عربية الأسماء في القرآن الكريم
http://www.tajdeed.org/article.aspx?id=10169

اللسان العربيّ المبين، هو قمّة تراكم جبل العربيّة القديمة، التي ما زالت المعاجم تحتفظ بالكثير من مفرداتها إضافةً إلى التي تُسمّيها سريانيّة، فارسيّة، يونانية، "عامّية"، فلهجاتنا تحتفظ بالكثير منها، فالعربيّة الفصحى (لا أقلّ المستخدمة) قد تخلّت عن كثير من التركيبات والأدوات القديمة، حتّى أنّ المتتبّع للمعاجم وللّهجات العامّية يتحيّر في بعض الصياغات والأوزان بناء على عدم وجودها في الفصحى، فنجد كلمة "تابوت" يختلفون في أصلها، و"تارة" أيضاً، وقد عمدوا لتسميّة بعض الأسماء "أعجميّة" فظنّ الباحث أنّها غير عربيّة، وإنّما معناه أنّها غير عرباء (فصحى) بل عربيّة قديمة قبل إيجاد التنوين، فمثلاً إنّ أدوات التعريف في العربيّة القديمة كانت تحوي أكثر من ألف لام التعريف (الهاء، الألف، الدال/ الذال/ التاء، الميم) قبل أن تتخصّص الفصحى وترقى وتجعل الميم مختصّة للظروف وللمفاعيل والفواعل وأسماء الآلة وغيرها، والهاء للضمائر واسم الإشارة.


بهذا نستطيع أنْ نقرأ القرآن كمهيمن معرفيّ ولغويّ أيضاً ضمن تراثٍ قديم واحد، لا أنّه منقطع عن لهجات الأمّة منذ آدم، ولقد فسّر لنا العربُ الأوائل وبعض المرويّات كثيراً من تلك الأسماء، فظنّ البعض أنّها محض توافقات أو تخريجات وتحكّمات، بناءً لديهم على أنّ السريانيّة (التي دُعيت بعض لهجاتها كنعانيّة، وكلدانيّة، وآراميّة ..) هي غير عربيّة! والحقيقة أنّها ليست توافقات، لمن يطّلع على هذه اللهجات فسيجدها ولهجاتنا العاميّة سواء، كلّها عربيّة تختزن المفردات والتصاريف والتراكيب والقواعد القديمة التي باد بعضُها في الفصحى.


إنّ الظنّ بانقطاع العربيّة الفصحى عن قاعدتها العريضة التي بُنيت عليها، انفصال القمّة عن السفوح، هو الذي جعل كثيراً من أساطين اللغة كابن فارس يُرجعون الفعل الرباعي إلى ثلاثي (وهو أمرٌ صحيح) بعد تهذيبه من زوائد الحروف العشرة التي جمعوها في "سألتمونيها"، فالسين والهمزة والتاء تزاد مجتمعة في نحو "استغفر"، واللام في نحو "ذلك"، والميم والواو في نحو "مضروب"، والنون في نحو "سلمان"، والهاء في الوقف نحو "سلطانيه". هذا الاطّراد المشهور في الزيادات، هو الذي حدّد الحروف المزيدة بعشرة لاشتهارها، لكنّه سدّ باب معرفة الكثير من أوزان الأسماء والأفعال التي نجدها في العربيّة القديمة وفي لهجاتنا وفي القرآن أيضاً، ثمّ جاء "النحت" كقاعدة لحلّ كلّ رباعيّ أو خماسي، ولكنّه حلّ ناقص. النحت مثل "جلمود" نُحتت من "جلد" و "جمد"، ولكن ليس كلّ رباعي أو خماسي هو هكذا، ولو راجعنا معجم مقاييس اللغة، في الأبواب التي تختم كتاب (فصل) كلّ حرف وسمّاها صاحبُه (باب ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف)، وننقل بالعشواء فقط:

"حسكل": الصغار من كلّ شيء، وهذا ممّا زيدت فيه الكاف.

"حبجر": وهو الوتر الغليظ، والحاء فيه زائدة.

إذن هناك حروف زائدة غير العشرة ومثالها هنا الكاف والحاء. ولو واصلنا لقرأنا: "حملق": إذا فتح عينيه ونظر نظراً شديداً، ولم يُعقِّب ابنُ فارِس أيّ حروفها هو المزيد، وكيف نُحتت. لكنّنا نتوقّع أنّ الميم هي الزائدة لأنّ "حلق": كما يقول ابن فارس لها ثلاثة أصول أحدها ما يدلّ على آلة مستديرة ومنها الحلَقة، وعدسة العين إذا فتحها المرء على وسعها صارت كالحلقة وهي آلة الإبصار، بدليل أنّا نجد فعلاً رباعياً آخر في لهجاتنا "بحْلق" أي حدّ نظرَه وفتح عينه مصوِّباً، سواءً كانت هي إبدالا ثمّ إقلاباً لـ"حملق" الآنفة، أو الباء هي الزائدة، فيدلّ أنّ "حلق" هي الأصل، وأنّ الباء تُضاف أيضاً، بل كلّ الحروف تُضاف لخصائصها، ولهجاتنا تعجّ بهذه الألوان، ومراجعة متأنّية لكلمات المعجم تريك هذا الأمر.


أمّا عن الأوزان، فنجد في العامّية التي هي أطلال (العربيّة القديمة) صيَغاً مثل (فِعِّيل، فاعوُل/ فاعوت، إفعيل/ إفعول، فُوْعَل، وغيرها) التي بإسقاطها أصبح النظر إلى تلك الكلمات على أنّها أعجميّة، فمثل "فِعِّيل": ضِلّيل، لِعّيب، قِدّيس. ومثل: "فاعول/ فاعوت": شاقول، جاموس، تابوت، طاغوت، لاهوت. ومثل "إفعيل/ إفعول": إبريز، إبريق، إدريس، إبليس (وهذه كلّها جعلوها أعجميّة)، إسطورة، إحبولة، إمثولة، إكذوبة (أو بفتح ألفاتها في الفصحى). ومثل "فُوْعَل": سُومَر (أي اسمرّ)، سُوْوَد (أي اسْوَدّ)، وأيّ تغيّر ذاتي يطرأ (رُوْبَن: أي راب، صُوْبَن: أي تصبّن، مُوْلَح: صار أملحاً، رُونَق: تغيّر اللّون والحالة، من "رنق"، والتي في الفارسيّة كلهجتنا العامّية "رنگ").


كما لم يلتفتوا إلى الإبدالات الحرفية التي تقع بين القديمة (كالسريانية ولهجاتنا) مع الفصحى، بين العين والغين والألف، والقاف والجيم والألف، والغين والجيم والقاف، والسين والشين والزاي والصاد، والتاء والثاء والدال والذال، والذال والزاي، وهكذا غيرُها كما نجدها لليوم في اللهجات.


فغياب كثير من الصياغات والأوزان والإغماض عن الإبدالات، جعلنا نقرأ القرآن في إحداثيّاته التاريخيّة، وفي صياغات رموزه وأسمائه، بإحالات إلى لغات أعجميّة لا تمتّ للغتنا بصلةٍ، فنثبت من جهة لا عربيّة القرآن، ومن جهة أخرى نَفقد رموز بيانيّة القرآن ودلالاتها وأسرار مفرداته.


فبعض المتعصّبين أشكل على القرآن لماذا سمّى "يسوع" "عيسى"؟ ثُمّ راح يكيل مِن حقده أجوبةً مثل (هل يريد القرآنُ أن يُحاكي يسوع مع "عيصو/عيسو" أخي يعقوب والذي كان -كما يقولون- عصيّاً؟) فهذا ممِن يجهل بأنّ "الآراميّة" ما هي إلاّ سريانية وهي عربية قديمة، وأنّ الرسالات واحدة لا خصومات بينها إلاّ مِنْ جهل ورعوناتِ أتباعها، وإنّ "عيسى" هي "عيشة" أي الحياة، كما سمّى التوراة "حوّاء" المرأة الحيّة "عيشة" (ish-shaw)، وأحياناً تبدأ بـ يا النداء للربّ، فتصير "يا حي/ يا حيا (بالسرياني)" وهي التي تُلفظ "يحيى" أي يا حيّ، ويا عيْش التي تُلفظ بالسرياني "إيشو" = يا إيسو، تلفظ يسّو أو يسوع، أو عيسى كما هي بالعربيّ، أي يا حيّ (Je-hoshua)، حيث الجيم ياء في بعض اللهجات القديمة ولا زالت.


ونقرأ عن قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً)(مريم:56)، فلا ندري سوى بوجود نبيّ يُدعى إدريس، أمّا ما ارتباط هذا الاسم بما قام به ودوره في الوجود الإنساني والمسيرة الحضارية وأثر التعليم الربّاني فيها فقد غاب عنّا؟ وما سبب رفْعه مكاناً عليّاً؟ لا ندري، وحين تقول بعض الروايات أنّ إدريس سُمّي كذلك لدرْسه الكتب، لا نُصدّق وقُلنا لعلّه مجرّد توافق لفظي، وكأنّ العربيّةَ متطفّلةٌ على التاريخ ومنبتّة عنه!


إنّ غياب هذا الوزن "إدريس" أو الإبدالات بين الألف والعين والهاء، "هدريس" "عِدريس"، صيّرت الكلمة وكأنّها ليست عربيّة، فالدرس هو الطريق الخفي (اندرس)، وتتبّع هذا الأثر وتعلّمه وتعليمه هو دراسته وقد قال القرآن (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)(سـبأ:44) و(أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)(القلم:37)، فهو صاحب الكتب لذلك نرى في المروي "صحف إدريس"، وهو صاحب العلوم الذي علّم الناس أسباب الحضارة من زراعة ونسيج وبناء وفلَك وملاحة وهندسة وكتابة، وكان يطوف البلدان فأطلق عليه قومٌ "إرموز" على وزن "إفعول" أي الرامز معلّم الرموز والإشارات والخفايا، وهي التي تُلفظ "هرموز/هِرمُز"، واشتهر عند أقوام "إحنوك" ذا الحنكة والتجربة، وبالإبدالات صارت "أخنوخ" أو أنّها "أخ - نوخ" أي صاحب الإناخة والتوطين، حيث أنّه بتعليم الناس (الرعاة الرُحَّل) الزراعة والريّ والنسيج والبناء فقد علّمهم التوطين والإناخة في مكانٍ واحد بدلاً من الترحال طلباً للكلأ والمرعى. ودُعي لدى قدماء المصريّين "تحوط" أي ذو-حوْط (الإحاطة)، المحيط بالعلوم والأسرار، ورسموه رجلاً ربّانياً يمسك كتاباً وقلماً. فكلّها تسميات عربيّة، ولكن لا يعني أنّ "إدريس" معلّم الخفايا والأسرار، كان اسمُه كذلك منذ ولادته، بل بما اشتُهِر وعُرف، ثمّ صار هكذا يُؤرّخ ويُدوّن لدى التالين.


و"إبليس" قالوا أنّها من الإبلاس أي اليأس، وهذا معقول، لكن لا يعني أنّ إبليس منذ وُجِد كان اسمُه إبليس، وهذا ما صار يَشْكل على البعض، بل لقد اقترن اسم "إبليس" به في القرآن منذ تمرّد على الأمر لا قبْل، كأنّه (يئس) أنْ يجد له موضعاً في المشروع الربّاني المُستحدث (مشروع جعل خليفة بشري) ثمّ زاد وتكبّر وانتفخ وطغى وتحوّل إلى شيطان رجيم، فلمْ يُسمِّه القرآن في أحداثِ بعدئذٍ إلاّ شيطاناً، وقد أكّد سبحانه أصل هذا الفعل "أبلس" أربع مرّات لا اعتباطاً كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)(الروم:12)، هذه اللفظة العربيّة هي التي دوّنها الكهنةُ في التوراة (دي-أبولُس) (دي هي ذي بمعنى الذي وهذا واضح فليس إلاّ لام التعريف مضافة، أي الذي أبلس)، صارت باللاتينيّة (Di-abolos)، ثمّ "ديابول" بحذف السين ظنّاً أنّ السين النهائيّة كانت زائدة حسب عادة الإغريق، ثمّ ديڤول، بالإقلاب بين الباء والڤاء، والتي تُسمّى الآن ديڤيل (Devil)!.


