منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2

العرض المتطور

  1. #1
    Junior Member
    تاريخ التسجيل
    Aug 2009
    الدولة
    سوريا-دمشق
    المشاركات
    10

    الزمان والمكان في القرآن الكريم/ عدنان أبوشعر


    القرآن الكريم كتاب فريد في طريقة تعامله مع المادة التاريخية؛ فهو ينزع الحدث من سياقه التاريخي مستبعداً بذلك عنصرين هامين في الرواية التاريخية:عنصر الزمان وعنصر المكان. والغاية من وراء ذلك – والله أعلم- إحداث تفاعل بنّاء داخل وجدان المؤمن الذي يقرأ النص بعيداً عن الظلال التي تتركها أبعاد الزمان والمكان في نفسه من ناحية، وتهميش أهميتهما في نص أُريدَ به أن يكون لكل زمان ولكل مكان من ناحية أخرى.
    ولعل الآيات التي تُستهل بها سورة الروم خير شاهد وأفضل دليل لإيضاح ما نذهب إليه:

    { ألم*غُلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون * في بضع سنين} [الروم:1-3].
    لاشك أن البدء بالحروف المقطعة التي حار المفسرون في تأكيد دلالتها واختلفوا في تفسيرها[1]: (ألم)، خير ما يُستفتح به بيانٌ حربي، فكأنها جاءت هنا للفت الأنظار وشد الانتباه لتلقي أنباء بات الجميع بانتظارها. وفي خضم الجو المشحون بالترقب والاستعداد لسماع خبر السماء الحاسم تأتي مقدمة البيان الحربي من خلال آيات إيقاعُها سريع، ومقاطعها قصيرة، وبناء جملها استثنائي، لتنبه القارئ إلى استثنائية الحدث واستثنائية التعبير. فالنظم المألوف لدينا أن تأتي صياغة الخبر المراد نقله للسامع جملة واحدة:
    {ألـم }: آية للتنبيه.
    يليها آية الخبر:
    {غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون في بضع سنين}.

    لكننا نجد بأن النص القرآني أورد الخبر بجمل (آيات) ثلاث، وباتت كل جملة تضيء جانباً من الحدث وتبرز الأهمية التي يستقل بها، فتبدأ الجملة التي تلي آية التنبيه {ألم} بعنوان قصير يختصر الحدث الذي نزلَ خبرُ السماء لأجله: هزيمة أهل الكتاب أمام أهل الشرك، فتوجب التعبير عنه بجملة مستقلة:
    { غُلبت الروم }، [الروم:2].

    ثم يأتي الرد القاطع الحاسم بشارةً لأهل الكتاب وإخوانهم من المسلمين الذين شاركوهم حزنهم بتحديد (الجهة) التي تمّت بها هزيمة الرومان:
    {في أدنى الأرض..}، [الروم:3].
    إلا أنه لا يلحق هذه الجهة بالآية السابقة بل يضمها للآية رقم 3:
    { في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون }، [الروم:3].
    فكأنه يشير من طرف خفي أن مكان الهزيمة التي لحقت بالروم سيشهد واقعة أخرى تحول هزيمتهم نصراً ساحقاً.
    ويتلهف السامعون، بعد سماعهم بشارة النصر وسكب الطمأنينة في قلوبهم، لمعرفة زمن وقوع هذا النصر المبين، فيشير إلى وقوعه ضمن فترة زمنية قريبة غير محددة:
    { في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد..}، [الروم:4].
    بعد ذلك تصف الآيات اصطفافاً لا يحتمل التأويل، و(الهدف الرئيس) الذي تقرره هو إعطاء الشرعية لهذه النُصرة القلبية، وإمكان تكرارها على مدار الأيام، شريطة أن لا يطال هذا الاصطفاف مصلحة الأمة وثوابتها وانحصاره ضمن مربع المشاعر والعواطف (الاصطفاف القلبي)، وهو اصطفاف محمود إلى جانب إخوان الإيمان بالله (الجانب المسيحي البيزنطي) ضد صفوف الشرك والوثنية (الجانب الفارسي المزدكي).
    ويؤكد الاصطفاف تصوير القرآن لحالة الفرحة التي ستغمر قلوب المؤمنين حين يتم النصر في بضع سنين:
    {.. ويومئذ يفرح المؤمنون}، [الروم:4].

    إنها الطريقة القرآنية الفريدة في سرد الأحداث التي تتجاوز ما عهده الناس وألفوه في المدونات التاريخية، فرغم عدم التنويه عن زمان ومكان وقوع الحدث لا يعتري الرواية أدنى تشويش أو غموض، بل ينتقل النص سابحاً عبر ما سيلي من الزمن، مؤدياً دوره كنص متحرر من إسار الزمان والمكان، مسدلاً الستار على (الهدف الآني) الذي أدى دوره حين نزول النص، ليكتسي روحاً متجددة عبر العصور والدهور، ويستمر تفاعله مع المؤمنين حتى يرث الأرض ومن عليها، فيصبح بمقدوره بعد (تحرره) الانتقال دون تكلف ليصبح نصاً (مؤسساً) لتبيان شكل العلاقات (المستقبلية)، فيرسي قواعد ثابتة تحدد شكل العلاقات الدولية بين المسلمين وأهل الكتاب في المستقبل (علاقة الإسلام والغرب) وفق الرؤية القرآنية، وهذا هو المبرر الوحيد لتحرير النص من آنيّة أبعاد الحدث (الزمان والمكان)إلى فضاء المستقبل حيث (لا زمان يحدِّد ولا مكان يقيِّد ).

    ولعلنا نسوق مثالاً آخر يؤكد ما نذهب إليه بتطبيق قاعدة تفريغ الحدث من عنصري الزمان والمكان بدراسة ما ورد ذكره من سيرة العبد الصالح/ النبي ذي القرنين في سورة الكهف.
    إذا تتبعنا ما ورد بشأن ذي القرنين في النص القرآني نجد أن هنالك تعمداً واضحاً في عدم ذكر أسماء الأمكنة التي زارها أو توجه إليها الرجل الصالح، اللهم إلا ذكر (جهة) مساره:
    {حتى إذا بلغ مغرب الشمس[اتجاه الغرب]}، [الكهف: 86].
    {حتى إذا بلغ مطلع الشمس [اتجاه الشرق]}، [الكهف: 90].
    كذلك الأمر بالنسبة لعنصر الزمان؛ فالنص يخلو من أية إشارة تحدد زمن وقوع الأحداث تاريخياً.
    لقد كان (الهدف الآني) للآيات المتعلقة بذي القرنين تقديم البيّنة على صدق نبوّة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم حسب ما أورده ابن كثير في تفسيره[2]، ومن المنطقي أن تتوقف مهمتها عند هذا الحد ويتحول النص إلى مجرد سرد تاريخي، شأنه شأن كل النصوص التي تسرد الوقائع التاريخية في العهد القديم. لكن وبفضل طريقة القرآن الفريدة في تحرير النص من إسار عنصري الزمان والمكان، تحول النص- بالنسبة للمؤمنين – من مجرد (نص تاريخي) يسرد أحداثاً تاريخية إلى (نص مؤسس) يتعامل مع وجدان المؤمن وعقله ومسيرته عبر التاريخ، وحين يقرأ المسلم تفاصيل المادة التاريخية المتعلقة بذي القرنين في القرآن يعيش أحداث سيرة الرجل الصالح كأنها وقائع تجري أمام ناظريه؛ فيصحب ذا القرنين في ترحاله ويراقب غروب الشمس وسنن الله بمعيته، ويشارك القوم في بناء السد، لتنتهي رحلة ذي القرنين وقد استقرّ في عقله وقلبه أن استخلاف الإنسان على الأرض (أي بناء الحضارة وفق المعيار الشرعي) يقوم على قاعدة معرفة سنن الله الفاعلة أي: (قوانين التمكين):
    { إنا مكنّا له في الأرض وأتيناه من كل شيء سبباً} [الكهف:84].
    والأخذ بتلك الأسباب[3] ( أي العمل بما تقتضيه قوانين التمكين واتباعها): { فأتبع سبباً}.
    ولا بد لهذا أن يسير جنباً إلى جنب مع مسألة غاية في الأهمية: الامتثال لأوامر الله وتطبيق شرعه في الأرض:
    { قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً* وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً} [ الكهف:87-88]. وهذا هو - والله أعلم- ما يمكن أن يستفيد منه متدبرٌ لآيات الله فصلته الدهور والأيام عن أسباب النزول بسدف الزمان والمكان.

