بسم الله الرحمن الرحيم



أبيِّنُ فيما يأتي علاقةَ الأمرِ بسؤالِ إبراهيمَ عليه السلام ربَّه عن إحياءِ الموتى. إنَّ من القصصِ المُثيرةِ والمُعجزةِ في القُرآنِ سؤالُ إبراهيمَ ربَّه أنْ يريه كيفيّةَ إحياءِ الموتى ليطمئنَ قلبه ...



وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى الموتى ، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن، قَالَ بلى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى،قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {البقرة : 260 }



البعض فسر الآيةَ أعلاه بِشَكِّ سيِّدِنا إبراهيمَ بقدرتِه تعالى على إحياءِ الإنسانِ بعد الممات. والبعض الآخر قَسَّمَ الإيمانَ إلى إيمانٍ قلبيٍ وآخرَ بَصَرِيٍ، وذهب إلى أنَّ سيِّدنا إبراهيمَ تجَاوزَ الإيمانَ القلبيَّ فأرادَ بِسؤالهِ أنْ يَصِلَ إلى مرتبةِ الإيمانِ البصري!



كيفَ نقول عن أبي الأنبياءِ خَليلِ الرَّحمان بتهمةِ الشَكِّ بقدرته تعالى على إحياءِ الإنسان بعد الممات؟ ولنسْأل الناس العاديين أنفسِهِم: هل يشك أحد منا بقدرته تعالى على الإحياء بعد المماتِ؟ بل إنَّه في السُورةِ التي تحملُ اسمَ سيِّدِنا إبراهيمَ نفسِه يقولُ الذين كفروا:




وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {9} قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ {إبراهيم: 9-10}



فكيف نجعلُ الشكَّ (الذي هو صفةُ الكافرين) من صفاتِ أبي الأنبياءِ؟



أمَّا التفسير الأخرُ القائلُ بأنَّ سيِّدَنا إبراهيمَ تجاوزَ الإيمانَ القلبيَّ فأرادَ الوصولَ إلى مرتبةِ الإيمانِ البصري فمردود. لأنَّ معنى هذا ببساطةٍ أنَّ الكُفارَ الذين يَسْألون أنبيائَهم عن "مُعجزاتٍ بَصَرية" هم بمرتبةِ إبراهيمَ في الإيمانِ لأنَّهم أيضاً يريدونَ الوصولَ إلى مرتبةِ الإيمانِ البصري ...



ثم لو كان الإيمانُ البصريُّ أعلى درجاتِ الإيمانِ، فلماذا لم يسألْ به الأنبياءُ وخصوصاً سيِّدُهم محمداً؟





بعض التساؤلات




تقولُ التفاسيرُ أنَّ سيِّدنا إبراهيم، لِشكٍ في نفسه أو لرغبةٍ في إكمالِ إيمانه، سألَ ربَّه أنْ يُريه كيفيَّةَ إحياءِ الموتى . فأجَابَه سُبحانَهُ بأخذِ أربعةٍ من الطيرِ وصُّرِها (أي ضَمِها) إليه، ثُمَّ بتقطيعها، ثُمَّ توزِيعِها على رؤوسِ الجبالِ، ثُمَّ بدعْوتهنَّ بطريقةٍ ما فيأتوا إليه طائرين. ولحلِ إشكاليَّةِ أنَّ إبراهيمَ لن يرى كيفيَّة تكوينِ خلق الطير وهي على قِممِ الجبال بعيداً، فقد قيل (هكذا من دونِ أيِّ دليلٍ) أنَّ اللهِ سُبحانَهُ أمرَ إبراهيمَ أنْ يُبقِيَ رُؤوسَ الطُيورِ الأربعةِ بيده!!



ونردُ على هذا بما يلي:




  • لا يجوزُ التشكيكُ بإيمان أيٍ نبيٍ ناهيك عن أبي الأنبياء ...






  • لا يحقُّ لأي إنسانٍ السؤال عن كيفيَّةِ تجميعِ الموتى، لأنَّ هذا ببساطةٍ ليس من شأنِه، بلْ من شأنِ الخالقِ سُبحانَهُ ...






  • لا يوجدُ في الآيةِ كلماتٌ تدُلُ على أنَّ عددَ الطيورِ هو 4، فمعنى قوله تعالى {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} لا تعني العددَ 4 بل قد تعني 4 مجموعاتٍ من الطيورِ أوْ 4 أنواع من الطيورِ ...






