فإذا ما طرح أحدٌ علينا السؤالين التاليين:
1- هل يكوِّن السوريون أمَّة ؟
2- وما هي الفكرة التي تقوم عليها هذه الأمَّة ؟
أجبناه بقولنا:
1- لا شكَّ عندنا أبداً في أنَّ السوريين يشكِّلون أمَّة واحدة، وهذا أمرٌ ليس طارئاً عليهم، بل هو أصيلٌ فيهم ويعود إلى زمن بعيد، وإذا لم يكونوا كذلك فعلاً - في نظر بعض من يشكُّ في أنَّهم أمَّة - فإنَّ الواجب والمصلحة معاً يفرضان عليهم أن يكوِّنوا هذه الأمَّة.
2- وأمَّا الفكرة التي تقوم عليها هذه الأمَّة، فهي (الوسطية)، وهي فكرةٌ جامعة لمصالح السوريين على اختلاف اتجاهات هذه المصالح ومستوياتها، بما فيها التأسيس لرسالتهم العالمية الإنسانية.
رابعاً- الوسطيَّة فكرةً تجتمع عليها الأمَّة السوريَّة:
سبق وذكرنا تعريفنا الذي اخترناه لمفهوم الأمَّة، إذ حدَّدناها بأنَّها: اجتماع الإنسان مع الإنسان على فكرةٍ تتضمن منطلقاً ومرجعاً وغايةً، تحدِّد هذه الفكرة ما تمتاز به الأمَّة على بقية الأمم ودورها في الحياة، سواءٌ أكان سلبياً أم إيجابياً.
وقد حرصنا في هذا التعريف على أن يكون الأمر الجامع لأفراد الأمَّة فكرةً لها منطلق ومرجع وغايةٌ لأسباب هي:
1- أنَّ الإيمان بالفكرة لا يكون إلا عن طريق الاختيارالحرِّ لأفراد الأمَّة، بعيداً عن أشكال الجبرية المختلفة، سواءٌ أكانت جبريةً طبيعية كانتماء الإنسان إلى قوميَّة أو إقليم أو نطاقٍ لغويٍّ ما، أم جبريَّة صناعيَّة كالتي تفرضها عوامل بشرية بواسطة التربية القائمة على التلقين ([1]).
2- لأنَّ الاجتماع على الفكرة يتناسب مع خصائص الإنسان الفريدة من حيث كونه كائناً عاقلاً مفكِّراً.
3- لأنَّ في ذلك انتقالاً إلى طور أرقى من أطوار الاجتماع الإنسانيِّ، يأتلف فيه الناس على أمرٍ أبعدَ من روح القبليَّة وما تفرزه من الاستبداد والتعصُّب والعنف، الذي يبرِّره أصحابه بالتأويلات القوميَّة أو الدِّينيَّة غالباً.
وعندما رأينا أنَّ الوسطيَّة هي الفكرة الجامعة لأفراد الأمَّة السورية، فلأنَّها الخاصَّة الأكبر لنا جغرافيةً وفكراً وسلوكاً، فهي الأنسب إذن لطبيعتنا ومصالحنا، ولأنَّها هي التي حدَّدت عبر التاريخ ما نمتاز به على بقية الأمم، ورسمت لنا دورنا في الحياة ورسالتنا إلى الإنسانية، فضلاً عن أنَّا رأينا معظم مشكلاتنا نابعةً عن ابتعادنا عن هذه الفكرة. فما هي الوسطية، وما هي منطلقاتها ومرجعيتها وغايتها ؟
1- تعريف الوسطيَّة:
إذا كانت الوسطية نسبةً إلى الوسط الذي يعني الاعتدال، ووقوفك بين طرفين بحيث تكون نسبتك وقُربك إلى أحدهما بمقدار نسبتك إلى الطرف الآخر وقربك منه، فإنَّا نعرِّف الوسطية إنسانياً بأنها:
قدرة نفسية وعملية، تحمل الإنسان على تقبُّل الآخر والتعامل معه بإيجابية، تقبُّلاً نابعاً من الاعتقاد بالمساواة معه في أصل الإنسانية، وتعاملاً مؤسساً على الإيمان بضرورة التكامل معه في الصفات والمزايا المتقابلة، الإضافية على الإنسانيَّة.
وهكذا فإنَّ إيماني بأنَّ المختلف عنِّي قوميَّة أو ديناً أو موهبةً أو ...هو مساوٍ لي في أصل الإنسانية يحملني على تقبُّل وجوده معي، ويدعوني بالتالي إلى الإقرار له بمثل الحقوق التي أطلبها لنفسي.