    ثم ننتقل إلى رحلة ذي القرنين الثانية باتجاه الشرق، فلا تزيدنا إلا يقيناً بأن أحد المهام الرئيسة في حياة الإنسان المستخلَف على الأرض الإبداع وفعل الخير بالمطلق لأخيه الإنسان، فهاهو ذو القرنين يمر بأناس عراة تحت وطأة الشمس اللاهبة:
    { حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراًً} [ الكهف:90].
    فتطلب منه تلك القبائل (التي لا يربطها معه دين، أو عقيدة، أو لغة، أو انتماء عرقي) أن يسدي لها معروفاً، ويصنع لها صنيعاً يحفظ أرواحها (غير المؤمنة) لتنعم بهدوء افتقدته، وسلام تاقت للعيش بأمنه وأمانه:
    { قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟}،[ الكهف:94].
    فما كان من ذي القرنين - رغم عدم فهمه للغة القوم الذين يعيشون خارج إطار الحضارة، ورغم ما بدا له من مظاهر التخلف:{ لم نجعل لهم من دونها ستراً}، ورغم عدم مبادرتهم لاتباع عقيدته أو الامتثال لشرعه، ورغم أن عرضهم كان مجرد أجر يجعل له لقاء المساعدة: { فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً}، فإننا نجد أن ذا القرنين قرر مساعدتهم والتزم بحمايتهم دون أدنى شروط أو قيود، وكأني بالتجار المسلمين الذين أبحرت مراكبهم التجارية صوب سومطرة [5] ينهجون نهجه ويتبعون طريقته المثلى في نشر الإسلام.

    أما فيما يتعلق بالفترة الزمنية الذي عاش فيها ذو القرنين فإن قداسة القرآن لا تسمح لنا باستخدام العلوم الظنية لتحديدها، ولعل أكثر ما أساء – وما يسيء- إلى قداسته ككتاب منزّل استخدام بعض المفسرين لما (يتوهمون) بأنه أدلة قطعية الثبوت والدلالة في دعم ما يذهبون إليه في تفسيرهم ليُكتشف لاحقاً بموجب التحقيق العلمي زيف ما استندوا إليه.
    وقد حضّ القرآن بأكثر من موقع على متابعة أحداث التاريخ والنظر فيها:
    {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل]، [الروم:42].
    {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، [الأنعام:11].
    {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين}، [النمل:69].
    وهي دعوة للتحري والبحث العلمي وليس للاكتفاء بما قد (خمّنه) الأولون وفق أدواتهم ووسائلهم البدائية و مصادرهم المحدودة.

    ولا بد أن يأتي اليوم الذي تُفك فيه طلاسم ما ظل مستغلقاً من أسئلة حول كل المسائل التاريخية بفضل البحث العلمي والاكتشافات التي ييسرها التقدم التكنولوجي


  2. #2
    السلام عليكم
    حقيقة وضعت يدك أستاذنا الكريم على امر ربما لم يلتفت له كثير من الباحثين وهو ان القرآن يدقم أبحاثا تاريخية ممتازة الأركان أيضا بصرف النظر عن امر القصص التاريخي...
    فسبحان الله...
    مرور عابر ولك التحية والتقدير
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. التاريخ يكتب الزمان والمكان
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-31-2019, 06:42 AM
  2. المعراج واختراق حاجز الزمان والمكان
    بواسطة حسن العجوز في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-08-2016, 03:57 AM
  3. دراسة فيلولوجية لبنية الكلمة .. عدنان أبوشعر
    بواسطة عدنان أبوشعر في المنتدى فرسان اللغة العربية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-11-2011, 05:38 AM
  4. حماس وحدود الزمان والمكان (1/2)
    بواسطة ا.د. محمد إسحاق الريفي في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-05-2010, 12:42 PM
  5. نرحب بالاستاذ/عدنان أبوشعر
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-26-2009, 04:16 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •