غير المغضوب عليهم ولا الضالين


قال الله تعالى في نهاية سورة الفاتحة : ( اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين ).

والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في «مسنده» وحسنه ابن حبان في «صحيحه» مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى: ( مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ ) [سورة المائدة: 60] .
وعلى أن الضالين هم النصارى بقوله تعالى: ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ ) [سورة المائدة: 77] .

والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعاً في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى: ( وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ ) [سورة النحل: 106] وقال تعالى: ( إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَـٰلاَ بَعِيداً ) [سورة النساء: 167] ووردا لليهود والنصارى جميعاً على الخصوص.

قال ابن عاشور :
" وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين ـ مع أن الضلال في بادئ النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه ـ:
1 ـ لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى.

2 ـ أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناءً على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه.

3 ـ أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد و أشد عداوة للذين آمنوا ولذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة.

وورد في الحديث: " من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود " رواه السلفي والديلمي وابن عدي، والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالاً من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبـي واحد وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى....

4 ـ وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن".

{ غَيْرِ } من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة.
إلا أن المحققين من علماء العربية قالوا: إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو: (عليك بالحركة غير السكون ).

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير:
" قال ابن السري وغيره: إذا أضيفت { غَيْرِ } إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ".

وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم.

وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: ( أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلأَرْضِ ) [سورة السجده: 10] أي هلكنا وقوله تعالى: ( وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ ) [سورة محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق.

أتى في أهل الغضب باسم المفعول ( مغضوب ) وفي (الضالين ) باسم الفاعل، لأن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه، فهم مغضوب عليهم من قبل الله عز وجل.
وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال ( ولا المضلين ) مبنياً للمفعول؛ لما في رائحته من إقامة عذرهم، وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم.

ولم يقل الباري ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) لأسباب منها:
1 ـ أن ( لا ) أقل حروفاً.
2 ـ لتفادي التكرار في اللفظ.
3 ـ للثقل الذي يحصل للسان بالنطق بـ ( غير ) مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة.