رد على مقولة: الإسلام انتشر بالسيف
وصلني رسالة من أخ كريم وتبعها حديث مع صديق آخر حول نفس الموضوع وكلاهما يطلب مني الرد على المقولة المزعومة (الإسلام انتشر بحد السيف) ببحث علمي موثق، ولشعوري بأهمية الموضوع بصفة عامة ولديهما بصفة خاصة وعدت لانشغالي الشديد أن أكتب أول ما أفرغ من عملي ولكن يبدو أن انشغالي سيطول لذلك آثرت أن أتفرغ للكتابة استجابة لطلبيهما الكريم وإن شاء الله أكون عند حسن ظنهما وأقدم ما يشفي غليلهما! في الواقع هذه المقولة ليست جديدة بل هي قديمة، أطلقها اليهود والنصارى في عصور الإسلام الأولى حقداً وكرهاً للإسلام لما رأوا سرعة انتشار الإسلام واعتناقه من أهل البلاد المفتوحة الذين كانوا يعتنقون نفس دياناتهم، وقد تبعهما على ذلك غيرهما من الملل الأخرى التي حمل بعض قادتها الدينيين والسياسيين الذين حطم الإسلام سلطانهم وطغيانهم وأنهى استعبادهم لشعوبهم حقداً غير طبيعي ومرضي ضد الإسلام وعقدوا العزم على تدميره بأي شكل وإن تحالفوا مع الشيطان، ولكنهم جهلوا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعد أن تشرق شمس هذا الدين على كل بقاع الأرض، وقد تناولها هذه الشبهة لأول مرة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه" الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" عليه السلام ورد عليها بحجج قاطعة وبينة! وعادة تختلف دوافع طرح تلك المقولة من زمان لآخر ومن شخص أو جماعة لأخرى وإن كان الحقد والكره للإسلام هو الدافع الثابت، فمثلاً عندما قال الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني: أن كل ما جاء به محمد هو شر وشيطاني ولا إنساني وأنه دعا الى نشر الايمان بالسيف. فقد كان على رأس امبراطورية تحتضر تحت الخطر التركي الذي استطاع الوصول الى الدانوب وأخذ بلغاريا وشمال اليونان وفي عام 1453 أي بعد وفاة مانويل بسنوات قليلة سقطت القسطنطينية (استانبول حاليا) عاصمة امبراطورية دامت ألف عام. وكان الامبراطور يحاول بكلماته حث ملوك أوروبا واستثارة حميتهم الدينية ليقوموا بشن حرب صليبية جديدة ضد الأتراك واعداً إياهم بتوحيد الكنيسة. فقد كان الهدف كان سياسياً أي تسخير الدين في خدمة السياسة. وعندما استعار نفس العبارة البابا بندكت السادس عشر عام 2008 في محاضرته في الجامعة الألمانية التي كان يشرح فيها ما أسماه الفرق الكبير بين المسيحية والإسلام، حيث قال: أن المسيحية مبنية على العقلانية والسببية بينما الإسلام يتجاهل ذلك، كما ان المسيحية ترى الحكمة في أعمال الله فان المسلم ينكر أي منطق في أفعال الرب! ولتأكيد صحة منطقه في غياب العقلانية في الإسلام ادعى أن محمداً أمر اتباعه لنشر الإسلام بالسيف! فإنه كان يدعم حملة جورج بوش الثاني الصليبية ضد ما زعمه (الفاشية الإسلامية) وحملته لمحاربة ما أسماه (الإرهاب الإسلامي)، فقد كانت كلماته تحريضاً لأتباعه ضد الإسلام ولينخرطوا في تلك الهجمة الصليبية بقيادة أمريكا للقضاء على الإسلام! ما دفع يهودي صهيوني (يوري افنري) إلى التعلق على موقف البابا بندكست السادس عشر بالقول: هذه المقولة الشريرة عن انتشار الإسلام بالسيف لا تروج إلا أثناء الحروب الكبرى ضد المسلمين في أوروبا وأن البابا الحالي رغم أنه عالم ديني يبدو أنه لم يبذل أي جهد لدراسة تاريخ الأديان الأخرى.
لماذا في خطاب عام كانت كلمات البابا؟ ولماذا الآن؟ لا يمكن أن تخرج هذه الكلمات عن سياق الحرب الصليبية الجديدة بقيادة بوش ومن يساندونه من المبشرين الإنجيليين في إعلان الحرب على الفاشية الإسلامية (بزعمهم) والحرب الكونية على الإرهاب عندما أصبح الإرهاب مرادفاً للإسلام. (ترجمة: جمال البليدي، مركز البحوث حول العولمة 26/9/2008) لذلك سنحاول الرد على تلك المقولة المزعومة بأسلوب لن يكون دفاعي لأننا لا نرى أننا أو ديننا في موضوع الاتهام، ولا نشعر بالضعف لنستجدي هذا أو نهادن ذاك أو ننافق ثالث ...إلخ، بل نحن واثقون من صحة عقيدتنا وعدالة ديننا الإلهية وقيمه وأخلاقياته التي لا يضاهيها لا دين ولا فكر في العالم أجمع، وأنه لا يوجد في تاريخنا ما يعيب فنحن نُقر ونعترف أن لدى كل الأمم أخطائها في مراحل تاريخها المختلفة ونحن منها، ولكن ديننا لا! ولا يوجد قليل أو كثير يمكن أن يثبت صحة تلك المقولة في تاريخنا وعيوب تطبيقاته من كثير من الحكام! بندأ ردنا بهذ العنوان لأهمية هذه السنة الإلهية في العلاقات البشرية بين قوى الخير وقوى الشر بالذات والتذكير بأهم السنن الإلهية في الحياة والعلاقات بين بني الإنسان القائمة على المدافعة والمغالبة والصراع التي بدونهما لا تستقيم الحياة ولا يقر فيها عدل ولا قسطاس. فالمدافعة ضرورة من ضرورات استمرار الحياة الإنسانية واستقرارها، وضرورة لدفع الخير للشر والتغلب عليه، لأن التخلي عنها والسكوت والصمت على الشر والبغي سيؤدي حتماً إلى تدمير الحياة الإنسانية الخيرة، وإلى سيادة قيم الشر والظلم والفساد والاستعباد التي لا تستقيم معها حياة الإنسان على الأرض. ذلك أن سنن الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض تقتضي منه الدفاع عن قيم الخير في وجه الشر، والحفاظ على حريات الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم في وجه الاستعباد والاستبداد من أي نوع كان. قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:25). وختم الله تعالى للآية بقوله: {وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فيه دلالة على واجب القيام بفعل المدافعة في صد الشر والظلم، واعتباره من أفضل الواجبات والطاعات لله تعالى، وأن فوز الإنسان ونجاحه في القيام بهذا الواجب هو فضل من الله عليه وعلى العالمين. كما أن الله تعالى أوضح لعباده ولأهل الرأي من الناس عامة أن في المدافعة حفظاً وصوناً للدين والعبادات وللثقافة والحضارة الإنسانية ودفعاً للإفساد الوارد في الآية السابقة، وأوجب تعالى على نفسه نصرة من يخرج مقاتلا ًومجاهداً لدفع هذا الفساد ونصرة قيم الحق والعدل والحفاظ على حرية الدين والعقيدة. قال تعالى: {لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40). ذلك هو الأصل في السنن الإلهية والعلاقات الإنسانية ولما كان الإسلام دين عالمي بُعث به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم للناس كافة كما أخبر الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28). وأن المسلمون مأمورون بالجهاد والقتال لتبليغ الدعوة الإسلامية ورسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتوصيلها للناس كافة كما أمرهم الله تعالى بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (النساء: 75). أصبح الجهاد في الإسلام ليس للدفاع ضد المعتدين كما يقول بذلك علماء السلطان والمهزومين أمام الغرب الخانعين والخائفين منه ولكنه أصبح بالمصطلح العسكري "هجومي" وفي المصطلح الفقهي "جهاد طلب" أي تنفيذ أمر الله تعالى بنشر الإسلام وتوصيله إلى الناس كافة. وقد أكد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك المفهوم الإسلامي في كثير من الأحاديث الواردة عنه ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصحيحين: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". وهل يرعب الكفار أن يقال لهم أسلموا فإن لم تسلموا فأنتم أحرار فيما تعتقدون وتفعلون أم كان يرعبهم الجهاد الذي يفتح بلدانهم أمام الدعاة المسلمين ليدعو إلى الله بحرية ويسمح لأهل تلك البلاد في الاختيار الحر للبقاء على دينهم أو الدخول في الإسلام؟! كما ورد في مسند أحمد وصحيح الجامع عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: "بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". فالهدف من القتال في الإسلام هو تخليص الناس من الظلم والقهر الذي يفرضه عليهم حكامهم والسماح لهم بالاختيار الحر بين دينهم وبين الإسلام وذلك ما اختصره ربعي بن عامر في إجابته على سؤال رستم القائد الفارسي: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله"[1]. والمتأمل لرد ربعي بن عامر يجد فيه رد على زعم أن الإسلام انتشر بالسيف فهو لم يقل لنخرج العباد من عبادة العباد ولكن قال مَنْ شاء من العباد، أي ترك لهم حرية الاختيار وليس الإكراه لأنه يعي حقيقة رسالته الإسلامية وقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} كما أن القتال لم يكن الخيار الأول أو الوحيد أمام حكام تلك البلاد وجيوشها ولكنه كان الخيار الأخير وبعد إنذارهم ثلاثة أيام فقد كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلمة كما روى البخاري ومسلم عن سَهْل بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ:لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الراية. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ.وروى مسلم(3261) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ : اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. نفهم مماسبق أن الهدف من الجهاد والحرب في الإسلام هو نشر دين الله والتمكين له في الأرض وليس إذلال واستعباد الشعوب وفرض الإسلام عليهم بالسيف أو بالقوة والإكراه، وذلك سنة إلهية في العلاقات الدولية بين الشعوب لدفه الشر بالخير وتحرير المستضعفين من ظلم حكامهم، وقد وجدت الشعوب في الإسلام ما افتقدته في غيره وما اشتاقت إليه بعد ما عانت من ألوان الظلم والقهر والاستعباد، فوجدت فيه الرحمة والتسامح والعدل الإنساني فأقبلت عليه طائعة ودخلت فيه بحرية مما حمل كثيراً من المستشرقين على الاعتراف بأن الدخول في الإسلام في البلاد المفتوحة تم عن إرادة واختيار، فقد قال أحد المستشرقين: "لم يعرف العالم فاتحاً أرحم من المسلمين". كما وصفهم بطرق القدس سنة 869 م في رسالة إلى زميله "حنا تيوس" بطرق القسطنطينية قائلاً: "إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت"[2] وذلك تصديقاً لوصف الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). معلوم عبر التاريخ أن أي محاولة لفرض فكرة أو عقيدة أو سلوك أو غيره بالقوة على جماعة من الناس تجد مقاومة ورفض، وفي حال أكرهوا عليها فإنهم سرعان ما يتخلون عنها عند أول فرصة، والمفترض أنه في حال فُرض الإسلام بالسيف على شعوب البلاد المفتوحة ألا يبقَ أحد من سكان تلك البلاد على عقيدته التي كان عليها قبل الإسلام! فما بالنا والتاريخ لم يثبت لنا أنه حدثت حركات ثورية أو مقاومة من أي نوع من سكان تلك البلاد ضد المسلمين، بل العكس التاريخ والواقع يشهدان أنه بقِ أناس في تلك البلاد المفتوحة متمسكين بعقيدتهم ولم يتحولوا عنها ولم يعتنقوا الإسلام وذلك يُكذب تلك المقولة المزعومة ويثبت أنه لم يتم إكراه أحد على اعتناق الإسلام تحت التهديد بالسيف والقتل أو التعذيب وإلا ما كان بقي أحد على دينه كما حدث مع المسلمين في محاكم التفتيش الكنسية في الأندلس بعد انتهاء حكم المسلمين فيها عام 1492، ولم يُبقِ رجال الكنيسة للمسلم إلا أن يتنصر أو يفر بدينه أو يرى أصناف من العذاب في أقبية سجون الكنائس! والتاريخ والواقع يشهد أنه لم يترك أحد من سكان البلاد التي فتحها الإسلام واعتنقوه طواعية لا إكراه عقيدته الإسلامية طوال تاريخ الإسلام وأنهم دافعوا عنها ومازالوا وسيدافعون عنها إلى أن يشاء الله ويرث الأرض ومن عليها؟! وقد فطن لهذه النقطة المهمة ويقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي عصور الفتوحات: "قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ...، ولم ينتشر القرآن إذن بالسف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها إلا عابري سبيل ما زاد عدد المسلمين على خمسين مليون نسمة فيها ...، ولم يكن القرآن اقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب فيها أي جزء منها قط"[3]. ومثله الكونت هنري دي كاستري الي سخر من فرية انتشار الإسلام بالسيف قائلاً: "ولو كان دين محمد صلى الله عليه وسلم انتشر بالعنف والإجبار للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين, مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحيه في جميع أرجاء المسكونة"[4]. وكذلك توماس كارليل في كتابه "الأبطال وعبادة البطولة" حيث يقول: "أن اتهامه –أي سيدنا محمد- بالتعويل على السيف في الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذا ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به مَنْ يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها"[5]. قول المستشرق الإنجليزي "جورج جميل" (1697 ـ 1736م) ـ وهو الذي ترجم القرآن إلى الإنجليزية: "لقد صادفت شريعة محمد ترحيبًا لا مثيل له في العالم.. وإن الذين يتخيلون أنها انتشرت بحد السيف إنما ينخدعون انخداعًا عظيمًا"!..وقول العلامة الانجليزي "سير. توماس ارنولد (1864 – 1920) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام): "إن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق.. إن نظرية العقيدة الإسلامية تلتزم التسامح وحرية الحياة الدينية لجميع أتباع الديانات الأخرى.."[6]. تلك الأقوال لغربيين مجرد عينة لشهادات كثيرة لمؤرخين ومستشرقين غير مسلمين على الانتشار السلمي للإسلام! وما لا يعلمه الكثيرين أن الإسلام لم ينتشر في البلاد المفتوحة في يوم وليلة أو سنوات قلائل كما يعتقد البعض ولكنه وقد مضى حوالي أربعة قرون حتى بلغ عدد المسلمين فيها نسبة 75% من عدد السكان!وذلك دليل أنه انتشر في تلك البلاد بطريقة طبيعية لا دخل للسيف فيها وإنما عن طريق هجرة وسكن العائلات المسلمة وسط أهل البلاد، ومن خلال المعاملة والأخلاق الحسنة التي وجدها أهل تلك البلاد من المسلمين أفراداً وحكاماً وغيرها، فالحقائق تثبت أنه في المائة عام الأولى من الهجرة كان نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة العربية كالنالي: في فارس (إيران) كان نسبة المسلمين فيها 5%، وفي العراق كانت 3%، وفي سورية 2%، وفي مصر 2%، وفي الأندلس أقل من 1%. أما السنوات التي وصلت فيها نسبة المسلمين 25% فهي كالآتي: إيران سنة 185ه، والعراق سنة 225ه، وسورة 275ه، ومصر 275ه، والأندلس 295ه. والسنوات التي وصلت فيها نسبة المسلمين 50% فهي كالآتي: بلاد فارس سنة 235ه، والعراق سنة 280ه، وسورة 330ه، ومصر 330ه، والأندلس 355ه والسنوات التي وصلت فيها نسبة المسلمين 75% فهي كالآتي: بلاد فارس سنة 280ه، والعراق سنة 320ه، وسورة 385ه، ومصر 385ه، والأندلس 400ه فهل لو كان انتشر الإسلام بالسيف كان سيأخذ كل تلك القرون حتى تصل نسبة المسلمين في تلك البلاد إلى 75%؟! الموقع الالكتروني لدار الافتاء المصرية. كما يحق لنا أن نسأل ونتحدَ أن يثبت أي مؤرخ عدم صحة تساؤلنا: هل وصل جندي مسلم واحد إلى الأراضي الإفريقية جنوب الصحراء أو مناطق كثيرة في السودان أو إلى أندونيسيا والفلبين وغيرها من الأقطار الإسلامية التي يدين أهلها منذ مئات السنين بالإسلام؟! طبعاً الإجابة القطعية هي:لا لم يصل لا جيش مسلم ولا جندي مسلم إلى تلك البلاد ولكن اعتنق أهلها الإسلام من خلال الدعاة والتجار والمعاملة والأخلاق الحسنة التي لم يجدوها في عقائدهم! أم أن الغربيين في أوروبا وأمريكا وغيرها الذين يعتنقون الإسلام كل يوم بالعشرات وعلت صيحات في الغرب تحذر من انتشار الإسلام وأنه خلال عشرات السنين سيصبح هو الدين الأول في أوروبا ويجب وقف مده، هل ينتشر الإسلام الآن أيضاً بحد السيف أو بإغراء المال والشهوات؟ أم أن أولئك الذين يعتنقونه يومياً يجدون فيه ما لم يجدوه في دينهم وفي قيم حضارتهم المادية على الرغم من قوة الغرب والترف المادي والتكنولوجي الذي يعيشونه؟! والسؤال نفسه ونطرحه على أولئك الذين مازالوا يروجون لتلك المقولة الكاذبة: في ضوء الصراع القائم في إفريقيا بين دعاة الإسلام وبين المنصرين النصارى الذين يملكون من المال والإمكانيات والدعم من تحالف قوى الشر اليهودي - الغربي بكل مؤسساته بدءً من الكنيسة إلى أقل جاهل متعصب كاره للإسلام ما لا يملكه الدعاة المسلمين الفقراء قليلي المال والإمكانيات؛ إننا نجد سرعة انتشار الإسلام بين تلك القبائل في وقت لا يقدم فيه الدعاة المسلمين لا المال ولا الوعود بالدراسة والمناصب والحضارة الغربية الفاتنة إلى درجة جعلت معها البابا السابق يوحنا الثاني الذي وعد الغرب أن يكون عام 2000 عام تنصير إفريقيا أن يستنجد بالرئيس الأمريكي ليستخدم نفوذ أمريكا المالي والسياسي للضغط على حكام الدول الإفريقية لوقف انتشار الإسلام بين القبائل الوثنية في بلدانهم؟! ترى هل الدعاة الإسلاميين جنود يحملون السف ويملكون السلطة والقوة والجبروت في أوروبا وإفريقيا ويكرهون بها القبائل على اعتناق الإسلام؟! أم أنهم كانوا يملكون السيف والقوة عندما قلدهم الغالب وهم المغلوبون خلافاً للقاعدة التي وضعها ابن خلدون في مقدمته من خلال دراسته لتاريخ الشعوب والأمم وصعود وهبوط الدول والحضارات التي تقول: أن المغلوب دائماً يقلد الغالب! وذلك في الحروب الصليبية حيث يعترف كتاب الغرب ومؤرخيه أن الصليبيين تعلموا وقلدوا المسلمين في كل شيء من الاعتقاد إلى الأخلاق إلى السلوك إلى السياسة إلى العلوم إلى اعتناق الإسلام! وأن القبيلة الذهبية المغولية التي اجتاحت بلاد الشام وعاثت فيها فساداً وهمجية انتهى بها الأمر إلى اعتناق الإسلام، ليس ذلك فحسب بل ونشرت الإسلام في مناطق في آسيا لم تصلها جيوش المسلمين! فهل انتشر الإسلام وسط أولئك الذين اعتنقوه من الصليبين والمغول وهم المنتصرون تحت تهديد السيف الإسلامي؟! كتب المؤرخ توماس أرنولد في كتابه "الدعوة للإسلام يقول: "ففي الحروب الصليبية الأولى مثلاً، انشق عن الطائفة الرئيسية من الألمان واللومباريين جماعة وحاصرهم السلطان أرسلان السلجوقي في إحدى القلاع فتركوا رفاقهم وانتقلوا إلى السلاجقة حيث اعتنقوا الإسلام". ويذكر أن عدد (المسيحيين) الذين تحولوا إلى الإسلام في مصر وحدها خمسة وعشرون ألفاً ويعلق على ذلك بقوله: "إن دخول أي (مسيحي) في الإسلام عن اقتناع صادق كان أمراً ممكنا". ترى هل اعتنقوا الإسلام تحت طائلة التهديد بالقتل أم باختيارهم وهم المنتصرون؟! وذلك ما اثار دهشة جوستاف لوبون وجعله يعترف بقوة فعل الحضارة الإسلامية في الشعوب الأخرى غالبة ومغلوبة وكيف أن الحضارة الإسلامية تؤثر فيهم وتخرجهم من همجيتهم، ويدهش أيضا من استمرار تأثير هذه الحضارة حتى بعد فقدانها لسلطانها السياسي. ويعتبر هذا دليل على عظمة الإسلام وقوته فيقول: "لا شئ يورث العجب أكثر من انتصار حضارة العرب الإسلامية على همجية جميع الغزاة، ومن تخرج من هؤلاء الغزاة من فورهم على مدرسة العرب المغلوبة فقد دام عمل العرب الحضاري إلى ما بعد زوال سلطانهم السياسي بزمن طويل"[7].ويعترف ول ديوارنت أن ذلك راجع إلى برقي الحضارة الإسلامية فيقول: "وهكذا تثبت الحضارة الإسلامية أنها الأرقى مقارنة بالحضارة (المسيحية) وهذا الرقي شمل جميع الجوانب الإنسانية والحرية"[8]. الإسلام انتشر بالأخلاق لا السيف
لم تكن عدالة ورحمة المسلمين المبرر الوحيد لاعتناق أهل البلاد المفتوحة الإسلام كما يقول المؤرخ الأميركي هيو كينيدي في كتاب "الفتوح العربية الكبرى.. كيف غير انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه" - وآخرين طبعاً قالوا ذلك-، وإنما لابد من معرفة أن فكرة الغزو كانت غير مستغربة على الشعوب في هذا العصر وكان الغازي يخرج من أرض ليحل محله آخر، وكانت الشعوب ينحصر تفكيرها في معرفة هل الغازي الجديد سيفرض أعباء اجتماعية واقتصادية أكبر أم أقل فقط. ويضرب مثال بحالة مصر وأن الشعب كان يقع تحت ضغط شديد جداً من الكنيسة الرومية الأرثوذكسية البيزنطية فكان البابا المصري بنيامين هارباً في مغاور الجبال والصعيد، وأخو بنيامين قتل سحلاً بالخيل علي أيدي البيزنطيين في الإسكندرية وعدد كبير جداً من الأقباط الأرثوذكس قتلوا أو سحلوا وعدد كبير جداً من كنائسهم وأموالهم صودرت، لذلك عندما دخل المسلمون ساعدهم المسيحيون. حتى أن البابا بنيامين قال «الرب شاء أن أبناء اسماعيل "المسلمين" ينتصرون وطلب من الأقباط المسيحيين أن يساعدوا المسلمين". وهذا التحالف هو الذي حفظ الكنيسة الأرثوذكسية والكرازة المرقسية في مصر لأنه لو ظل الرومان في مصر لاستمر قضاؤهم علي زعامات الكنيسة المصرية المرقسية ومصادرة أملاكها. ومن أهم النقاط التي بينها هيو كينيدي في كتابه أن المسلمين لم يطلبوا أبداً من السكان أن يعتنقوا دينهم قهرا أو إكراهاً.ومسألة أخرى مهمة أنه تحت الحكم الروماني مثلاً كان جميع من لا يحملون الحقوق المدنية الرومانية من أهل البلاد المحتلة مجرد رعايا ليس لهم أي امتيازات لكن المسلمين فعلوا شيئاً مهماً جداً هو المساواة والعدل بين أصحاب الأرض وبين الجيش الفاتح ،وحينما تدخل الإسلام تصبح مساوياً لجميع من حولك وأصبحت الأجيال الأولى من الذين اعتنقوا الإسلام بإمكانهم الارتقاء في مناصب عليا ودخول الجيش، وهذا أيضاً تسبب في سرعة انتشار الإسلام[9]. وقد قيل إن الإمبراطور الروماني جستنيان (483 ـ 565م) أمر بقتل مائتي ألف من القبط في مدينة الإسكندرية، وإن اضطهادات خلفائه قد حملت كثيرين إلى الالتجاء إلى الصحراء[10]. كما يذكر توماس أرنولد عن عالم (مسيحي) هو "كيتاني" قوله: إن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية إنما كان نتيجة شعور باستياء من السفسطة المذهبية، التي جلبتها الروح الهيلينية إلى اللاهوت المسيحي، لأنها أحالت تعاليم المسيح البسيطة السامية، إلى عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، مما أدى إلى خلق شعور من اليأس، بل إلى زعزعة أصول العقيدة الدينية ذاتها. فلما أهلت آخر الأمر أنباء الوحي المحمدي من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية، التي اختلطت بالغش والزيف، وتمزقت بفعل الانقسامات الداخلية، وتزعزعت قواعدها الأساسية، واستولى على رجالها اليأس والقنوط، من مثل هذه الريب، لم تعد المسيحية بعد ذلك قادرة على مقاومة إغراء هذا الدين الجديد البداية[11]. إذن وجد أهل البلاد المفتوحة في الإسلام ومن المسلمين ما لم يجدوه في ما أديانهم ومن أبناء دينهم من الخلق الكريم وحسن المعاملة والرحمة والعدل والتزام بالعهود والوعود والإحسان إليهم وصون ممتلكاتهم ودور عبادتهم وغيرها ذلك، تنفيذاً والتزاماً منهم بأخلاق وتشريعات ومواثيق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل الكتاب عند مصالحتهم ودخولهم في عهد الإسلام وذمته، حيث تعهد بإعانتهم على ترميم كنائسهم وبيوت عبادتهم من بيت مال المسلمين في حال عجزوا عن ذلك، وإعالة فقرائهم ومحتاجيهم ومرضاهم والإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين، أو في أحاديثه وتحذيره للمسلمين من أذيتهم أو سوء معاملتهم. وعلى نهجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صار الخلفاء الراشدون وكل حكام المسلمين من بعدهم، ولا أحد ينسى عهد عمر بن الخطاب لنصارى القدس عند فتحها ورفضه الصلاة في كنيستهم، وعهد الفاتحين المسلمين لنصارى مصر وما بعثوه من أمن للمشردين والخائفين والإفراج عن المسجونين من بطاركتهم وقساوستهم أيام حكم الرومان، وردهم عليهم كنائسهم التي سبق أن أخذها الرومان منهم. أمثلة على سبيل المثال لا الحصر
وإذا ما توقفنا مع ما قاله المؤرخ الأميركي هيو كينيدي: أن فكرة الغزو كانت غير مستغربة على الشعوب في هذا العصر وكان الغازي يخرج من أرض ليحل محله آخر، وكانت الشعوب ينحصر تفكيرها في معرفة هل الغازي الجديد سيفرض أعباء اجتماعية واقتصادية أكبر أم أقل فقط. يمكننا القول: أن الممارسة والتطبيق الصادق والعادل لتعاليم وأحكام الإٍسلام وزهد المسلمين في الدنيا ومغانمها أثناء الحرب والسلم كان له أكبر الأثر في إقبال أهل تلك البلاد على اعتناق الإسلام. كان المسلمون يأخذون الجزية مقابل إعفاء غير المسلمين من الجيش والخدمة العسكرية وتوفير الأمن والحماية لهم، وفي حال عجزهم عن ذلك لا يأخذوها. وقد ذكر القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج ": لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم، وحسن السيرة فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم – أي المسلمين – بأن الروم قد جمعوا جمعاً لم يُر مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير، الذي خلفه أبو عبيدة بن الجراح عليهم، فأخبروه بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها، يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي من الجزية والخراج. وقد رد خالد بن الوليد لأهل حمص ما أخذه من جزية منهم وكذلك فعل أبو عبيدة بن الجراح ورد لأهل دمشق جزيتهم. وكان في ذلك دلالة عظيمة لأهل تلك البلاد أن المال لم يكن يشكل أي هدف للفاتحين المسلمين كما كان يشكله للمحتلين الرومان والفرس من أهل دينهم ووطنهم! كما أنه لم يكن هم المسلمين فتح البلاد بأي وسيلة ولا تبرر الغاية لديهم الوسيلة وإنما كان هدفهم التمكين لنشر الإسلام بالتزام مبادئ وأخلاق الإسلام نفسه! وفيما حدث مع القائد قتيبة بن مسلم الباهلي أحد قواد المسلمين الذين كانوا يقودون فتح بلاد ما وراء النهر عبرة عظيمة، فقد دخل صفد من أعمال سمرقند وهو يغزو ويقاتل أهلها بدون تخييرهم بين الأمور الثلاثة (الإسلام أو الجزية أو القتال) فشكوا إلى عمر بن عبد العزيز، وقالوا: ظلمنا قتيبة وغدر بنا فأخذ بلادنا، وطلبوا أن يؤذن لهم ليقدموا على أمير المؤمنين ويبسطوا قضيتهم. فأذن لهم. ولما علم شكواهم كتب إلى واليه: إن أهل سمرقند شكوا ظلماً وتحاملاً من قتيبة عليهم، حتى أخرجهم من أرضهم. فإذا أتاك كتابي، فأجلس إليهم القاضي، فلينظر في أمرهم. فإن قضى لهم، فأخرج العرب إلى معسكرهم قبل أن يظهر عليهم قتيبة. فأجلس الوالي لهم القاضي، فقضى أن يخرج العرب إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا، أو ظفراً عن عنوة. فقال أهل الصفد من سمرقند: بل نرضى بما كان ولا نحدث.[12] وعندما رأى عمر أحد الشيوخ يستطعم الناس (يتسول) على أبواب المساجد فاستغرب أن يكون بين المسلمين مَنْ يتسول، فذلك يعني أن الدولة لم تؤدي له حقه! وعندما قيل له: هذا رجل من أهل الذمة كَبُر وضعف يسأل الناس ليدفع الجزية, وضع عنه وعن ضربائه الجزية، وأرسل إلى خازن بيت مال المسلمين فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب! وقولته هذه بيان إسلامي عالمي في معنى المواطنة ومسئولية الدولة الإسلامية عن المساواة بين كل مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو عرقهم ماداموا قبلوا بعهد المسلمين لهم بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولم يخونوهم أو يتآمروا عليهم! وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله! وقصة إعطاء شرحبيل بن حسنة الرهبان من أموال الزكاة مشهورة في التاريخ. بمفهوم العصر وفر لهم حياة كريمة وهم أهل ذمة، أقليات! وقصة عبادة بن الصامت الذي دعا نبطياً يمسك له دابته عند بيت المقدس فأبى, فضربه فشجه, فشكاه لعمر بن الخطاب, فأمره بالجلوس ليقتص منه النبطي الذي قبل بالدية. أما قصة القبطي الذي قدم المدينة على عمر بن الخطاب شاكياً بأنه تسابق هو وابن عمرو بن العاص والي مصر فسبقه فقام بضربه وقال له: أتسبق ابن الأكرمين؟! فاستضافهما عمر وأرسل إلى عمرو بن العاص وابنه وعندما حضرا قال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! وقال للقبطي اضرب ابن الأكرمين!. وقصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما احتكم إلى القاضي شريح مع خصمه اليهودي سارق الذي سرق درعه ووناداه القاضي بعلي بدون لقب وطلب منه أن يجلس بجوار خصمه على الأرض دون تمييز وسأله: هل لديك بينة على أن الدرع التي لدى اليهودي هي درعك؟ فأجاب بالنفي. فحكم القاضي شريح بالدرع لليهودي. ولم يعترض علي وهو أمير المؤمنين وأذعن للحكم! تلك مقولة مردودة على أصحابها ومروجيها ولا يروجها ولا يقول بها إلا حاقد كاره للإسلام أو جاهل بالإسلام أو أناس اعتنقوا التقليد عن جهل لغيرهم وترديد ما يقولون دون البحث في صحته من خطأه! إن الإسلام هو دين الرحمة والعدل الإنساني الحقيقي الذي لمسه ويلمسه الناس في كل العصور والأزمان عندما يحكم أهله في أجواء من الحرية، الإسلام هو العقيدة التي تناسب الفطرة السوية لا المنحرفة والذي يجيب على كل الأسئلة المحيرة التي ليس لها إجابات في عقائد مخالفيه المحرفة التي لا تقوم على العقل والمنطق وإنما على الخرافة والأسطورة المخالفة للعقل والمنطق والعلم والواقع! الإسلام منح أهل البلاد المفتوحة الحرية الحقيقية وحررهم من العبودية لكسرى وقيصر وأقام العدل والمساواة بينهم على أسس أخلاقية هي ثمرة حضارة الإسلام وخلاصة وجوهر عقيدته الإلهية الحقة! لقد كان لسلوك المسلمين وتطبيقهم أحكام الإسلام وترجمتها إلى قيم أخلاقية واقعية ملموسة في حال السلم والحرب الأثر الأكبر في جذبت أهل تلك البلاد لاعتناق الإسلام بسرعة فائقة كما هو الحال الآن في الغرب وفي إفريقيا وغيرهما من دول العالم لا القوة والإكراه والسيف! وإن كان العربي قبل الإسلام لم ينظر أو يحدد موقف مسبق من أي من الأجناس البشرية سواء أقل منه درجة أو أعلى منه فإنه بعد الإسلام أصبح أكثر احتراماً لجميع الأجناس البشرية وتعامل معها على أساس الأصل القرآني في نظرته لبني أدمن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70)، ومن هذا الموقف القرآني كان يرسل بعض الخلفاء المسلمين لعمالهم على الأمصار يُوصوهم خيراً برعاياهم من المسلمين وغير المسلمين؛ بمثل قولهم: أنك ستجد لك أخاً في الدين أو نظير في الخلق (شقيق في الإنسانية يقصد أهل الكتاب) ويأمرنهم أن يتقوا الله فيهم وأن يحسنوا معاملتهم دون أن يميزوا بين مسلمين وأهل كتاب! فجميع البشر إخوة سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين في نظر الإسلام وتطبيقاته، وإن كانوا شركاء جميعاً في الحقوق العامة؛ إلا أنهم يختلفون في الحقوق الخاصة التي تفرضها عليهم تعاليم الدين. وبناء على هذا الأصل القرآني أرسى الإسلام دعائم علاقات إنسانية بين جميع الشعوب والديانات والطوائف التي حكمها؛ تقوم على أساس من الاحترام والتعايش السلمي، والتلاقي والتلاقح الثقافي بين حضاراتها المختلفة، ولم يؤمن يوماً بنظرية تفوق جنس بشري بعينه على جنس بشري آخر، أو شرعية استئصال جنس بشري لجنس بشري آخر، كما هو حال الغرب في نظرته لنفسه وللآخر، لذلك إذا ما بحثت في التاريخ الإسلامي ستجد أن جميع الملل والنحل والأجناس التي حكمها الإسلام شاركت في كتابة ذلك التاريخ، كل على قدر جهده وعلمه وإبداعه. ذلك ما دعا هنرب دي شامبون ليقول تحت عنوان "الانتصار الهمجي على العرب" لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على العرب في فرنسا في معركة "تور" -بلاط الشهداء- على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي لما وقعت فرنسا في ظلمات العصور الوسطى ولما أصيبت بفظائعها ولما كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني ولولا ذلك الانتصار البربري لنجت أسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولما تأخر سير المدنية ثمانية قرون. ويقول أناتول فرانس إن أفظع سنة في تأريخ فرنسا هي سنة 732 وهي السنة التي حدثت فيها معركة بواتيه التي انهزمت فيها الحضارة العربية أمام البربرية الإفرنجية ويقول أيضاً "ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي فإن انتصاره أخر المدنية عدة قرون"! وبعد: لا يقول قائل بتلك المقولة إلا عنادأً واستكباراً وعداءً لله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحقداً وكرهاً للإسلام. التاريخ:1/11/2013
[1] البداية والنهاية لابن كثير، 7/32-33.
[2] الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية،ج1، ص 30.
[3] حضارة الإسلام لجستاف لوبون ص 128-129.
[4] الكونت هنري دي كاستري : الإسلام خواطر وسوانح، ص 131.
[5] حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد، ص 166.
[6] االدين والحياة، من مقالة بعنوان: "الرد القاطع علي شبهة انتشار الإسلام بالسيف09/10/2012.أعلى النموذجأسفل النم
[7] لورانس العرب، ص 82.
[8] رياض عبد الله أبو راس، أسامة بن منقذ شاعرا، ص 32.
[9] من مقابلة مع المؤرخ المصري عبده قاسم مع صحيفة "النهار" المصرية.
[10] والحياة، من مقالة بعنوان: "الرد القاطع علي شبهة انتشار الإسلام بالسيف".
[11] شبابنا وقضايا دينهم، عبد المنعم النمر، ص 106.
[12] نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، ص: 30، نقلا عن: الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج5 ص22.