كما إنَّ قناعتي بالحاجة إلى ما يمتلكه من مزايا ومواهب، في مقابل ما أمتلكه أنا من مزايا ومواهب أخرى يحتاجها هو، يُدخلني معه في تبادل إيجابيٍّ وتكامل بنَّاء هو أساس لارتقاء الإنسانية.
وهكذا يبدو الحامل لفكرة الوسطيَّة وكأنه يقف في النقطة الوسط ما بين ذاته وبين ذوات الآخرين، فلا يبخس نفسَه ولا الآخرين حقوقهم، بل يعدل ويتكامل، وذلك هو القِسط الذي دعا القرآن إليه في مواطن متعددة منها:
﴿يا أيُّها الذين آمنُوا كونوا قوَّامين بالقِسْط شهداءَ لله ولو على أنفسِكم أو الوالدَين أو الأقربين إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتَّبعوا الهوَى أن تعدِلوا وإن تَلْووا أو تُعرضوا فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً﴾ النساء: ١٣٥.
﴿يا أيُّها الذين آمنُوا كونوا قوَّامين لله شهداءَ بالقِسْط ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألا تعدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتقوى واتقوا اللهَ إنَّ الله خبير بما تعملون﴾ المائدة:٨.
فإذا ما قام الإنسان بالقسط فشهدَ على نفسه، فقد اتصف بالوسطيَّة، فأصبحت شهادته على الناس مقبولة، وتأهَّل ليكون فرداً في أمَّة أو نواةً لأمَّة:
﴿وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيداً﴾ البقرة: ١٤٣.
وعندما يجانب الإنسان الوسطيَّة فقد وقع في التطرُّف حكماً، وفتح بذلك على نفسه والآخرين أبواب العصبيَّة والعنف.
ولو تأملنا مشكلات الإنسانية لأدركنا أنَّها بسبب ابتعاد الإنسان عن الوسطيَّة:
أليس الاستبداد السياسيُّ تطرُّفاً من حاكم يرى لنفسه من الحقِّ ما لا يراه لغيره ؟!
أليست السياسات الاقتصادية المجحفة تطرُّفاً من شركات تتغافل في آنٍ واحد عن حقوق العمال الذين هم أدوات الإنتاج الحقيقية، وعن حقِّ فقراء العالم في الوصول إلى الكفاية الماديَّة ؟!
أليس التعصُّب الدينيِّ والفكريُّ تطرُّفاً من صاحب رأي يدعي امتلاك الحقيقة بشكل لا يقبل حواراً ولا استثناءً؟!
وما العنف الذي يشهده العالم إلا نتيجة لهذه الأشكال من التطرف والبُعد عن الوسطية، يستخدمه المستبدون أو أصحاب الأموال والمتعصبون تارةً، أو يردُّ عليهم به المستضعفون والمسحوقون من الناس.
وما ينطبق على العالم بأسره ينطبق على الحالة التي تشهدها سورية اليوم، فإن كان من غير المقبول أن تستأثر فئة منَّا بحقوقٍ سياسية أو اقتصادية لا تنالها بقية الأمَّة، لأنَّ هذا الاستئثار تطرُّف وابتعاد عن الوسطية، فإنَّ مواجهة ذلك بالعنف أو بالهدم الفكريِّ أو الماديِّ هو تطرُّف أيضاً ومجانبة للوسطية، ولا مخرجَ لنا من هذا التطرف أو ذاك إلا بالعودة إلى رحاب الأمَّة الجامعة، وفكرة الوسطية التي تقوم عليها.
2- منطلق الوسطيَّة:
ونعني بمنطلق الوسطيَّة الأصلَ الذي أفرزها وصدرت عنه، ونحن نرى أنَّ هذا الأصل هو الطبيعة الإنسانية، وهذا ما يجعل الوسطيَّة قرينة للوجود الإنسانيِّ الصحيح، ويُفهمنا السبب الذي زالت لأجله كلُّ الدعوات التي قامت على التمييز والتفريق بسبب العنصر أو الاعتقاد أو الطبقة الاجتماعية وما شابه، وما ذلك إلا لأنَّها تناقض هذه الطبيعة الإنسانية، وتريد أن توجِّه الإنسان في مسارٍ يخالفها، عبر التلقين والإكراه المعنوي والماديِّ، بما فيه الترغيب والترهيب.
3- مرجع الوسطيَّة:
وهي قواعد العدالة المؤيَّدة بالتعاليم السماوية والفلسفات الإنسانية والقوانين العلمية، ومهمتها الفصل بين الناس عند تنازعهم أو شكِّهم، والعمل على إرجاعهم إلى الوسطية عند انزياحهم عنها.
4- غاية الوسطيَّة:
وهي تحقيق السَّلام، الذي هو وصول العالم - ونعني به الإنسان في الدرجة الأولى - إلى الكمال والتمام معاً من حيث الأمن والأمان.
