أشواق الموتى
" صارة حكمت " بخمارها البنفسجي الملطخ بالدم وارتعاد أطرافها ، والصياح والدخان ونثار الزجاج المحطم ، صورة تمرق كالظل العابر أمام عينيه كأنما حدثت للتو، وأحيانا يحل ذكر تفاصيلها في نفسه طاغيا بسبب أو بدونه ، وتستحيل صورا غير مرتبة للفاجعة ، أين حدث الانفجار المدوي على بعد أمتار من تواجده قرب مكتبة الشارع ينتظر خروجها ، كان وجوده على تماس مع مسرح الجريمة يزيد من إحساسه بالجنون والتوتر ، و يدق وعيه بسخرية النجاة ، حتى لتتبدى تقاسيم صارة واضحة بين يديه في كل يوم ، و تتكرر لناظريه بكثافة مؤلمة داخل ركن قصي من ساعة الظهيرة ، وأحيانا بدون توقيت محدد ، هكذا كاستذكار الموت الدائم دون داع بعينه ، وكلما بدا الزحام في الشارع ينبئ بالشدة و كثرة الناس كان كاظم ينجذب قسرا إلى المنظر مكتملا بسيارات الإطفاء وخراطيم المياه وعنترية رجال الأمن في تفريق الحشود وفتح الطريق أمام عربات الشرطة والإسعاف والعسكر، أما اليوم فالشارع لم يعد سوى وتد مجوف ألقي للنمل في مكان منحدر، حيث السكون يحتضن الحراك الدائم ،زحام في زحام ، ومنظر المآذن والأسواق ودار البلدية والجسر الكبير والسيارات المتراصة منتصف النهار .
عندما تخطئك النهاية بمقدار شعرة ، ستبحث عن تفاسير جمة لسر الحفظ والعناية الملقاة عليك ، أما كاظم فقد انصب بحثه إلى النهاية التي أصابت صارة دون أن تخطئها ، ولكنه لم يهتد إلى منطق فقدانها ونجاته ، هل يحدث ذلك سهوا وجزافا في بلوغ المصاب أم يحدث بترتيب دقيق و احترام للأدوار، ولكن عندما تمرق رصاصة فوق رأسك او تمر سيارة مسرعة بشبر على يمينك ، ستتذوق معنى اللطف الفجائي ، وينبعث من خوفك ذهول المس بين الإصابة والخطأ .
لست أدري هل جرت هذه الأحداث معي أم مع كاظم مقتدى ؟ أم مع شخص غيرنا ، ولكن المساء الذي اغتبطت به الشمس في سماء بغداد ذلك اليوم الخريفي كان حتما حقيقة زمنية مهدت لوقائع لا تقبل الجدل ، حول انتكاسة الحياة عندما نادت صارة علي وسط الدماء ، اللحظة التي رأيت فيها صارة مسجاة أمامي ونظرتها المرتعشة قبل فيض الروح وأنا أقرب ما أكون إليها ، كانت لحظة منها تعلمت كيف ينصهر الإنسان الحي من الميت ، أما الزمن فيمت إلى موعد مع الموت لا زلت أكذبه ،كان على الشمس في ذلك اليوم أن تبقى في مغيبها ، لأن إشراقة صارة وحدها ملأت صباحي بالنور ، وهمت به ضاوية، فهم بها ضوءا غير منقطع ، حتى جاءت ظلمة الضوء من شمعدان الموت وانطفأت أمامي أسرع من رحيل الكهرباء عن مصابيح بغداد ، ولم أعرف إلى الآن هل جرى اكتشاف الموت معي أو مع كاظم .
لو كان يجلس وإياها في الطاولة المعتادة لخرجا سويا كعادتهما ولكانت دمائهما تمتزجان كالماء في الماء ، ولو بقيت في البيت لاستثنتها المقادير من الضحايا ، ولو.. ولو.. كل ذلك لا يلغي في نظره ثبوت فقدانها ونجاته ، كانت صارة حديث نفس يوقن بما سيحصل مثلما لو أنه ماضي يتكرر ، ليست سوى زمن يقع للتو مثلما قد يقع في كل العصور، ما سبق منها وما ينتظر ، معه ، مع شاب في بيروت أو ربما في وهران أو روما ، لم تكن قصة مرسلة من معراج زمني محدد ، ولم تكن شيئا وحيد النشأة أو وجها محددا مثل الوجوه ، إنما الانطلاق المتفجر بامتلاء الأشياء هو الحد الذي أوصله لاتخاذ الفاصل بين مشيئته وانغمارها في تربة القدر الذي لا يفسر، بين حقيقة الذي حدث ، وبالذي كان بالإمكان أن يحدث لو تغير الزمن ، أو جاء إليها ذات خريف غير منقوص ، خريف آخر بشمس حارة وحدائق أكثر وردا وحياة ، غير خريف ذلك العام الذي رآها فيه ، محملة بأشواك الحزن وانتكاسات وطن لا يعرف غير الخريف مثلما كان عليه طول الزمن ، وطن أجوف وخال من الاعتدال ، طينة تضطرب، و أرض تجري من تحتها أنهار الدم مهما تبدلت الأجيال ، أو تغيرت الفصول وأحلام الأطفال ونساء الحكام المجهولات.
لا زال يذكر آخر ما حدثته به ويعيده في نفسه لأن كل أحاديثها لا تنسى وجديرة بالإعادة ، إذ قالت له " أفي الله شك" ونفى برأسه فقالت "هو الله " وصمتت مثل شيخ حكيم ، حتى ليخيل إلي أن الموت كذبة حكيمة يطلقها اليقين داخلنا ، موتك صارة غزال خرج مني دون إذن ، شعرت به ريحا تتوق الى اجتثاث ما سواها دون تمييز ورأفة ، حالة لدغ مجهول ومفاجئ في العقل والجسد، تتحفز، تتمطى ، تنقلع لتفاجئ المواطن البارزة في ذاكرتي بلؤم وتصميم مرعبين فتصيبني بقراءة النسيان كلما حاولت استذكار الحادثة ، كانت مفارقة روحك تتلمسني ثم ما تفتأ أن تذوب وتنخسف من اجتياحاتها تاركة جثة الوعي بلا حراك ، من أجل ذلك سميتها القدر الذي لو لم يقدر، والزمن الذي حال بين الدهر والدهر قبل أن تخلق الأرقام وشجرة الخلد والموازين .
حتى الروايات التي تناقلها الناس بوجود كاظم حذو صارة لحظة الانفجار أمر لا يصدق رغم صدق التقارير وإفادات الشهود ، لم أر أحدا سوى صارة ولم أسمع سوى صوتها ولم تفلح سحب الدخان أن تحجب عني عطرها ، رغم أن الناس قالوا أن كاظم مات ملقيا على صارة كالأم التي تحمي صغيرها من ريح عاتية ، وكل ما جئت إلى هنا أشعر بروحي لا وزن لها ، وبأن صارة آخر ما رأيت ، كأنما تاريخ ينتهي ويعاد بلا انقطاع في ظل ظروف مستنسخة لا تترك أثرا سوى الحديث الأخير ، وتتضح شديدة الوضوح في قولها أن الله حبها المحبوب ، ولما انتظرت خروجها أردت أن أسألها عن الحب لكن ما أنساني ذلك إلا انقطاع شريط الذكريات .
ولما رآها كاظم أول مرة تنهد واستوى ، وطغت عليه ثورة من عراقيات الفرات لولا أن ثبت قلبه بفعل الصمت والدهشة ، دهشة قيس وعنتر وصمت أبي الهول والجبال الراسيات ، تلك الاستدارة العجيبة لدورة التاريخ وتكرر المصائر لطالما استبدت بفكره وحيرته ، مثلما أذهلته القوانين الثابتة رغم اختلاف الناس والأمكنة والمواقيت ، حتى صورة صارة بقصة شعرها المستوية والمسدلة على الكتفين وبوجهها الطفولي الأسمر المحمر وعينيها الكابيتين وحاجبيها المذهلين بتقوسهما المحكم والجميل ، فاضت كخيبة مرتدة من كأس تأمله منذ النظرة الأخيرة ، هناك نساء يسكننا مع نظرة هامسة بتلامس العينين إلى الأبد ، وكأنها برهان ساطع للتو على مشيئة سبقت ميقات اللقيا ،ولغز الصدفة ،وخلق الناس بخمسين ألف سنة، صارة نوع مشابه ، وأجل لا يمر داخل الزمن إلا خارجه ، ولم يكن يعرف أن الأزمان شبيهة بلغة صارة الجميلة عندما حدثته عن الله ،لا محدودة ومدوخة ، وكأن شجاعتها ذلك اليوم في الحديث عن حب الله وحي مستقطع من نبوءة الفطرة وصدق النساء ، أذهلته بجنون اللحظة التي تمر عليك وتجزم أنها حدثت سابقا ، بلى فقد سبق و أن تولى عن وجهها وتعلق في الهواء كالطيف الذي يستهويه حزب الأرواح المعلقة ، ولكن إلى الآن لا أعرف هل حدث الأمر معي أو مع كاظم ؟؟ سبحان الله.