  • لا يوجدُ في الآيةِ كلماتٌ تعني تقطيعَ الطيرِ إلى أشلاءَ وذلك للأسباب التاليَّةِ ...



كلمةُ {فَصُرْهُنَّ} تعني ضُمَّهُنَّ واجْمَعْهُنَّ إليك وهي مأخوذةٌ من كلمةِ "صُرَّة" وهي الكيسُ الذي يُجْمَعُ المالُ فيه ...


أمَّا لعِبارة {اجْعَلْ على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} فالجزءُ من العددِ هو أيضاً عددٌ صحيحٌ. فمثلاً 25 جزءٌ من 35 وكلاهما أعدادٌ صحيحةٌ ... فتعني الجُملةُ إذاً : خُذْ مجموعةً من هذه الطيورِ ووزعها على الجبال ....





  • لماذا قالَ تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ولم يقل مثلاً: وَاعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شىء قدير؟ أوَليسَ سؤالُ إبراهيمَ عليه السلام عن القدرةِ؟ فلِمَ يذْكُرُ سُبحانَهُ العزةَ والحِكْمة في الجواب؟






  • لو كان السؤالُ حولَ القدرةِ الإلهيَّةِ على تجميع الموتى، فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ لم يُجِبْ على السؤالِ إذ لن يرى إبراهيمُ كيف تمَّ التجميع من على بُعد؟ ثُمَّ لِمَ التعبُ؟ لِمَ أربعة؟ لِمَ طيور؟ لماذا يصرهُنَّ إليه؟



أليسَ من الأسهلِ أنْ يذبحَ قِطةً أو شاةً ويجعَلَها أمامَ عينَيه، ثُمَّ يدعوها فتتجمعَ أمامَ ناظِريه وينتهي الموضوع؟ فإنْ لم يُجِبْ سُبحانَهُ على السؤال، فلابدَّ وأنَّ السؤالَ ليس كما اعتقده المفسرون!




فما كان سؤالُ إبراهيم؟ وما الحِكْمةُ من الآيةِ؟ هذا ما سنُبينه فيما يلي ...


وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن، قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {البقرة : 260 }



يقولُ تعالى:



يأيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ... {الأنفال : 24 }



فالحَياةُ والموتُ تعنيانِ الهُدَى والضَلالَ كما هو مصرح به في مواضعَ عدةٍ من المُصحفِ الشريفِ. فيُتَحَوَّرُ سؤالُ سيِّدِنا إبراهيمَ إلى: ربِّ أرني كيف تَهدي الضَّالينَ؟ هكذا وبكُلِّ وضوح ...


فكان جوابُ الله تعالى بأنْ خُذْ أربعةَ طيورٍ (أو أرْبَعَ مجْمُوعاتٍ أوْ أنواعٍ منها). ثمَّ قُمْ بالاعتناءِ بها وأظهر لها المودةَ والحبَّ لفترةٍ كافيَّةٍ من الزمنِ حتى يأتلفوكَ ويعرِفوكَ ... وعلِّمها الأصواتِ أو الإشاراتِ التي ستعرِفُك وتُمَيزُكَ بها ... ثُمَّ أطلقهم بعيداً عنك على رؤوسِ الجبالِ ثُمَّ ناديهم بما علَّمْتهم، فستجدُهم يأتونك وما ذلك إلَّا لمعرفتِهم بك ولِحَنِينِهم وشَوقِهم إليك ...



وهكذا تتمُ هِدايةُ الناسِ ياإبراهيم ... فاللهُ سُبحانَهُ يُكْرمُهُم ويغْرُزُ في داخِلهِم الحُبَّ والوِدَّ لمدةٍ من الزمن ... فلو ضلَّوا بعد ذلك وابتعدوا عنه سُبحانَهُ سيُنادِيهم إلى رَحْمته كلٌ بطريقةٍ تُناسِبهُ، ويُذكرُهُم بأيام الهُدَى والرِضى والقربِ منه ... فيتذَكَّروا الأيامَ الخَواليَ، فيَحِنُّوا إليها وإليه لمعرفتِهم السابقةِ بها وبه ... فيتركون ما هم عليه من المعاصِي والظلماتِ ويأتونَه مُسرعين طائرين تائِبين ...



أمَّا لماذا اخْتارَ سُبحانَهُ الطيرَ عمَّا سِواها من الحيواناتِ فذلك لأنَّ الطيرَ من أكثرِ الكائناتِ الحيَّةِ نُفْرةً من الإنسانِ. فهي بطبيعتِها برِّيَّةً طليقةً ترفضُ الأسرَ والأُلفَة. فيكونُ استعماُلها في هذه التجربةِ خيرُ دليلٍ على نجاح الطريقة، فلو نجحتْ مع الطيرِ فسوفَ تنجحُ مع الإنسانِ ...



أمَّا قولُه تعالى : وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ... فهو تأكيدٌ لما ذهبنا إليه. أي أنَّه سُبحانَهُ عزيزٌ بحيث أنَّ الذنوبَ لم تكن لتمنعَهُ من المغفرةِ، وأنَّ ابتعادَ الإنسانِ عنه وضلالَه لم يكن ليُنقِصَه سُبحانَهُ شيئاً. فهو يغفرُ الذنوبَ كلَّها وهو العزيز .... لِذَا فقد ارتبطَ اسمُ العِزةِ مع المغفرةِ في عدةِ مواضِعَ من القُرآن ...


فنجِدُ استعمالَ اسمِهِ تعالى {العزيزُ الحكيمُ} مرتبطاً بالمغفرةِ في استغفار عيسى عليه السلام لقومه:




إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {المائدة : 118}



أيْ رَبَّاه لم تكن ذُنوبُهم لتنقِصُك وأنت العزيزُ فأغفرْ لهم ... فإن أنت حَكمتَ لهم بالمغفرةِ فقد تمَّت لهُم ... فلا يحكمُ إلَّا أنت ... فأنت الحكيمُ ... سبحانك ...



لكنْ يبقى شيءٌ يبحثُ عن إجابةٍ، وهو ما الحِكْمةُ من السؤالِ؟ لماذا يهتمُ إبراهيمُ بكيفيَّةِ هِدايةِ الضَّالين؟ الجوابُ أن أيُّ نبيٍّ يهتمُ بهذا الموضوع فهو صميمُ رسالتِهِ وعَمَلِهِ. إذن لماذا لم يسألِ الأنبياءُ الآخَرون؟ فعلى سبيل المثالِ وَردتْ قِصصُ مُوسَى عليه السلامُ في الكثير من المواضعِ وغَطتْ جميعَ النواحيَ ولم يسألْ مُوسَى هذا السؤال البتة ... فلماذا سألَ إبراهيمُ؟




وسؤالٌ آخرٌ: ما الذي أقلقَ قلبَ إبراهيمَ فلم يستطعِ الكتمانَ والصَبرَ فسألَ؟



هذا القلبُ الأواهُ المنيبُ الذي لم يسألْ ولم يعترضْ في مسألةِ تركِ زوجته وابنهِ الرضيعِ وسطِ الضَواري بلا ماءٍ وبلا طعامٍ ولم يسألْ أو يعترضْ عندما أُمِرَ بذبحِ ابنِهِ ... لِمَ قلِقَ قلبُه الآن؟ هذا الذي قال له ربُّه أسلمْ، قالَ أسلمتُ لربِّ العالمين ... هكذا من غيرِ ترددٍ ... لِمَ قلِقَ قلبُه الآن؟


للإجابةِ علينا النظر للغرضِ من السؤالِ نفسِه: قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى .... إذاً تكمنُ الإجابةُ في قلبِ سيِّدِنا إبراهيمَ فعلينا إذاً البحثُ في قلبِه والنظرُ، لعلنا نجِدُ جواباً ...



إذا نظرنا إلى الأنبياءِ عليهم السلام فإنَّنا نجِدُ تميَّزَ إبراهيمَ عنهم جميعاً بانشغالِهِ بذُريَّتهِ أكثر من سِواه. فقلما جاءَ ذِكْرُه من دونِ دعْوةٍ خالصةٍ باكيَّةٍ راجيَّةٍ لذُريَّتِهِ. فعلى سبيلِ المثالِ وبالرغمِ من كَثرةِ وُرُودِ قِصَصِ مُوسَى، فإنَّه لم يردْ قط أنَّه دعا لذُريَّتِهِ! بل لا مُبالغةَ إذا قلنا أنَّ دعوةَ إبراهيمَ لذُريَّتِه تفوقُ دعواتِ الأنبياء مُجتمعين لذريَّاتِهم ... هو الأبُ الحنونُ لا ريبَ ... فلا غرابةَ وأنْ يكونَ أبا الأنبياءِ إذاً ...



