلك, هو إن مَن يقتل شخصا مطلوبا للعدالة يرتكب جريمة أو على الأقل يتم إستدعاءه من قبل القضاء للتحقيق معه. لأنه حرم تلك العدالة من محاكمة ذلك الشخص وكشف جرائمه وإنتهاكاته وما لديه من أسرار وخفايا. أم أن مَن قتل العقيد القذافي أراد, بايعاز من قوى أو دول آخرى دفنه مع أسراره وكل ما يتعلّق به حتى لا تُطال آخرين ما زالوا يقفون على خشبة المسرح. وعلى أية حال, إن طريقة إعتقال وجرجرة العقيد القذافي الجريح ومن ثمّ تصفيته بدم بارد والتمثيل بجثته والمشاهد البشعة الصادمة المرافقة لها تعطي إنبطاعا سيئا جدا, خصوصا لدى غالبية شعوب الغرب وليس لدى حكوماتهم, عن مستقبل ليبيا وحكّامها الجُدد.