وكنَّا قد عرَّفنا الأمن بأنَّه ([2]): هو العوامل الذاتيَّة التي تؤمِّن للذَّات استقرارها ونموَّها دون خوفٍ أو وَجَل؛ سواءً أكانت الذّات فرداً أم أمَّةً.
وعرَّفنا الأمان بأنَّه: العوامل الخارجية التي تنعكس على الذَّات - فرداً أو أمة - فتؤثِّر في تحقيق استقرارها ونموَّها.
أمَّا المقصود بالكمال فهو بلوغ الأمن والأمان أقصى نسب التغطية كمَّاً، بحيث يغطيان الجوانب التي تحتاجها الذات كافة ؛ بينما يعني التمام مناسبة الأمن والأمان للإنسان نوعاً، بحيث يرتقي كل جانب نحو أعلى الدرجات مناسبةً.
خامساً- المواطنة نظاماً للأمَّة السورية:
ذكرنا من قبل أنَّ منَ الأسس المكوِّنة لروح الأمَّة قيامَها بمصالح أبنائها، ولا سيَّما فيما يتعلق بضبط العلاقات ما بين الأفراد، وهذا يقتضي كما قلنا وجودَ نظام حقوقي يحدِّد الحقوق والواجبات، ويتصف بمثل الصفات الست التي شَرَطنا توفرها في الهوية، فيلتزم به الفردُ طواعيةً ابتداءً، وتقوم على مراقبة تطبيقه مؤسسات منتدَبة من الأمَّة، وهذا النظام هو المواطنة.
وقبل تقديم التعريف الذي وضعناه للمواطَنة، ينبغي الوقوف على تعريفنا للوطن ثم للمواطن، فهذه ثلاثية مترابطة يكمِّل بعضها بعضاً، ويؤدي واحدها إلى الآخر ([3]).
لقد قلنا في تعريف الوطن إنَّه: مكانٌ صالحٌ للاستقرار والنموِّ، يرتبط معه الإنسانُ بعقدٍ يتضمن عهداً من الإنسان ووعداً من المكان.
وبالتالي فإنَّ المواطن هو: إنسانٌ يرتبط مع المكان الذي ارتضاه محلاً لاستقراره ونموّه بعهدٍ على أن يقدِّم عمله الصالح فيه، تهيئةً وحمايةً ورعايةً، في مقابل أن يحقق المكان وعده بأن يَفيء عليه بخيره، كفايةً وأماناً.
وهكذا نصل أخيراً إلى تعريف المواطنة قائلين:
المواطَنة: مفاعَلةٌ ما بين ثلاثة أطراف هي المواطن الفرد والوطن ومجموع المواطنين، يَنظم ما بينها عقدٌ يتضمن حقوقاً وواجباتٍ متبادلة (عهدٌ ووعدٌ)، وهي حقوقٌ وواجباتٌ دستوريَّة، تحدِّدها قوانين يتوافق عليها مجموع المواطنين.
وإذا كانت المواطنةُ مفاعلةً ينظمها عقدٌ، فإنَّ منْ أهم مقوماتِ العقد الصحيح - بعد الحرية - تساوي أطرافه كما ذكرنا سابقاً، وهذا ما يدفعنا لنؤكِّد مجدداً على أنَّ نصيب كلِّ فرد من المواطنة مساوٍ لنصيب جميع الأفراد الآخرين، بناءً على المساواة القائمة بينهم أصلاً في انتسابهم إلى الأمَّة، وهذا ما يعطي جميع المواطنين كامل الأهلية -بالمعنى الحقوقي للكلمة - في المطالبة بالحقوق وأداء الواجبات، فلا يُحجَر على أحدهم فيُمنعَ من اكتساب حقٍّ ما بذريعةٍ لا مسؤوليةَ له عنها، ما دامت غير مؤثرة في صلاحيته لاكتساب هذا الحقِّ.
([1]) الأصل في الدين أن يكون بعيداً عن الجبرية، وهذا ما قرَّره القرآن الكريم: ﴿لاإكراه في الدِّين﴾، ولكن التربية الدينية لم تتقيد بذلك دائماً، وهذا ما أشار إليه الحديث: (كلُّ إنسانٍ تلدُه أمُّه على الفطرة، وأبواه بُعْد ُيُهوِّدانه وينصِّرانه ...، فإن كانا مسلمين فمسلمٌ).
([1]) شركاء في الإصلاح: ص15.
([1]) تجد في القسم الأول (مفاهيم أساسية في فلك الإصلاح) من مشروعنا المذكور سابقاً تعريفنا لعدد من المفاهيم الأخرى المرتبطة بالموضوع، ومنها ما ورد في تعريفنا للوطن والمواطن والمواطنة، فيمكن الرجوع إليها هناك لاستكمال الصورة.