لذا فقلقُ إبراهيمَ عليه السلام إنَّما هو قَلقٌ على هدايةِ ذُريَّتِه تحديداً. ومن المعْلُوم عند الناسِ أنَّ القلقَ على الذُريَّة أشدُّ أنواعِ القلقِ ذلك أنَّ حبَّ الذُريَّةِ ينبعُ من القلبِ. والقلبُ هذا تحديداً مصدرُ الطمأنينةِ، ولكنَّه أيضاً مصدرُ القلقِ عند الإنسانِ ... أي أنَّ القلبَ مَنزِلُ الحبِّ ومَنزِلُ الخوفِ في آنٍ واحِد ...



فالخوفُ ينْقَضُّ على الطمأنينةِ من بيتِها ومَكْمَنِها فَيَقْلِبُها رأساً على عَقِبٍ ... لهذا فالخوفُ على الذُريَّة يقلِبُ كيانَ الإنسانِ ويتحكمُ بتصرفاتِه وكُلِّ أحوالِه ... وكلَّما زادتْ حِنيَّةُ القلبِ، زادُ حُبُّها لذُريَّتِها، وكلما تعلقتْ بها وقلِقتْ عليها ... وكان هذا هو حال سيِّدِنا إبراهيمَ عليه السلام ... أبو الأنبياء ...



فقلقُ إبراهيمَ عليه السلام واضْطِرابُ قلبِه إنَّما هو قلقٌ على هدايةِ ذُريَّتِه تحديداًن الذرية التي وعده تعالى باستخلافها الأرض.



ولكن في الآيةِ قضيَّةً أساسيَّةً أخرى وهي أنَّها لا تتحدثُ عن الهدايةِ بشكلِها العام ولكِنَّها تُخصِصُ أيضاً "هدايةَ إنسانٍ كان صالحاً ثُمَّ ضلَّ ثُمَّ اهتدى مرةً أخرى". فالآيةُ تقولُ بأنَّ الطيورَ كانت أوَّلاً مجتمعةً تحتَ كنفِ مُرَبِّيها (وهذه بالنِسْبةِ للإنسان مرحلةُ الهدايةِ الأولى) ثُمَّ ابتعدتْ إلى قِمم الجبالِ (مرحلةُ ضلالٍ ونفور وزُهُوٍ) ثُمَّ عادتْ مرةً أخرى إلى مُرَبِّيها (مرحلة الهداية الثانية) ... أي أنَّ الآيةَ تسألُ كيف يُهْدَى من ضلَّ وقد كان مَهْتدِيَّاً من قبل؟



الإجابةُ عن السؤالِ موجودةٌ في الإجابةِ عن: لماذا يضعُ إبراهيمُ الطيورَ على رؤوسِ الجبالِ؟ ولِمَ أربعةٌ؟



فالجبالُ تومئ إلى أنَّ إبراهيمَ عندما سأل ربَّه كيف يهْدي الضَّالين كان في منطقة بها الكثير من الجبالِ المتقاربةِ القِمَمِ فيُمكنُ للإنسان توزيعُ الطيرِ على رؤوسِ الجبالِ بدون مَجهودٍ كبير. فذِكْرُ الجبال في الآيةِ إشارةً إلى المكان الذي كان به إبراهيم عندما سألَ عن كيفيّةِ هدايةِ الضَّالين.



لكن اختيارَ رؤوسِ الجبال كنقطةٍ لهداية الناس يتضمنُ حِكَمةً أبلغ. فمن المعلوم أنَّ الناس تضيقُ صُدُورها على قِممِ الجبال لقلةِ الأكسجين فيها مقارنةً بما دونها من الأماكن. فتكونُ الإشارةُ من اختيار رؤوس الجبال لهداية الناس هي إخراجُهم من الضيقِ إلى الانشراح بالهُدى ... وهي السنَّة الكونيةُ بإخراج الشيءِ من ضِدِّه ...



