الأم الأولى والأم الثانية...بقلم آرا سوفاليان
لديّ صديق طبيب تحولت صداقتي له الى الأخوة الخالصة...كان يتعامل مع الشركة الطبية التي كنت أعمل بها قبل ان اتحول اليوم الى عاطل عن العمل في خطوة كارثية لا يمكنني تصديقها ولا تحمّلها، وكنت أزوره باستمرار وتطالعني على الجدار في غرفة الانتظار لوحة ملونة جميلة ومذهّبة في اطار جميل تحوي الكلمات القدسية الآتية:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)
في كل مرة أطالع هذه اللوحة أتذكر أمي في كندا، وتنتابني موجة من الحنين والشوق وأغالب دموعي وأدخل لرؤية صديقي...وتتكرر هذه المسألة وأصادف هذه اللوحة مرتين مرة في دخولي للعيادة ومرة أثناء مغادرتي لها، وأتوقف لأرمقها بنظرة خاصة وصاحبها لا يعلم. وكانت آخر مرة قبل كتابة هذه المقالة بثلاثة أيام، وأمي تعرف ما يحدث لنا هنا في سوريا وتتكبد مشقة الاتصال بنا فهي لا تقتنع بكل الوسائل العصرية من ايميل وسكايب وما شابه.
كانت أمي تلحّ على المجيء وكنت أطلب منها صرف النظر، وقلت لها أنه لا توجد لدينا سفارات، ولا شركات طيران، والطرقات غير آمنة، والأسعار تضاعفت لمرات عديدة، ونحن نذهب إلى المجهول...وتكررت محاولاتها، وتكرر رفضي...وأنا أعرف عزمها وإصرارها القويين وإرادتها الفولاذية ولكني لم أتوقع أن تصبح في الشام وتحت بيتها قادمة من كندا ومعها حقائبها إلى مطار بيروت الدولي ثم بالسيارة إلى دمشق؟؟؟!!!
قالت لي: لست أفضل منكم في شيء وإذا متّم فالأجدر بي أن أموت معكم، قتلتني الوحدة يا آرا وقتلني الشوق إليكم والخوف عليكم...أخوك وزوجته يذهبون إلى الشغل من السابعة إلى السابعة، يتناولوا طعام الغذاء عفواً العشاء ويجلس أخوك والريموت بيده يقلّب ويقلّب وتقوم زوجته ببعض الأعمال والاتصالات وفجأة أعود لأجد نفسي وحيدة من جديد فلقد ذهبوا للنوم وعليهم مغادرة البيت قبل السابعة صباحاً وهذا يستدعي أن يذهبوا للنوم في حدود العاشرة، ليستيقظوا في السادسة، أما أولاد أخوك فصاروا شباب ولم يعد يعجبهم طعام جدتهم ولا طعام أمهم، كانوا يقولون لي أنتِ من علّمنا الفرنسية يا جدتي...واليوم لا أراهم ابداً فلقد صارت لهم صداقات وحياة خاصة تتعلق بهم ولا اعرف متى يدخلون البيت ومتى يغادرون.
وأنا في النهار أمام الفضائيات أرى قطع اللحم المتطاير وجداول الدماء، يعذبني الألم والخوف والندم لأن هناك آلاف الكيلومترات تفصل بيننا فقررت إنهاء معاناتي وجئت.
أمي الحبيبة في الوقت الذي يجب أن نخدمك فيه بعد كل ما فعلتيه من أجلنا تعودين إلى دمشق رغم الظروف المستحيلة لتكوني بيننا وتخدمينا من جديد...اعذري ضعفنا يا أمي وسامحينا فنحن لا يد لنا حتى في تقرير طريقة حياتنا ولا طريقة موتنا بعد اليوم، فهذا قد يكون بيد ابن زانية يضع سيارة مفخخة في مكان ما ويذهب لنأتي نحن بالصدفة، فيذيقنا ما يذيقنا.
هناك من يتزوج فتأتي زوجته لتناحر بأمه وتناحر به حتى يخرج عن طوره فيضرب عرض الحائط بالوالدين وبإكرام الوالدين ويغضّ النظر عن الوصية التي وردت في اللوحة القدسية التي أقف في مواجهتها في كل مرة ادخل فيها عيادة صديقي، وأعرف أن الله قد أعدّ للظالمين ناراً عظيمة، والقصص التي نسمعها كثيرة كثيرة، ولكن بالنسبة لي فإنه لم تتح لي الفرصة لإكرام أمي لأني أمضيت عمري في السفر والعمل خارج بيت أهلي، وجاءت هي لتمضي ما بقي في كندا، وكنت أرى محبة أهل زوجتي لأمهم فأقول أن هناك مبالغة، ولكني كنت مخطئ، فهناك حموات خربن بيوت بناتهن وعن عمد، والقصص التي نسمعها كثيرة كثيرة، أما حماتي أنا فهي صديقة أمي الحميمة، وأحبها كرامة لزوجتي وكرامة لأمي، وهي من نفس الصنف، مع فارق بسيط وهو شخصية أمي القوية جداً وارادتها الفولاذية، وضعف حماتي الشديد والاستكانة الأشد، وتسليمها أمرها لله، كنت أقول ربما لأنها فقدت ابنها البكر وهو طبيب متخصص في فرنسا ومنذ مدة طويلة وان هذه الحادثة قلبت حياتها رأساً على عقب وجعلتها كسيرة القلب مهيضة الجناح، وعلى الأكثر فهذه هي الحقيقة.
هي هذه المرأة الأنيقة التي تقف على يميني في الصورة وبالملابس الفاتحة، هي حماتي أو أمي الثانية، وأمي هي تلك التي تقف على يساري في الصورة والتي تلبس النظارة، هذه الصورة الجميلة تذكرني بفضل الله جلّ جلاله عليّ، فهذه أمي وتلك أمي الثانية التي لم تغلط في حقي ولو بكلمة بسيطة، ومن هنا فأنا ألمس روح الله جلّ حلاله في هذه الآية وعظمة الكتاب الذي وردت فيه فأغالب دمعي في كل مرة أكون فيها في مواجهتها:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) صدق الله العظيم
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 09 11 2012
arasouvalian@gmail.com