قراءة في قصيدة للشاعر عبد الرحمن بامرني (بمحاذاة حلم منفلت)*
جوتيار تمر/دهوك
Jutyar_13@yahoo.com
في ترجمة قصيدة ما، يحتاج الواحد منا إلى إدراك ودراية بالشاعر نفسه من حيث كونه ونفسيته، ولا يترجم قصيدة بنجاح كمالي أبدا، لكن أحيانا يترجم كون الشاعر ونفسيته بصورة دالة على الإقناع، مما يجعل من القصيدة مادة سهلة للفهم والإدراك، لذا يبقى الشعر شعرا سواء أكان مترجما أم لا، ويبقى الشاعر سابحاً في جدول أو نهر، في عتمة أو نور، في ضباب، ونهار وليل.
ومن هذا الفضاء الواسع نقف الآن أمام عتبة باب قصيدة مترجمة للشاعر عبد الرحمن بامرني، حيث نجد بأن له منذ البدء موروثه الخاص به، وكونه الفسيح الممتد من آفاق الجبال إلى الأودية والأنهار، وتاريخا طويلا لمخاض البشرية على أرض نبت هو عليها.
وهذا ما وجدناه من الوهلة الأولى، من خلال عنوان قصيدته اللافت والمبشر بتمرد ضمني آت لامحالة( بمحاذاة حلم منفلت) حيث الباء هنا جاءت ضرورة لتأكيد الاتجاه السالك للحلم من حيث الانحراف عن المسار العادي ليتخذ المحاذاة طريقا للوصول، والحلم هذا ليس بحلم عادي إنه منفلت خارج عن الأطر التقليدية للأحلام، وكأني به يريدنا منذ البدء أن نعيش حالته الذاتية المرافقة للنشوء والتكوين الشعري داخل كونه الخاص، وهذا ما تؤكده بداية القصيدة:
لا أتفهم شعور الخوف
جاذبية المرأة في ثديها وحمرة شفتيها
غرفة بلا شباك وقفل وباب....و
قصة عشق أبدية
الحديث عن المرأة وجمالها يفوق في تعقيده وتشابكه ما في الحديث عن الشكل والمضمون في أي عمل أدبي من تلاحم وتواشج، حيث الإنسان لم يعد يرى جمال الطبيعة باختلاف ألوانها وأطيافها إلا من خلال المرأة، ومن هذا المنطلق جاءت البداية كاشفة لأتون ومتون نفسية الساردة للشاعر، حيث نجده في إشارة واضحة إلى كيفية إدراك نمو الإدراك الإنساني وتحسسه للأشياء من خلال المرأة مهتما بالتفاصيل الجسدية التي تداهم الذهن الإنساني حول المرأة كجسد غارس للأحاسيس بعيد عن المسالك السائبة، وقريبا من حاجيات العصر والإنسان الحديث وكونه الجديد سواء أ كان غرفة أم شارعا ضيقا رطبا أم أي شيء آخر، وبتناغم زمني جميل داخل إطار مكاني أروع.
لماذا الأوراق في الخريف تتساقط
لماذا وتخدع البطون الخاوية تتناسى؟
لماذا دوى الرعود والبرق
ياللهى في رجحان الميزان
كنا متنافسين
وكفتى الراجحة
أنا في صحراء قاحلة مترامية الأطراف
وأنت جنة عامرة واسعة
الشاعر في قفزة شعورية يظهر لنا مواطن التلذذ الحاصل جراء الرؤية النابعة للجاذبية وأماكن الاستمتاع ويقحمنا في مقارنة عرضية بموسم التساقط حيث تكون نفسية الإنسان في حالة من الهدوء النوعي العاطفي الرومانسي، ولكن بخلاف التيار السائد يدخلنا هو في أروقة التساؤلات التي ترهقنا وتؤرق ليله، وهي تساؤلات نابعة من إحساسه الذاتي ، ومن إحساسه بكون الآخر المتمثل بمحيطه وبيئته والذي غالبا ما نسميه الأرض، فأتت كلماته هنا تثير جدلية في نفس الآخر المتلقي، وقد بدا واضحا تأثير هذه التساؤلات عليه بحيث تشبهه بالصحراء ونعلم معالم القسوة فيها، وكأني به قد فقد لوهلة توازنه الذهني وما يبرر قولي هذا قوله:
لسذاجتي
جعلتني مملوكا وجارية مشردة
في صحرائك القاحلة
نسيت ترابي ولغتي وتراثي
أنت صامت, وصمتك يزيد ضياعي
مع قضية الحياة أنا مذنب
أخذت بذنب الماضي
يا أجمل صمت
يا أجمل غضب
أيا أجمل سيدة نظمت لها الأشعار
بذنبي تحترقين
وأنا في ذنبي أأدي صلاة ضياع
يا أكثر الأشعار جرأة
قلما نجد من يعترف بسذاجته بالأخص إذا كنا نتحدث عن الشاعر الذي دائما نجده صاحب كبرياء، لكن لحظات الصدق هنا تتلاطم لتظهر لنا عمق هذه النفس بحيث تعي ذاتها في صراع مع كينونته، وكينونتها، والأرض، وغواية الأخرى وجاذبيتها، فيأتي اعترافه بهذا الصراع من خلال حوارية على لسان الآخر التي ترى بأنها تشردت، ونسيت، وفقدت، جراء الصراع هذا، فتكشف بذلك الآخر المتضاد بكلمة واحدة معبرة دالة وذات مساحة واسعة وهي الصمت، وهنا يستدل الشاعر بالصمت ليخز أحلامها ويسكب مشاعره فيها فتأتي كلماته صاخبة،ثائرة، ملهوفة، في آن واحد بحيث تجعلها تدرك أهمية وجودها الذي أصبح مرتبطا بضياعه، وكذلك كونها ملهمته الأولى، وليس الذنب هنا إلا مسلكا ثنائيا يسلكه الاثنان لاختراق كينونة الآخر، وفي نقطة تحول فجائي للشاعر نراه يتحول إلى تفاصيل أخرى فيها ومنها:
بردائك الرقيق
في ذلك اليوم سجلت
في سجل أشعاري
لتزين إحدى قصائدي أنت قصيدتي الأخيرة
وأنا بين الطيران والهبوط
الطفولة والبلوغ
الخيال والحقيقة
والخيال كذبة أبدية
الأحلام الانهزامية
والأحلام كذبة مشروعة
في علو السماوات العالية
وهنا مسألة تعقيدية أخرى تظهر لنا لأن الحديث عن المرأة وملابسها يأخذنا إلى طرح مسألة العلاقة بين الجسد والملابس حيث ترابطت هذه العلاقة في ذهن الإنسان حتى توصلت في بعض حالات العصاب إلى قدرة قطعة منها في أحداث الاستجابة ذاتها في ذهن الإنسان كالتي تحدثها العضو الذي تغطيه القطعة، لذا نجد الشاعر يستلهم من ردائها استفاقة حالمة لمشاعره وحروفه وفي تمازج جميل بين الواقع الحقيقة والخيال، واليقظة والأحلام، نراه يفسر لنا عمق التجربة بتحالف السماء معه في تفسيره هذا، مما يجعله يسترخي هنا من جديد مبدئيا نوعا من الليونة والتي أجدها خالفت سياق النص لكونه بدأ بلمحة تمردية منفلتة وربما كان الأجدر به أن ينتهي على نفس النسق التمردي المنفلت حيث يقول الشاعر:
نسيت الطيران, أولم تفكري في الهبوط
إذا كنت قد طلبت منك قبلة ورفضت
عذرا
أوكان لي عقد مع امرأة أخرى
دون علمك
عذرا
أشك في وجودي وشقائي وأشعاري
لذة إحدى قصائدي
أن تكون قطرة من طعم الشهوة
ثأر أو سذاجة أخرى منى
لنعود بحيث منسي كل شي
العشق والجود والضيلع
حمرة منا كثر الخمور وحرقة
مع ارتكاب الآثام
جرعة للصحوة
وجرعة للشهوة وسجدة للسادة ونسيان الذات
هذا التراخي كان مدخلا لبث الشكوك حول إمكانية الاستمرارية على نفس النسق المنفلت فجاءت القصيدة تبرر فعلة الشاعر وتحول جهدها من أجل إقناع الآخر ، وكأن الشاعر يتوسل هنا، وهذا ما جعله يشك في وجوده، ولم تسعفه هنا سوى لذ ة الرجاء الضمني للعودة، وربما يخيل من خلال النسق الإعدادي للنص بأن للأرض هنا الأولوية في احتضان العودة، دون الاهتمام بالكيفية الملازمة لها، لأنها في كل الأحوال لذة له وربما لها وربما لهما معا كلُ بمعناه الضمني المتواتر الخاص به.
وحتى لاأكون مجحفا بحق القصيدة من حيث المضمون والمعنى الاستدلالي أود أن أشير إلى إحدى أساسيات نجاحها وهي أنها بدأت من حيث انتهت كمضمون، حيث بدأت بشهوة وانتهت بشهوة، في الأولى كانت منفلتة وفي الثانية عاشت طور الرجاء والانتظار.
عشنا مع الشاعر حلما بلاشك منفلتاً، قادرا على خلق توهيمات داخل نفسية الساردة بحيث ألمت بتفاصيل وأثارت أخرى في ذواتنا من خلال سير الحلم وفق تجليات الشاعر ورؤاه الخاصة.
_________________________
* هذه القصيدة ترجمت من قبل محسن عبد الرحمن ونشرت في مجلة بيفين ، العدد(16-15) آذار 2007