فالجبلُ في الآيةِ إنَّما هو نُبُوءةٌ حقيقيةٌ لمكان هداية ذُريَّةِ إبراهيمَ بعد آلافِ السنينِ من سُؤالِه عن كيفيَّةِ هدايةِ الضَّالين. أمَّا لماذا أربعةٌ من الطيرِ فنقولُ أنَّ ذلك يستهدف تحديداً أربعةٍ من ذُريَّةِ إبراهيمَ يأتونَ على أربعةِ مراحل منفصلةٍ كما هي قِممُ الجبالِ مُنفصلة عن بعضِها البعض وهم:






  1. مُوسَى عليه السلام : نعلمُ جيداً أنَّ مُوسَى نُودِيَ إلى منطقةٍ جبليَّةٍ وأنَّ الله تبارك وتعالى كلَّمَه وهو بجانبِ جبلِ الطور .... تأملْ في الكلماتِ التاليَّةِ من سُورةِ طه وتحديداً مَعاني المَغفرةِ منه تعالى وسَعْيَّ وتعَجلَ مُوسَى إلى نداءِ ربِّه:





وَإنى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى {82} وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يامُوسَى {83} قَالَ هُمْ أُولاءِ على أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى {طه:82-84}




ومن سُورةِ الأعرافِ تأملْ مَجِيءَ مُوسَى إلى الموعدِ (الميقات) في الجبلِ وهذا هو نفسه وعدُ اللهِ تبارك وتعالى لإبراهيمَ بهدايةِ ذُريَّتِهِ على رؤوسِ الجبال:




وَلَمَّا جَاءَ موسى لِمِيقَاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ، قَالَ لَن تَرَانِى وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى {الأعراف:143}




وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا {مريم:52}






  1. نبيُ الله داودُ : إذ تكررَ ذِكْره مُرادفاً للطيرِ وللجبالِ والتسبيحِ والإنابةِ والعودةُ لله تعالى:





وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ، إِنَّهُ أوَّابٌ {17} إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ {18} وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أوَّابٌ {ص:19}




وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً: وهذا يُذَكِرُنا بقصةِ إبراهيمَ في سورة البقرةِ مع الطيرِ " فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ" أي أحشرهُنَّ إليك ... فكما عادتِ الطيرُ إلى إبراهيمَ في آيةِ البقرةِ، عادَ داودُ إلى رَبِّه ... وكُلُهم إليه سُبحانَهُ، أوابٌ ...




وفي سُورةِ الأنبياءِ:



وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فَاعِلِينَ {الأنبياء:79}



وَكُنَّا فَاعِلِينَ ... نعم .. فاعِلينَ لوعدنا لإبراهيم في البقرة ...




وفي سُورة سبإ :




إِنَّ فِى ذَلِكَ لـءَـايةً لِّكُلِّ عَبْد مُّنِيبٍ {9} وَلَقَدْ ءَاتَينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً، ياجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ {سبإ:9-10}



فيا جبالُ ... ويا طَّيْرُ أوِّبُوا وعُودُوا مع دَاودَ إلى الله ... كما أوَّبتْ طيورُ إبراهيمَ إليه ... فتلك دَعْوَةُ إبراهيمَ ...




3) سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم: وقد كان على رأسِ جبلِ النور عندما جاءَه نِداءُ الوحيِّ أوَّلَ البِعثةِ ... هنا أنا لا أقول بأنَّ سيِّدي محمداً كان ضالًّا قبل البعثة ... فهو لم يضلْ قط. فالهدايةُ بعد الضلالِ بالنِسْبةِ لسيِّدنا محمدٍ هي الوَحْيُ بعد الحيرةِ التي كان بها قبل البعثة، وكما جاء في سورة الضحى: وَوَجَدَكَ ضَالّاً فهدى {الضحى:7}




4) أحد الأنبياء من ذرية إبراهيم



إذن قد كان إبراهيم قلقاً وخائفا من أن تشرك ذريته. فكان يسأل كيف يمكن إحياء وهداية المشركين من ذريتي؟ فقد جاء في سورة إبراهيم:



وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ ءامناً وَاجْنُبْنى وَبَنى أَن نَّعْبُدَ الأصنم {35} رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنى فَإِنَّهُ مِنى وَمَنْ عَصَانى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {36} رَّبَّنَا إنى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37}



في سياقِ موضوعِ أمرِ استخلافِ ذرية إبراهيم نجيبُ على سؤالٍ محير وهو لماذا استجابَ سُبحانَهُ لإبراهيمَ جميعَ دعواتِه عدا واحِدةٍ، وواحِدةٍ مُهمةٍ وهي تجَنِب ذُريَّته عبادةَ الأصنام:




وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ {إبراهيم:35}؟



فنعلمُ يقيناً الشركَ الذي أصابَ قريشاً، وهم نسلُ إبراهيم ... فلماذا؟ للجوابِ نقولُ أنَّ الله تعالى مُجيبُ الدعاءِ وإن لم يجبْ دعوةً بعينها فإنَّه يُعطي خيراً منها. فإنْ كان هذا للناسِ عَامَّةً فلابدَّ وأنْ يتحققَ لسيِّدِنا إبراهيم . وهذا ما حصَلَ.




فاللهُ سُبحانَهُ لم يَستجبْ للدعوةِ لأنَّها تُخالفُ أحدَ أهمَّ النواميسِ الإلهيَّةِ وهي إخراجُ الشيءِ من ضِدِّهِ. ولكنَّه تعالى أعطاهُ خَيراً منها وهو أنْ تكونَ ذُريتُه نوراً للعالمين، أبَدَ الآبدين. وهذا النورُ لابدَّ وأنْ يخرجَ من بطنِ الظلماتِ لِيتَحققَ الناموسُ الإلَهيُ بإخراجِ الشيءِ من ضِدِّهِ. وهو ما حَصَلَ بالفعلِ، فخرجَ نورُ سيِّدِنا مُحمدٍ، سَيِّدُ العالمين، من بين ظلماتٍ مُوغِلةٍ في الوثنيَّةٍ ...




سياقُ الآيةِ 260 من سُورةِ البَقَرَةِ



سياقُ الآيةِ التي سألَ فيها إبراهيمُ ربَّه عن كيفيّةِ هدايةِ الضَّالين يؤكدُ ما ذهبتُ إليه من تأويل. فإذا عُدنا إلى الآيةِ 255 نجِدُ آيةَ الكرسي التي يعني اسمها الاستخلاف والملك وقد قلنا أنَّ سؤالَ إبراهيم كان حولَ هدايةِ ذُريَّتِه واستخلافِهم ومُلكِهم ...



ثم في الآية 257 نجِدُ كلاماً عن الهدايةِ تحديداً: اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ... {البقرة : 257 }


ثم في الآيةِ 258 يذْكُرُ سُبحانَهُ المُلكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِى ربِّهِ أَنْ ءَاتَـاهُ اللهُ الْمُلْكَ ... {البقرة: 258 } ...


ثم في الآيةِ 259 نجدُ كلاماً عن غائبِ بني إسرائيلَ المُنتظر (عُزير)، وهذا إشارةٌ إلى المُنتظرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وتأكيداً على موضوع الهداية، فإنَّ عُزيراً كان يسألُ ربَّه أيضاً عن الإحياءِ:



أَوْ كَالَّذِى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِى خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْىِ هَـذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ... {البقرة: 259 }



ثم يأتي دورُ آيتِنا قيد التفسير 260 من سُورةِ البقرةِ والتي يَسْألُ فيها إبراهيمُ ربَّه عن كيفيّةِ هدايةِ الضالين.



وتأكيداً على ما ذهبنا إليه من أنَّ الآيةَ 260 من البقرة تتحدثُ عن هدايةِ ذُريَّةِ إبراهيمَ (محمد) واستخلافِهم، نجِدُ أنَّ الآيةَ التاليَّةَ لها هي الآيةُ العظيمةُ:




مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضْاعِفُ لِمَن يَشَاءُ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة: 261 }





والمُنفِقُ هنا هو سيِّدنا إبراهيم عليه السلام ... والإنفاقُ ليس بالمال بل بما سبق ذِكْره من عملِه الصالحِ:




وَإِذِ ابتلى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ {البقرة : 124}



فما جزاءُ عَملِه إلَّا استخلافَ ذُريَّتِه (محمد) على العالمين ....



ثُمَّ بعد ذلك تأتي الآياتُ {262-281} إذ تتحدثُ في مُجْمَلِها عن الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ ومرضاتِه والإخلاصِ في ذلك وما يصاحبُه من بركةٍ وزيادةٍ، ونقيضُ ذلك من البُخلِ والإمْساكِ والربا وما يصاحبُه من حَرقٍ ومَحقٍ وضَياع . والإنفاقُ في سبيلِ اللهِ ليسَ بالمالِ وحدَه، بل هو بكُلِّ عملٍ صالح، ظاهِراً كان أم باطِناً ...



ويضربُ سُبحانَهُ الأمثالَ المُخْتلِفةَ للناس في هذه القضيَّةِ، قضيَّة الإخلاص والبركة العظيمة في كُلِّ عمل مُخْلصٍ لله تعالى. هذا في ظاهِر الآياتِ لكنَّ المقصودَ المُبْطنَ هي البركةَ المصاحبةَ لأبي الأنبياء إبراهيم تحديداً. هذه البركةُ يَليقُ بها أنْ تكونَ وتكتملَ بالمُلكِ والاستخلافِ والنُبُوَّةِ لذُريَّتِه الكريمةِ، وذلك لعِظَمِ إخلاص إبراهيمَ عليه السلام ...



إنَّ هذا الوعدَ العظيمَ باستخلافِ ذريَّةِ سيِّدِنا إبراهيمَ الأرضَ ذُكِر في أماكنَ عديدةٍ من المُصحفِ الشريفِ كما في سُورةِ هود:




وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلَاماً، قَالَ سَلَامٌ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ {69} فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُواْ لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ {70} وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَهَا بِإسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ {71} قَالَتْ يَاوَيْلتَى ءَألِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِى شَيْخاً، إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ {72} قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله، رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ {73} فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَدِلنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ {74} إِنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أوَّهٌ مُّنِيبٌ {هود:75}



فأمرُ الله تبارك وتعالى والبُشرى في الآياتِ أعلاه من سُورةِ هُود ليس كما يُفهَمُ عادةً من أنَّها قدرتُه تعالى على جَعْلِ امرأةِ إبراهيم تحْمِلُ وتلِدُ بعد العُقم فحسب ... بل هو أوسعُ من ذلك وأشملُ ... فهو الأمرُ باستخلافِ ذُريَّةِ إبراهيمَ المباركة الأرضَ وهذا لا يكون إلَّا بجَعل هذه الذُريَّة المُباركة الحيَّة تخْرج من بَطنِ عَجوزٍ عَقيمٍ تماماً كما هي السُنَّةُ الكونيَّةُ بخروجِ الشيءِ من ضِدِّهِ كخروجِ الحيِّ من الميِّتِ والنور من الظلماتِ والهُدى من الضلالِ ....




فالإعجاز ليس أنْ تَلِدَ امرأةُ إبراهيمَ بعدَ عُقْمٍ. لأنَّه لو كان الحالُ كذلك فسيكونُ السؤالُ فلِمَ وقعتْ هذه المُعجِزَةُ لها من دونِ غيرِها من النساءِ؟ فزوجةُ إبراهيمَ اختيرت لهذا الإعجاز لتكونَ أمَّاً للأنبياءِ والخُلفاءِ وللذُرِيَّةِ المُباركَةِ الحَيَّةِ، ولأنَّ بطنها سوفَ يُخرِجُ هذه الذُرِيَّةَ المُباركَة الحَيَّةَ وَجَبَ أنْ يكونَ عَقيماً كي تَتِمَّ السُنَّةُ الكونيَّةُ الأزليَّةُ بإخراجِ الشيءِ من ضِدِّه ... والتي تكلمنا عن الحِكمة منها بالتفصيل في أماكن أخرى ...




مما يؤكدُ صِحَة ما ذهبنا إليه هو أنَّ الله تبارك وتعالى أسْمَى ابنَ زكريا "يَحْيَى " وهو اسمٌ يدلُّ على الحياةِ وذلك لِكون امرأةُ زكريا "عاقِراً" ... فالحياةُ تخرجُ من رَحَمِ الموتِ ومن رجلٍ وهنَ منهُ العظمُ واشتعلَ الرأسُ منه شيباً ...






سبحانه وتعالى عما نقول علوا كبيرا

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

ومن سار على هديه إلى يوم الدين