و"نوح" أوردها القرآن كما لُفظت بالعربيّة السريانيّة، حيث كانت الحاء تُقابل الحاء ومعها الخاء أيضاً، أح هي أخ، حمْشو: خمسة، حولو: خال، فاحو: فخّ، فـ نوح هي نوخ، وهي الراحة والإناخة والاستقرار بعد الاضطراب مع قومه وأذاهم وإجهاده مع الطوفان وجوبان السفينة الطويل، فهو كما قال القرآن له "اهبط بسلام" أي أنِخ وارتَحْ، فهو "نوخ"، نوح السريانيّ، وليس معناه أنّه سُمّي نوحاً منذ ولادته، بل هذا هو اسمُه الأشهر وهناك أقوامٌ أخرى في بابل سمّته (زي-سدرا: ذي الصدر)، وسمّته (باشيشو: وهي قد تعني باثّ/بعث-عيشو أيْ باعث/باثّ الحياة (العيش) حيث لا وجود للعين في السومريّة القديمة ولا للثاء بل تُلفظ بما يُقاربها) وسمّته ("أترا-هاسِس" حسبما كتبها لنا الغربُ، فهو أحد ثلاثة احتمالات؛ فحيث لا وجود للخاء بل تلفظ حاء أو هاء، فهي "عترة-خاشِش" مُخبّئ العترة أي المحتفظ بالنسل وحافظه، والاحتمال الثاني إطراء-خاصِص: المخصوص بالحمد والإطراء كما عبّر القرآن "سلام على نوح في العالمين"، والثالث: أثرى-حاسِسْ أي أكثر الناس إحساساً ودراية وهو قريب من الذي خمّنه المترجمون الغربيّون "واسع المعرفة")، و("أُتو-نفشتيم": وهو مُعطي النفوس أو حافظُها، إذْ "أُتو" بالسرياني: آتى/ أعطى و"حاط" أيضاً، ونفْش: نفْس، والياء والميم للجمع)، فنلاحظ أنّها أسماء شهرة، لا أسماء ميلاد، تماماً مثل داوُد: ذا وُد، الودود، وهذا يُفسِّر لنا انسجام الطبيعة معه (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر)(سبأ:10)، وكيف كان "صحيحُ" المزامير من أرقى ما جمعه أهلُ الكتاب ككلام هيامٍ وتأوّهٍ عرفانيّ، ونفهم الرواية التي تقول أنّ داود سُمّي كذلك لأنّه (داوى جرْحَه بِوُدّ).


وهذا بخلاف إسماعيل: "إسماع-إيل"، الذي هو اسمُ وِلادة، أي "سَماع" بلهجتنا العامّية، و"شمْعو/شمُو" أو "سمعو/سمو" فتصير شموئيل، سَمْوُئيل/سَامْويل، و"إيل/إلّ" هو عِلّة الوجود وواسطته (الله)، فهو سَماع الله، أي إجابة الله، وهكذا يستبين لنا من الاسم أنّ إسماعيل رُزِقَه إبراهيم (ع) بعد يأس وأنّه أوّل أبنائه.


وهناك الكثير من الأمثلة، ولكن اختصاراً يليق بهذا المختصر، ينبغي ألاّ نبتر الأسماء التي تضمّنها القرآن وتراكيب مفرداته عن اللغة العربيّة القديمة الأمّ، فقد احتفظ لنا ببصماتها على هذا الصعيد تنويهاً بأنّ هذه الأمّة أمّة الأنبياء أمّةٌ واحدة ولغتها واحدة.